4 دقائق للقراءة
يقول ريتشارد نيد ليبو Richard Ned Lebow في كتابه «لماذا تتحارب الأمم Why Nations Fight ترجمة د. إيهاب عبد الرحيم علي: «وكلّما علمنا أكثر حول أسباب الحرب، نكون أقدر على تصميم الاستراتيجيات وبناء المؤسسات اللازمة لتقليل احتمال وقوعها».
وهذه الجملة على اختزالها تمثلّ قاعدة هامة لعلم الاستراتيجيات الحربية الذي يكون من أهم مهامه التخطيط لمنع حدوث الحرب ولحماية الوطن من الكوارث ومن أي علمية نوعية تؤدي إلى التخريب، ويكون الإرهاب وفق هذا مقسما هاما من مقاسم هذا العلم الاستراتيجي.
للحروب صنوف ونوعيات، لكل نوع خطط خاصة ووضعيات محددة، ولعلّ حرب الشوارع من أعسر أنواع الحروب على الدول وعادة ما تكون ضمن حرب أهلية فتاكة أو ضد عدو أنزل جنده في دولة أو مكان ما.
ومن بين نوعيات الحرب التي ينبغي دراستها ولها علاقة صلة مباشرة إن تطوّرت بحرب الشوارع والحروب الخاطفة لتصبح بعد ذلك حربا طويلة وشاملة: «الحرب البيضاء». ولئن كانت الكلمة تعني ضمن بعض سياقاتها: ترويج المخدرات، التي تعتبر سلاحا فتّاكا لتدمير الشباب وتخريب المجتمعات. فإني أعني بها «الحرب الفكرية والايديلوجية والعمليات البيضاء النوعية الممهدة لحرب ميدانية فعلية».
فالصراع الفكري والأيديولوجي حين يصاب بلوثة الكراهية وتتلبس به الأنانية العمياء والغرور المفرط يصبح ممهدا للخراب: فلا تعدم دولة أو شعب من عدو متربّص داخلي أو خارجي أو حلف بينهما. وهذا العدو سيستغل مناخ الكراهية والشتات ليضرب بقوة في الوقت المناسب.
أما العمليات البيضاء فهي كثيرة متعددة تعتمد التمويه والمناورة وحرب الإشاعة والحرب المعلوماتية والافتراضية ولها صنوف كثيرة أجد من المجدي الآن أن أعتبر ضمنها علميات «الفوشيك» التي تتم كل ليلة في كامل تراب الجمهورية، والتي أرى فيها تدريبا على التنسيق الحركي والتزامن في تنفيذ عمليات كثيرة في نفس الوقت في أكثر من نقطة محددة. وكذا تدريبا للعناصر على القيام بتلك العمليات وإعطاء إشارات ضوئية عليها أو تمهيدا لها (وهو فن قائم بذاته في الحروب القديمة عبر النار ليلا والدخان نهارا، أو في الحروب الحديثة عبر الشعلات الضوئية).
ثم تقسيم القوة إلى وحدات صغرى في نقاط مكانية متعددة شاملة تتحرك في نفس الوقت ويسهل أن تخترق وتنسحب. أضف إلى ذلك تعويد تلك العناصر وتعويد الناس على صوت الرصاص، واختبار رد فعل الدولة والأجهزة والشعب. ثم إن تم القبض على أحد تلك العناصر أو المجموعات فسيقال: مجرد شباب يلهو أو فرحة عرس». وسيخرج أكثر من واحد يدافع بشراسة ويستبله الناس. ولكن الحقيقة أن ذلك يتجاوز الخط الأحمر للأمن القومي وكان لابد من دراسة عميقة وفهم للرسائل ومدلولاتها وتحرك ثلاثي: أمني، عسكري، سياسي. لا يعني هجوما أو عمليات معينة بل يعني سلطة للقانون وتشريعا ودراسات استراتيجية وخطوات محددة ضمن الأمن العميق وسواه من مقاسم الأمن القومي والاستراتيجي.
إن مرحلة الحرب البيضاء تتخللها حروب حمراء صغيرة أو ضربات نوعية (ما حدث في الشعانبي هي حرب صغرى وعمليات نوعية خطيرة جدا لابد من دراستها لمنع تكرارها والوعي بخطورتها). والاغتيالات السياسية كانت ضربات نوعية مع اختيار دقيق ورسائل مبطنة. ولولا حسن تحرك الأمن في الفترة الأخيرة لحدث أكثر من ذلك عديد المرات، ولكانت ضربات قوية جدا مازال إمكان حدوثها واردا جدا بل أرى أن الأمر بذلك تم من عناصر محددة. وكل تحرّك أمني مهما كان قويا لا يكفي ما لم يتم استعمال السلاح الأقوى: «العلم».
ثم يدعم ذلك بقرار سلطوي قوي وواضح منبن على علم وبينة وخبرة ويستفاد في ذلك من الخبراء في الشأن الأمني والعسكري والاستراتيجي. يؤازره وعي شعبي ويقظة وطنية وحراك منظماتي ومدني ضد العنف وضد التداعي وضد الحرب أيا كان نوعها وضدّ كل من يريد إنزال شرّها بالوطن والناس.
الحرب البيضاء يتغذى سوادها وشرّها من قلوب مظلمة نبعت منها الكراهية وعقول ظلامية نبغت في الحقد. ومن ذوات ناقصة تقنّعت بالغرور وتقمصتها الأنانية العمياء.
إن بلادنا اليوم تحتاج إلى يقظة كاملة: ليس التهديد الإرهابي وإمكانية حدوث حرب فعلية مجرد خيال علمي أو «فزّاعة». بل هنالك مؤشرات كثيرة تدل عليه ولابد من دراسة كل ذلك وتلافيه. وحين نعلم أن بعض التنظيمات تتدرب خارج تونس وفي أمكنة شتى منها ما هو مجاور للبلاد، وحين نرى وضع بلاد الشام التي لم يكن أحد يتصور بلوغها لتلك الحرب الطاحنة
وننظر في وضع مصر وليبيا، علينا أن نعي وجود يد تدير تلك الحروب وتحرّكها، وعلينا خاصة أن نفهم أن إغفال المؤشرات الجلية والنظر الأجدب السطحي إلى الأمور سيسرّع من تحوّل الحرب البيضاء التي تدور رحاها الآن في عديد المساجد، وفي خطب التكفيريين وتحريضهم، وفي منابر التطاحن السياسي، وكواليس الحكم، وأزقة الأحزاب المتعثّرة، وحتى في انتشار الوباء الفكري التكفيري، وحالات الغيبوبة الجماعية جراء المخدرات في صفوف قسم كبير من الشباب، وحالات التلوث الحيوي والمناخي التي تسببها الأوساخ المتكدسة في كل مكان، وكذا مخازن الأسلحة التي غمرت البلاد واختبأت كالمرض الخبيث في انتظار التمظهر والضرب بقوة وقسوة. وعصابات التجارة بالإنسان التي تخطف شبابنا وبناتنا إلى حرب الأحقاد والظلام في أرض الشام…إلى غيرها من الآفات والحالات.
ليست الحرب البيضاء سوى بداية، فإن كنا على وعي وإدراك أمكن لنا التخلص منها ومما بعدها، وإن تخبطّنا وتوهّمنا وحكمتنا الحماقة أو استحكم فينا الحمقى، وقعنا في ما بعدها وكانت الكارثة. وإن قاعدة أوردها المعلم الكبير سن تزو صاحب الكتاب الأهم والأشهر في علوم الحرب والاستراتيجيا «فن الحرب» الذي تم تأليفه في القرن الخامس قبل الميلاد ولكن كان منذ تلك الفترة إلى اليوم أهم مرجع لدى العساكر والقادة والخبراء في الفصل الربع الذي سمّاه «المناورات التكتيكية: نحن مسؤولون عن حماية أنفسنا من الهزيمة، أما هزيمة العدو فهي مشروطة بأحوال العدو نفسه». وهذه القاعدة تنطبق علينا كدولة وشعب من بابين: باب لنا حين نعي ونفهم ونحصّن أنفسنا بالفكر والعلم والثقافة والحكمة وحسن التسيير والاستشراف والتخطيط، وباب علينا حين يكون عدوّنا واعيا بهذا ويترك أحوالنا تقودنا إلى الهزيمة الكاملة.
ختاما أترك لكم التأمل في حكمة لنفس المعلم ضمن نفس الكتاب وفيها لمن أراد فهما وعلما دروس وعبر وخطط وفِكَر وآفاق نظر: «إذا كنت تعرف العدو وتعرف نفسك، فلا حاجة للخوف من نتائج مائة معركة. وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو، فكل نصر تُحرزه ستقابله هزيمة تلقاها. وإذا كنت لا تعرف نفسك ولا تعرف العدو، ستهزم في كل معركة».