17 دقائق للقراءة
سنة 2007 أنهيت تأليف كتاب “البرهان” رغم أني عكفت في السنين الموالية ولم أزل على الإضافة والتعديل والتطوير، وضمن هذا العمل الموسوعي في العلم والقرآن خصصت فصلا للوهم، وقسّمته إلى ثلاثة أقسام:
1/ الوهم حقيقة.
2/ الحقيقة التي تُتّخذ وهما.
3/ الوهم الذي يُتّخذ حقيقة.
وحين نُنزّل هذا على المنحى الديني مثلا، فإن الاعتقاد بوجود خالق غير الله، وأن الوجود محض مصادفة، هو (وهم خالص)، والمعتقد فيه يرى ذلك الوهم حقيقة فيتخذ الأصنام والأفلاك أربابا أو يتكلّم عن أن الخلق تطوّر ومصادفة من مجرّد العدم دون خالق مدبّر، في حين يبدو له الإيمان بالله الواحد البارئ مجرّد وهم وهو حقيقة خالصة.
وقد كان لدخولي عالم فنون الننجا شينوبي وعلوم الطاقة والتنويم المغناطيسي دور كبير في اكتشاف فنون الوهم والإيهام والتنويم والتخاطر والإيحاء، كما أن دراساتي عن صنوف السحر – ما بينته في كتابي السرّ الحرام وأيضا في البرهان – أوصلتني لوجود نمط منهم يعتمد على الوهم – وهو نمط مستخدم في فنون الننجا أيضا ولئن كان بطرائق مختلفة. وهذا النمط هو ما أسميته “السّحر التخييلي، ومثاله في القرآن خبر النبي موسى عليه السلام مع سحرة فرعون: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) – طه-.
فرؤية العصي والحبال تتحرك هو وهم بدا كأنه حقيقة وصّدقه النبي موسى وهو من هو: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) -طه- .
بل وأثّر ذلك في عيون الناس جميعا: ” فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)” – الأعراف-.
وهو ما تجده اليوم في أمور عديدة فحالة الهياج والجنون التي تصيب الشباب في حفلات الميتاليكا مثلا والتي تندرج موسيقاها ضمن عبدة الشيطان هي نوع من الوهم القوي الذي يسحر عقول الناس ويسلب ألبابهم.
وطبيعي أن الذي يعتقد أن كل السحر هو ذلك التخييل والإيهام فقط يجهل حقيقة هذه الآفة المدمرة للحضارة والمنتشرة بشكل غير عادي في العالم العربي لفراغ في الروح ويأس من الواقع وعوامل أخرى كثيرة. وحين ننظر في سيرة هاري هوديني أمهر سحرة أمريكا، ومن كان بعده من المتأثرين به والذين فاقوه من أمثال دافيد كوبرفيلد ودافيد بلاين وصولا لكريس أنجل فإنهم جميعا يعرّفون أنفسهم على أنهم صانعوا وهم Illusionist. ودون تدقيق علمي فيما يقومون به والذي لا يخرج عن سحر الفودو والكابالا اليهودي (ينخرط فيه عدد كبير من مشاهير العالم وسياسييه) وما بعده من فنون السحر الأسود، ودون مناقشة لما يقدّمونه في برامج أخرى تتبعهم من تبريرات يودون من خلالها إقناع الناس أن ما يقومون به نوع من الخدع البصرية حتى لو كان إخفاء تمثال الحرية وإخفاء قطار كامل والعبور من خلال سور الصين – كما فعل دافيد كوبرفيلد. أو إلقاء منديل من فوق بناية وبلوغ الأرض قبله والطيران في الهواء والمشي فوق الماء كما فعل كريس أنجل وفعل سواه من السحرة الذين تكاثروا بشكل كبير في كامل أرجاء العالم وغزوا الشاشات التلفزيونية وأتوا بكل عجيب غريب، دون أن ننفي وجود الخدع البصرية وفنون الوهم ضمن حدود طبعا، أما ما تجاوز ذلك فهو سحر فعلي له منطلقاته وتفسيراته وليس هذا سياقها
وعن الوهم المتصل بالسحر والسحر الموصول بالوهم وما يتجاوزه ظهرت أفلام كثيرة من أشهرها فلم The Illusionist وسلسلة أفلام هاري بوتر الشهيرة….
تحت هذا الإطار يكون المنطلق لدخول عوالم الوهم، ولكن للوهم أطر أخرى أكبر وأعمق وأخطر، إذ أن الوهم – تلك القوة الغامضة التي تختفي خلف ظلال الخيال ولكن قد تتلبّس كل أشكال الواقع، له حضور مكثف في حياة البشر – حياتنا التي تعشش فيها الأوهام من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم. والوهم يفرض نفسه علينا حينا، وأحيانا نحن نستدعيه، وللوهم ملذّاته الكبيرة، وله قدرة على إخراج العاجز من عجزه بمنحه وهم القوة، والخاسر بمنحه وهم الانتصار…وغير هذا كثير…وهذا منطلق لسؤال بسيط التركيب معقد المعنى خطير المؤدّى: هل يمكن لمن فهم الوهم وطبيعته ودوره في حياة البشر أن يتحكّم فيه ويبنيه ليسجن من أراد ضمنه؟
إن الناظر للتاريخ يرى كيف أدارت أيدي الماكرين كؤوس الأوهام بين دهماء الناس حتى أمسوا سكارى بالوهم لا يستيقظون لحقيقة ولا يلتفتون لحق، أو ربما مزجوا حقا بباطل وحقيقة بوهم. ومن خلال ما تمكن الإنسان المعاصر من فهمه عن الإنسان وعقله وإمكانات برمجته، مما نتج عنه علوم كثيرة كعلم البرمجة العصبية اللغوية وعلوم باراسيكولوجيا النفس والعقل التي عكفت مخابرات الولايات المتحدة ومخابرات الاتحاد السوفييتي على الغوص فيها في سباق قوي لغزو أعماق العقل الباطن والتحكم فيها.
حين تمعن النظر جيدا في ما يحيط بك سوف تتمكن من رؤية الكثير من الأوهام الماثلة أمامك، خذ الإشهار مثلا: فهو إيهام وإيحاء وتنويم ذكي يوحي بصورة ليست بالضرورة حقيقية وواقعية، وتُدمج المرأة بأنوثتها وجمالها في ذلك حتى يكون التأثير أكبر حتى لو كان للإشهار لدبابة مما تراه في معارض الأسلحة حيث تقف الفتاة شبه عارية تبتسم فوق دبابة تحمل الموت بكل بشاعته الطاغية. وحتى السينما والمسلسلات فلها أثر كبير على العقول وعلى الناس فتتحكم في أذواقهم ويكون خلف المسلسل الناجح ملابس وأكلات ومحلات تفتح حاملة اسم البطل أو المسلسل وليس بعيدا عنكم نموذج “حريم السلطان” الذي حملت صوره واسمه محلات ملابس كثيرة وصارت مصانع تنتج ملابس من شاكلة الموجود في المسلسل أو تستوردها من تركيا بل بلغ الأثر على الفن والغناء وغيره. أو مسلسل كاسندرا المكسيكي وأثره الكبير على الناس حتى كان كل شيء يتعطل تقريبا عند بثّه ويقف الناس مشدوهين بكيهم مشهد ويضحكهم آخر ويتفاعلون مع الأمر كأنه حقيقة ماثلة.
وبالرجوع لمسلسل حريم السلطان فمشهد قتل الأمير مصطفى أبكى ملايين العيون عبر العالم، لكن مصطفى الحقيقي لم يبك عليه أحد، وقد كنت كتبت من قبل عن الأعين التي تبكي على بطل المسلسل ولا تبكي على آلاف القتلى في الشام والعراق وغيرهما…وهنا يكون استبدال الواقع الفعلي بواقع وهمي أمرا ظاهرا جليا. وكل ذلك يكون ضمن ما أسميته: نظرية بناء الوهم.
لا يختصر الأمر عند هذا الحد، فكل شيء تداخل معه الوهم: المواقع الافتراضية التي سيطرت على العقول والقلوب، وقد تم تصنيف مرض نفسي جديد هو الهوس بالانترنت، بعد أن مات شاب صيني لأنه مكث يومين في موقع يعطي حياة افتراضية بكل تفاصيلها، وهذا النوع من الاستلاب تجده أيضا في ألعاب الفيديو، فالطفل يجري ويقاتل ويبني داخل اللعبة، ويكون عادة خاملا قليل الحركة، ويجد الشجاعة في العالم الافتراضي وهو يخاف من القطة في الحقيقة، وقد سبب الإدمان على هذه الألعاب مع بعض أنواع الصور المتحركة المبرمجة بأصوات مركّبة وصور مشوّهة وحادة الخطوط يُقصد منها إتلاف نفس الطفل خدمة لمشروع معيّن، سبب ذلك انتشار أمراض التوحّد والسمنة والضمور الحركي أو الافراط الحركي وهذا باب لعلم الطاقة الحيوية والعلاج الطاقي والمغناطيسيات – منها التنويم المغناطيسي – وبحوثي فيه التي قادتني عبر تجارب العلاج الكثيرة وخاصة لبعض الأطفال إلى اكتشاف حقائق مرعبة حول تلك البرمجيات وأعتقد أن جيل الدواعش اليوم تلقى ضمن ما تلقاه جرعات من تلك البرمجة الدقيقة الماكرة. وأنت تجد ألعاب قتل يقتل فيها الشاب في مدينة بغداد مثلا بدم بارد وهو يبتسم لقتل نفسه وأشقائه، وقد برمجت داعش ألعابا شبيهة فيها مثلا عملية إرهابية في الشاطئ تم تطبيقها حرفيا في عملية سوسة الإرهابية.
وإن خطورة تلك المقدرات الوهمية تقع ضمن قاعدة بينتها في بحثي عن الوهم ضمن البرهان: (القادر في عالم الوهم عاجز في عالم الحقيقة). فالكذاب يمكنه فعل كل شيء بوهمه وهو أعجز عن فعل شيء في الواقع، وألعاب الفيديو تمنح الطفل والشاب قدرات وهمية معاكسة لواقعه، وببعض البرمجة يمكن أخذه إلى حتفه بسهولة.
لنرجع إلى المسلسلات والبرمجة ضمن نظرية بناء الوهم: مسلسل عمر تحديدا، وهو في اعتقادي من أخطر المسلسلات رغم أن الأمر كانت له مقدمات مقصودة وأخرى عفوية في مسلسلات كثيرة سابقة له.
ضمن هذا المسلسل تم تجسيد الصحابة جميعا، وثمة مشهد حللته وفق منهج علمي ووفق علم تحليل الصورة والتفكيك البرمجي للحركة المشهدية وغاياتها، وهو مشهد قتل خالد بن الوليد – المزيّف- لمسيلمة وضربه بالسيف مع التكبير ثم الدم المتناثر على لحيته، ومظاهر السرور على وجوه الصحابة – المزيفين- ويمكن أن يلاحظ صاحب النظر أن تلك الملابس هي ذاتها التي يلبسها قادة من داعش، وحين يقومون بذبح وقطع رأس جندي سوري مثلا يتردد التكبير وتعم البهجة من حوله، بل بلغ الأمر لقيام طفل بذلك، لأنه يقتل مسيلمة آخر، وينفّذ امر الله، يقتل كأنه يقوم بلعبة فيديو، ويبعث السرور في قلب الصحابة الجدد من حوله.
لنقم بنظرة بسيطة: خالد بن الوليد المزيف بطل المسلسل يلبس لباسا ويتكلم بكلام ويقتل مسيلمة المزيف، يأتي قائد من النصرة ويكوّن كتبية خالد بن الوليد، ويرتدي زيّا شبيها بخالد بن الوليد المزيّف في المسلسل، ويرى في باطنه أنه خالد بن الوليد الجديد وأنه سيف الله المسلول الثاني، ولكنّه يمضي ويفجّر مقام خالد بن الوليد الحقيقي في حمص تحت وابل من التكبير والتهليل والابتهاج لتحطيم الوثن، ولو كان خالد الحقيقي بينهم وكلّمهم لقتلوه..وهنا وجه من أعقد وأقوى أوجه نظرية بناء الوهم..وطبيعي أن ذلك مدعوم بالوهم العقائدي والإيهام الوظيفي أي يوهمه أن وظيفته هي أن يكون على خطى النبي وأصحابه وأن ينشر كلمة التوحيد ويحمل راية الخلافة ويقتل أعداء الله وينال الجنة وآلاف الحوريات دفعة واحدة. ثم لا ننسى برمجيات أخرى أعقد وصولا للمخدرات وحبوب الكابتاغون الشهيرة. والتي تبني الوهم بقوة حيث تنزع الخوف والألم وتمنح قوة وهمية فتاكة بصاحبها ومن حوله، ومثلا الرزقي مرتكب مجزرة سوسة كان يقتل وهو في نشوة كاملة، إنه اكتمال لبناء الوهم الذي يصبح أحق الحقائق ومن المحال إخراج الضحية منه إلا بقتله الذي يسعى إليه ويطلبه إن لم يفخخ جسده ويفجّره.
وهكذا يمكن القياس: طبيعة الحياة الوهمية وما فيها من تقاعس أو تكالب على الشهوات والمال والسلطان، وجموع المأدلجين والمدمغجين الذين يمكن أن يحرق أوطانهم لأجل كلمات دجال يعدهم ببلوغ الحرية واستعادة الحق وبالنماء والرخاء…وهنا ألا يكون الربيع العربي وهما كبيرا سقط فيه الملايين وخربوا أوطانهم بأيديهم؟ أليس ضحايا الوهم من الشباب العربي بالآلاف قاتلين إرهابيين أو مقتولين ضمن الإرهاب أو بيد الإرهاب والفوضى؟؟
حدثني صديق لي أنه وجد جدّته تصلي باكية في أحد ليالي رمضان، قال فظننتها تسأل الله الجنة، او تفتقد أحبابها الذين فارقوا الدنيا، أو تبكي لهم أصابها، فسألتها: لماذا كنت تبكين وماذا كنت تطلبين من الله، فأجابته والدموع في عينيها: كنت أدعو ربي أن يجمع بين “مهنّد” و”ونور”…أجل أيها السادة الكرام: إنهما بطلا المسلسل التركي وقد تسببا في مئات حالات الطلاق لرجال غلب زوجاتهم عشق مهنّد…
ضمن نظرية بناء الوهم أمور كثيرة متصلة في شبكة معقدة في ظاهرها لكن يمكن لمن دقق النظر وكان ذا بصيرة أن يفكّكها، ولابد أن نفهم قيمة الإعلام السيء في بناء هذا الوهم، إذ أنه يمتلك ما لم يكن سحرة فرعون يحلمون به أو يتصوّرون وجوده: قدرة فائقة على سلب العقول وسحر الأذهان وتخديرها والتأثير في الأنفس والقلوب والتلاعب بالذوات والحقائق وتلميع الباطل وتنشيع الحق وتزيين الباطل وتزييف الحق. وأقرب النماذج شيوخ التكفير حين تكلموا عن الملائكة التي تتنزل على مخربي سوريا – الثوار والمجاهدين بزعمهم – وعن “الحور التي تنتظر من ينفر في سبيل الله”، وظلوا يبنون الأوهام ويخدّرون الشباب حتى سقط في حبائلهم الآلاف الذين مضوا لحتفهم في حين يدرس أبناء أولئك الشيوخ في أرقى جامعات أوروبا والولايات المتحدة. وشيوخ جهنم هؤلاء مكثوا يعملون سنينا عبر شاشات معروفة حتى غرسوا أشواكهم السامة عميقا في عقول الشباب الباحث عما يملأ به خواءه الروحي وجهله العقائدي، وهي أشواك تتخذ شكل أجمل الزهور وأرقها، إنه السم الزعاف في العسل المصفى، تقنية فريدة في بناء الوهم.
وهنالك كتب تساهم في تلك الدمغجة وبناء جدران الوهم، وللكتاب خطورة كبرى لأنه ينفذ إلى أعماق الذات في حال من الهدوء والصمت الذي تفرضه القراءة، وعليه وجب الانتباه للكتب لأن كتابا جيدا يمكن أن يبني إنسانا أما كتاب فاسد المحتوى فيمكن أن يخرّب مجتمعا كاملا. فالكتاب أقوى منوّم مغناطيسي.
وبالرجوع للتنويم المغناطيسي والسحر التخييلي وسحرة فرعون، أذكر أني في سنيّ الجامعة قد قرأت كتابا رائعا اسمه Traité sur l’hypnotisme بيّن فيه كاتبه حضور الإيحاء التنويمي المكثف في حياة الناس وأعطى نموذج تأثير هتلر وموسوليني على أتباعهم وجنودهم بقوة تنويم رهيبة ومقدرة عالية على تخدير العقول تجاوزت فعل سحرة فرعون، لدرجة تصل إلى الموت المتفاني، وإلى حرب عالمية هددت الوجود البشري برمّته وأودت بحياة خمسين مليون إنسان بخلاف الجرحى والمشردين وخراب دول بأكملها، وما يجري اليوم يمضي ضمن نفس النسق ولكن ببرمجيات أكثر تعقيدا وهو حريق قد يوصل لحرب عالمية ثالثة أو لظهور تنظيمات إرهابية تهدد العالم كله وتكون داعش حلقة ارتكاز مهمة لها وهي تهدد فعليا وحاليا الوجود العربي حاضرا وتاريخا ومستقبلا (ليس تحطيم متحف الموصل ومدينة نمرود وغيرها مجرد تسلية)…
هذا قد يكشف لك بعض وجوه “قوة الوهم” المدمرة التي تغسل العقول وتسيطر على الأنفس، وهنالك صنوف أخرى من بينها ما يتعلق بعبدة الشيطان، وليست عبادة الشيطان أمرا جديدا في التاريخ البشري بل له جذور عميقة جدا، ولكنه شهد تطويرا كبيرا مثّله الأمريكي Anton LaVey صاحب كتاب الإنجيل الأسود أو الإنجيل الشيطاني الذي ألفه سنة 1969 وكان موسيقيا وله ترجع أنماط موسيقى الشيطان وهو مؤسس جماعة عبدة الشيطان التي ينتمي إليها عدد كبير من الشخصيات المشهورة في العالم من أمثال المغنية مادونا ولها أغنية في خلفيتها تمجيد للشيطان ضمن تصميم موسيقي معقد، ويتخذ أصحابها هيئة محددة ولهم طقوس يقومون بها وهذا ضرب في الشباب العربي بقوة ولهم أماكن يلتقون فيها وملابس وهيئة مخصوصة ووجودهم في تونس مثلا أو في مصر كبير (لأني درست ذلك في هذين البلدين) ويستمعون لموسيقى خاصة وينتشر بينهم الشذوذ والجنس المجماعي وشرب الدم – دم القطط السوداء تحديدا – رغم وجود نماذج تم إيقافها في العالم مارست شرب الدم البشري وطقوسا أخرى تتعلق بالموت أترفّع عن ذكرها لسوئها وحقارتها. فحضور الوهم لديهم حضور قوي وفتاك، ولعل القارئ يذكر جيم جونس القريب من عبدة الشيطان، ومعبده في مزرعة “جونز تاون Jonestown ” التي كانت مركزا لطائفة دينية غريبة الأطوار عرفت باسم “كنيسة الشّعب Peoples Temple ” حيث قام تسعمائة إنسان بالانتحار الجماعي بتاريخ 18 نوفمبر 1978،في أكبر عملية انتحار جماعية في التاريخ، فاجعة صدمت أمريكا والعالم ورسمت ملامح الحيرة والذهول، وكل هذا ضمن بناء الوهم والوقوع فيه مع الشيطنة والفساد العقائدي والطقوس الإبليسية والخضوع لحالات نوم مغناطيسي Transe عميقة لا يمكن مغادرتها وتكون الطريقة الوحيدة هي الموت، والعمليات الانتحارية للإرهابيين تندرج ضمن نفس الأطر.
فعبدة الشيطان هؤلاء احتياطي للإرهاب بمجرد غسيل مخ مضاد، واحتياطي للخراب والعبثية والعدم الوجودي، وهم في العالم العربي يزينون الأمر ويسمون أنفسهم بمعتنقي “الديانة الإبليسية الروحانية” ويقولون أن إبليس هو رب الجحيم، وفيهم فئة يقولون لا مشكل لنا مع الرب ولكن مع الديانات الابراهيمية لأنها ليست السبيل الوحيد إليه، فهم ليسوا ملاحدة ينكرون وجود الله كسواهم من الملاحدة وهم منتشرون أيضا، ولكن ملاحدة ينكرون الديانات. وكل ما بينت هنا يندرج ضمن توظيف الوهم واستخدامه والتلبيس به…وهم يؤمنون بالسحر ولهم سحرة مهرة وطلاسم يستخدمونها وقد حدثتني فتاة تعرضت لمحاولة تأثير في جلسة استحضار روحاني – مصطلح كاذب والأصل استحضار شيطاني حقيقي أو مجرد شعوذة وإيهام – سببت لها أزمة نفسية طويلة وحالات من الانهيار العصبي. وذات الأمر تم استخدامه من الوهابية عبر ما أسموه إفكا (الرقية الشرعية) – رغم أن الرقية حق ورسول الله رقى وبعض أصحابه – ولكن بصيغة وهمية وتلبيس على الشباب والفتيات خاصة، وهذا تم في المساجد (مما عاينت بعضه بنفسي) وفي صلوات الجمعة (ثمة فيديو تم ترويجه عن ذلك) وفي مصليات النساء ووصل لشاشات التلفزة وفيه حالات الصرع وما يدعون أنه كلام الجني على لسان البشري وخوفه وإعلانه الإسلام ، وكله يصب في سلة تتفيه الفكر وزرع الخزعبلات وغسيل الأدمغة وتحطيم الذات وتجهيز إرهابيين وارهابيات جدد. (ارجع لكتابي رحلة في عقل إرهابي بينت فيه الامر باقتضاب وان كان ما لدي من معطيات أكثر من ذلك بكثير).
ومسألة عبدة الشيطان وموسيقاهم تحملني مباشرة إلى آخر ابتكارات من يحرّكونهم، وأعني “المخدرات الافتراضية” القائمة على نوع من الذبذبة والألوان وهي فتّاكة تصيب بحالات صرع شبيهة بالمس وتحطم الشباب العربي ومنتشرة خاصة في لبنان وكل ذلك ضمن بناء الوهم والعمل به.
نظرية بناء الوهم نظرية خطيرة، وما ينقص هو العمل المضاد لها، العمل الذي يبين الحقائق ويوقف الأوهام أو يحد منها، حتى تنكشف الأباطيل وتتضح حبائل التضليل، لأن الأوهام كثيرة جدا ومحيطة بالناس من كل جانب خاصة في عالمنا العربي، وطبيعي أن هنالك أوهاما تصطبغ بصبغات جمالية ومغرية تنشر سمها أيضا بكثافة، مثل المثلية الجنسية التي رمزوا لها بتدرّج لوني جمالي ولها دعاة في كامل أرجاء العالم يتجمهرون ويجاهرون وتبيح لهم دول عديدة حق الزواج ويريدون مثل هذا في العالم العربي المسلم وتتعالى أصواتهم كل يوم أكثر ويتم بث إيحاءات كثيرة في برامج تلفزيونية وفي مسلسلات وأفلام عديدة بل تجاوزت الإيحاء إلى لقطات شذوذ مكثّفة وأذكر فلم حين ميسرة وفلم بدون رقابة حيث حضرت مشاهد سحاقية، وكذلك مسلسل حكايات تونسية الذي تم بثه في رمضان الماضي – موسم العهر لدى من يديرونه – حيث كان شاذ المشرف على بيت دعارة. وهذا الحضور يهدف لأمرين الأول التطبيع مع المشهد وقبوله اجتماعيا بالتدريج، أما الغاية الثانية فنشر تلك العدوى الفتاكة التي من خلفها انقطاع النسل واستشراء الفواحش وحلول اللعنات، وكل هذا ضمن برمجة متقنة وبناء للوهم حتى يحل مكان الواقع وهو أمر نجحوا فيه بشكل كبير ونسب الشذوذ في العالم العربي في تطوّر مستمر حتى في أكثر الدول محافظة، بالإضافة إلى مشاهد الخمر والحشيش والإدمان والاغتصاب والصياح والدم التي قل أن غابت عن مسلسل وفِلم خاصة في مصر وتونس. أما الدول الغربية فحدّث ولا حرج، وليس الأمر مقتصرا على المواقع الإباحية بل بلغ الطبقة الراقية من السينما الهوليودية وكله ضمن مخطط واحد يهدف إلى خلط ذلك الوهم بالواقع وفرضه بكل الطرق، وما تراه من عزوف عن الزواج ومن تهرّم مجتمعي في دول كثيرة مثل ألمانيا ينبئ بخطر كبير خلال العشرين والخمسين سنة القادمة بلغ وفق بعض الدراسات حد الاندثار بعد مئة سنة لمن كان مستوى نموّه يقل عن 0.12 بالمائة وهو موجود في دول أوربية كثيرة ويمثل لهم هاجسا خاصة مع النمو الديمغرافي الكبير للجالية الساكنة فيها وخصوصا المسلمة…
إن كلامي عن نظرية بناء الوهم ليس من باب الترف الفكري، بل لأنها حقيقة خطيرة تعمل في الجميع بدون استثناء وتنجح بنسب مختلفة: حتى السيجارة التي تدخنها تندرج ضمن ذلك، إنها تبني لك وهما وتجعلك تعيش ضمنه وأنت تخسر مالك وصحتك: إن ابتسمت دخّنت من الفرح، وإن كنت سعيدا دخنت بشراهة ونشوة، وإن حزنتَ كانت تشتعل من أجلك بحزن وتواسيك، وإن كنت في ضغط فهي متنفسك الوحيد، وإن كنت غاضبا فهي الشرر الذي يتطاير من فمك كتنين هائج، وإن كنت تريد أن تكتب أو تفكر فهي تمنحك الإلهام. بل إن أردت إثبات رجولتك وأنت يافع فليس أقرب منها لتبين للجميع – خاصة الفتيات – أنك سيّد الرجال…وكل هذا وهم وهم وهم…فهي لا تمنحك شيئا ولكنك حتى حين تعي بذلك تعجز عن تركها لأنك مدمن عليها: الوهم يعمل على الإدمان، وهذه صعوبة كبرى تجعل مغادرتك له صعبة حتى لو وعيت به وأردت طِلاب الحق…وهذا يشمل أمورا كثيرة لا تحصى: من يقضي الوقت كلّه في أحلام اليقظة يتخيّل ويتمنى وهو عاجز كسلان، ولا يقدر وهو يعي أن ذلك مضيعة للفكر والطاقة والوقت أن يترك إدمانه لذلك، ومن لديه خلل أخلاقي معين أو أمر مشين يقوم به ويعي أنه مخطئ فيه ولكنه يعجز عن تركه…وفي باب الوعظ والزهد تجد كلاما كثيرا ضمن هذا الإطار..وصولا للرقائق والكلام عن الدنيا فهي على حد تعبير العارفين وهم في نهاية المطاف…والآخرة هي الأبقى…لكن لا يتيقظ الإنسان إلا إذا مات..حينها ينتبه…
علم الأخلاق وعلماؤه ومن ألفوا فيه من أمثال سقراط والجاحظ وسواهما، تكلموا كثيرا عن مغادرة الباطل وإصلاح النفس، بل علم الأخلاق كله علم لطب النفس البشرية، وهنا أذكر بحثي في علم الاخلاق ضمن موسوعة البرهان والعلم الذي سميته علم الطب الأخلاقي لأن الأخلاق وقاية وعلاج، وللأمر تفصيل طويل تجده حيث ذكرت لك.
علم التصوف ليس سوى سلوك ذوقي للخلاص من الأوهام والشرور الباطنية وبلوغ الحق واليقين والرقي الذوقي الذي يفتح باب الإحسان ويرنو إلى مقامه.
فنون الدفاع كلها، خاصة الباطنية منها عمل قاس شاق لهزيمة “الشيطان الذاتي” وبلوغ حالات من التوازن والتناغم والتحرر الروحي والطاقي الذي عبّر عنه خبراء فنون الدفاع واليوغا الهنود بمصلطح “نرفانا”، وعبّر عنه ملوك فنون الكونغ فو شاولين والكونغ فو وودنغ في الصين العظيمة بمصطلح “أراهان”، في حين عبّر عنه مقاتلو الساموراي في اليابان بالساتوري: إنه مستوى التحرر واليقظة الكاملة L’Éveil التي كم كتب عنه المعلم الكبير الفرنسي Henry Plée الملقب بالأستاذ في مجلة كاراتي بوشيدو وفي دراساته وكتبه، وهو الوحيد من غير اهل اليابان ويحمل الدان العاشرة في الكاراتي وصاحب أول دوجو – مكان مخصص لتعليم فن الكاراتي – في أوروبا فتحه سنة 1956…..إنها يقظة من الوهم سماها علماء العرفان وأهل التصوف والكشف بالإشراق…مستوى من السمو النفسي والروحي وانفتاح تشاكرات الطاقة كلها وتحرر الطاقة الكامنة وبلوغ جوهر الروح الإنساني وهو جوهر رباني خالص.
الدين الإسلامي وكل الديانات السماوية ركزت على تحرير الإنسان من الوهم، ومن وسواس الشيطان وتزييفه وتزيينه، وتجد آيات كثيرة تتكلم عن هذا وأحاديث نبوية عديدة وفي كلام السيد المسيح أيضا الكثير وفي أقوال للصالحين والعارفين ومواعظهم مما يضيق به المجال.
حين ننظر في تاريخ الفلسفة البكر ومعناه الأول (حب الحكمة Philos Sophia) الذي انبجس من مفكري وفلاسفة الإغريق ولئن وُلد قبلهم بكثير وكان له في أرض الهند والصين خاصة تاريخ طويل، فإننا نرى صراع سقراط وأفلاطون وأرسطو مع الوهم، عبر محاولتهم فهم الحقيقة وبلوغ الحكمة وتحطيم الوهم، وهنا كان الصراع مع السفسطائيين وبيضتهم ودجاجتهم وألاعيبهم العقلية التي كانوا يبنون من خلالها “أوهاما” أرادوا سجن الناس فيها وتخديرهم بها.
وحين نرى محاولات الفلاسفة جميعا على مر العصور مرورا بالفلاسفة المسلمين من أمثال ابن رشد نراهم يقاتلون الوهم ويحاولون تفكيكه لبلوغ الحقيقة، وهي آليات أخذها عنهم فلاسفة التنوير في صراعهم مع ما بنته الكنيسة حول العقل من أوهام أغرقت أوروبا قرونا في الظلام. ومن تلك الثورة الفكرية نبعت ثورة العلم والتطور التي نعيش اليوم بعضا من فيئها، لكن استمرت الأوهام وتجددت بطرائق أخرى واستخدمت ذلك التطور لتُعيد التشكل والبناء…فللوهم جنود يعيدون إحياءه كلما قتلته الحقيقة.
فلسفة كونفشيوس أعظم فلاسفة الصين الذي أثر لأكثر من عشرين قرنا بحث عن الحقيقة وتحطيم للأوهام، وحين خضع لاو تزو لوهم السلبية وقرر ترك العالم وقضاياه والعيش في سلام بعيدا عنه ضمن مبادئ الطاويّة حتى صار أتباعه في معبد وودنغ مضرب مثل في السلبية ثارت ثائرة كونفشيوس لأنه يرى ذلك سقوطا في الوهم…فلا خير للفلسفة إن لم تنفع الناس وتقترب منهم…
العلوم التجريبية حاربت الوهم، رغم أنها سقطت فيه مجددا عبر نظرية التطور في اعتقادي. وكان غاليلي يهتف أن الأرض تدور وهو يُعدم واثقا أن ما نسجته الكنيسة من وهم حول الكون وأن الأرض مركز العالم ومجرة درب التبانة خيط من الضوء سوف يسقط حتما، وبعد ستة قرون تعتذر الكنيسة منه حين اندكّت الأوهام وأظهر العلم للعالم بعضا من حقائق الكون المدهشة، لكن أحد شيوخ الوهبنة يقول رغم ذلك واليوم أن الأرض لا تدور ولو دارت لأمكن للطائرة أن تقف في السماء وتأتيها الصين..هنا ربما مجال لكي يضحك كونفشيوس حد الإغماء.
في مستوى العقيدة حاول صناع الوهم بناء أوهام عقائدية مضللة مثل التجسيم، وبرز له عدد كبير من أهل الزيغ وفساد المعتقد، وهو أمر واجهه علماء ربانيون ناظروهم وأثبتوا فساد رأيهم وهو ما انبنت عليه العقيدة الأشعرية والماتريدية التي عليها أكثر المسلمين. ولكن تلك الأوهام سرعان ما تتجدد، وما يجري من إرهاب اليوم ناتج عن وقوع عدد كبير من الشباب في أوهام عقائدية رأوها حقيقة مطلقة مثل كون الدين لا يقوم إلا بالذبح والقتل وكون كل مخالف يستحق الموت وان الصوفي مشرك والأشعري كافر وكل شيء مباح لهم لأنهم جند الله وخاصته وحاملو لواء نبيه….وكلها أوهام تم بناؤها بذكاء شديد حتى يصعب بل يستحيل الخروج منها..وهذا النسيج الوهمي حاولت توضيحه في كتابي رحلة في عقل إرهابي ضمن منطلقاته وتمشياته المختلفة (عقائديا ونفسيا وثقافيا وروحيا وطاقيا واجتماعيا…).
ولست قادرا ضمن هذه الأسطر عن تلخيص كل أوجه الوهم الطاغي على حياة البشر حاملا خلفه الزيف والموت والخراب والمرض والفوضى وإهدار الطاقة والحياة، يمكنك ان تنظر في زورق يحمل مئتي مهاجر إفريقي هارب من الفقر خلف وهم النعيم الأوروبي لترى كيف يمتزج الوهم بتعاسة البشر وبالموت الطافي مع جثثهم الغارقة، أو للملاهي التي يهدر فيها الشباب طاقاتهم في الرقص العشوائي والخمر والرغبات الفاسدة، أو في حالات الإدمان وانتشار المخدرات التي تبني الأوهام وتنتشر في المدارس والمعاهد والجامعات وفي الأحياء بشكل غير عادي…..
إن نظرية بناء الوهم تختفي خلفها سياسات لبناء الوهم ونشره، واستراتيجية قوية ناجعة تُفعّله وتبني به واقعا بديلا ينتشر كبقعة الزيت ليتحول من وهمي وافتراضي ومرغوب أو برمجي إلى فعلي، فعلى سبيل المثال حين استشرفت منذ سنوات وقوع انقلاب جوهري في العالم العربي، أو حتى استشرافات المسار التطوري للعمل الإرهابي بتونس منذ سنة 2011 وهو ما تحقق بعد سنوات، كل هذا كان لدى الكثيرين مجرد كلام فارغ وكهانة باطلة، فمن كان يظن ضمن الفهم السطحي والعادي أن يعيش العالم العربي مثل هذا الكابوس؟ إنه بناء الوهم وسياسته الماكرة، وللسياسة علاقة وطيدة بالوهم لا محالة وهذا شأن طويل.
خلاصة القول، فنظرية بناء الوهم تتلخص في الآتي: زرع وهم ما في نفس أو عقل أو مجتمع معيّن، ثم تطويره وبناؤه حتى يطغى على الوعي والادراك والواقع، ويصبح بديلا للحقيقة.
وهي أيضا قوة برمجية تجعل كل الحقائق الفعلية أوهاما وكل الأوهام الفعلية حقائق.
وأذكر أني قرأت في مقال للمعلم هنري بلاي حكمة لفيلسوف ترجمتها عن اللغة الفرنسية مفادها أن “الوهم ظنا منه أنه حقيقة يأخذ الحقيقة على أنها وهم”
إنها خلاصة أخرى لنظرية بناء الوهم.
تحتاج هذه النظرية لنظرية مضادة، هي نظرية تفكيك الوهم، وأخرى للوقاية والمعالجة. وهذه جوانب يشترك فيها التصوف مع فنون الدفاع خاصة الباطنية منها مثل التايتشي Taichi والتنمية البشرية وعلوم التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع وحتى الثقافة والفن وكل استراتيجيات تطوير الذات وإصلاح المجتمع. فهو عمل لا يقتصر على مستوى بناء النظريات رغم وجوبها وضرورتها والحاجة الماسة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، بل لتفعيلها على مستوى الواقع حيث يتم بناء مجتمعٍ واع مثقف، وثقافةٍ هادفة قوية، وعقيدة سليمة، وعقولٍ نيرة وأنفسٍ لا تسكنها الظلمة، عمل قد يبلغ حد الإيتوبيا والطوباوية الحالمة بالنظر لما نعيشه اليوم، لكن متى كانت معركة الحق مع الباطل والحقيقة ضد الوهم يسيرة أو ضمن شروط الممكن؟؟؟
إن بُناة الوهم في العالم – وفي عالمنا العربي خاصة – كثر جدا، هم بناؤون مهرة، ربما تجد نفسك تمشي بالمعنى والمقصد نحو البنائين الأحرار (الماسونيون) أو ما تبنيه الصهيونية من مستوطنات ليسكن المحتل وجدران ليختنق صاحب الأرض، ضمن بناء وهمي يريد أن يفرض أن فلسطين لهم وليس لأهلها فيها شيء، وأن القادمين من أصقاع الأرض لاحتلالها هم الموعودون من الرب للحياة فيها، كما يقنع إخوانهم من شيوخ الوهابية الشباب العربي أن الشام هي أرض الملاحم وهو الموعودون من الرب لكن للموت فيها لا للحياة. إنها جدران الوهم التي لابد أن تندك كما اندك جدار برلين، لكن دون ذلك خراب كثير. ويبقى أجمل ما قيل في الوهم وما يعبر عن جانب آخر منه يخص جانبا مهما في ذاتي، وفي الذات العربية قديما وحديثا: الشعر، فهو الذي يتخذ الخيال – أخو الوهم الطيب الجامح – مطية للسفر في عوالم ينبيها ويسكنها، يبقى الأجمل بيت من قصيدة غنتها الفنانة الرائعة ماجدة الرومي وكتبها الشاعر الدمشقي الكبير نزار قباني: يبني لي قصرا من وهم…لا أسكن فيه سوى لحظات. صدق نزار: فمن بُنيت له قصور الوهم…وسكنها…سارع إلى الزوال…أو سارع الزوال إليه…