3 دقائق للقراءة
الخط الخامس
الشاعر
الرجل الذي قُتل مرتين، والذي دفن في واد لم يره أحد من الأحياء، ذلك الرجل أصبح شاعرا.. أتصدقون.؟!؟
اِسمعوا..هاهو الآن ينشد قصيدته الجديدة .. ويتعالى الضحك.
أُنظروا..لابد أنه قد جن..كيف يترك السماء لأجل اِمرأة؟!؟
كيف يحطم جناحيه ليرضي قلبه؟؟؟!!
لا نعلم كيف فعلها وخرج من القبر، يقال أنه ظل في الشرنقة أمدا حتى اِكتمل، ليخرج شاعرا، شاعر الوادي، أليس اِسما مناسبا.
أُنظروا.. لقد قلع الشجرة المقدسة، دنس شرف المستنقع وقتل تنانين الوحل.
يا له من مجنون، شرابه ظمأ، طعامه شوق، ملابسه رجع ووجع..
رأيناه مرة يمسك أحد إخواننا في الركن السفلي ـ تؤكد الحجارة الضاحكة لحيتان التراب ـ لقد أمسك حجرا وأخرج من صدره ضلعا جعله مسمارا ونقش به خربشات لم نفهمها.
وذات مرة ـ تضحك الحجارة حتى تنقلب على ظهرها كما تنقلب الخنفساء فلا تقدر على الوقوف مجددا ـ أمسك طينا وسكب عليه من دمعه، ثم نزع ناب تنين ونقش فوقه، بعدها خنق التنين فأخذ يسعل لهبا حتى نضج الطين..
يا له من مجنون!!
لقد قتل كل التنانين ليؤلف كتابا..
أُنظروا…إنه يراقب النجوم..أتراه يذكر أنه كان سيدها..
أنظروا..إنه يذرع الوادي.. يبني جدرانا كي يوقف ريح الموت.
مجنون..
هل كلماته التي لا نكاد نفهم منها حرفا ستغير ما لم يقدر عليه التنانين؟؟
أنا لا أفهم ـ يهمس الحوت الأكبرـ كيف يفكر هذا الغريب!
كنا آمنين يوم كان في قبره..
لقد أزعجني..
لم أستمتع بسباحة في الوحل منذ أن اِستيقظ.
قضّ مضجعي لأنني رفضت أن أتبعه.
مـجـنـون!!
يقول أن مكاني هو الماء؟!!؟
وأين هو هذا الماء؟
أين! حيث عروسه المزعومة..!؟!
ويغرق الجميع في ضحك مكتوم…
أنصتوا..إنه يمر من هنا..فلنكرر اللعبة..
مر كما يمر الطيف رغم أنه كان يعلم أن الزائر سيأتي مجددا..
وتساقط على جسده الوابل…
لم يكن يعرف من كان يرجمه بالحجارة
كل ما كان يعلمه…أن عليه…أن يـواجـه قـدره.
الخط السادس: عشق آباد
“مولاتي…أخيرا اِستيقظت..قلقنا عليك”.
نظرت من حولها..
كان كبير كهنة البحر يرمقها باِحترام.
قص عليها كيف وجدها على الشاطئ وقد أفقدتها الشمس ماء الحياة أو ربما أنها بكت كثيرا حتى جفّت، فحملها إلى مدينته..
“عشق آبــاد”
ـ يسرني – قال قائد عسس الموج – أن ألتقيك، لقد سمعت كثيرا عنك، لكن عملي في البحر السابع لم يكن يسمح لي بالذهاب إلى أول البحار..
لقد فرح سكان المدينة كلهم أنك بيننا.
سيد البحار سيأتي لرؤيتك.
لا تتعبي نفسك..
لقد سقاك الكاهن شراب العشق المقدس..
سيعيد إليك ماء الحياة مجددا.
اسمحي لي.. علي أن أغادر.
بعد أيام أُعلن في المدينة أن سيد البحار سيتزوج من عروس الماء.
****
“عشق آبــاد”، مدينة الياقوت والمرجان واللآلئ، تلك التي ديانة أهلها عشق، وطعامهم عشق، وشرابهم عشق، وموتهم عشق أيضا، احتفلت بأجمل عرس..
لكن العروس فرت..
لم تكن تود المكوث في مدينة عشق..
لا تعشق فيـهـا أحدا.
الخط السابع: وادي القصائد
وقرر الرحيل.
ــ إن أرضا ليس لي فيها معركة أو هدف لا أقيم بها..
اِعتنوا جيدا بوادي القصائد.
لم تفد توسلات الوزراء ولا اِستعطافات الحاشية.
الجميع يعلم أن رحيله أمر يخافه كل سكان الوادي، أجل، أو لم يكن منذ حقب خلت واد من ظلمة وفزع…وادي الموت..
وهو من غرس فيه أول شجرة حتى اكتملت الغابة، وهو من بنى فيه أول جدار حتى انتصبت القلعة.
كل ركن فيه بصمة منه، علمهم القراءة والكتابة. أجل.. وهو من قتل الحيتان، كان يكرهها وكأن بينه وبينها ثأرا قديما.
وكان يردد دائما: “لو قُتلت، فسيقتلني حوت يحمل نابا”
وهو من حطم الحجارة الضاحكة،
لقد كانت تلك الحجارة تمنع الأحياء من عبور الوادي، تمنع أشعة الشمس من الوصول ، تمنع الماء والحياة، حطمها، بعد أن رُجم بها زمانا طويلا،وأحرق المستنقع.
كان يقول لهم دائما: “الوحل يظل وحلا مهما طهرته..
وعلاج المستنقعات هو النار..
الــنـارُ تُـطـهِّـر.. الــنـارُ تُـطـهِّـر”
عبر الأحياء إلى الوادي، استعاد النهر مجراه وبُثت الحياة، وجدوه ينزف وهو يحمل كتابه في يده، ومنذ ذلك الحين أصبح الوادي يعرف بوادي القصائد، وأصبح الرجل الذي قُتل مرتين ملكا، ويلقبه أهل الوادي بـالملك الشاعر..
لكنه رحل… ووجدوا مكتوبا في ركن من أركان قصره: “أتعس الأحياء.. ملك… بلا حبيبة”