4 دقائق للقراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
“قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)” (آل عمران)
الحمد لله الذي بيده الملك، يؤتيه من يشاء، منحة ومحنة، فيجعل من عدل فيه من أهل التمكين، ومن عدل عن العدل فيه من الظالمين، فيرفع بالعادل إلى الحق مظالم، ويرفع إلى العادل عن الحق شر كل ظالم.
وهو جل في علاه صاحب الملكوت الذي لا ينازعه منازع ولا يخالطه شريك ولا يكافئه ضد ولا يقدر عليه أحد.
جعل من الملائكة ملوكا لحكمة ملكوته، وجعل من البشر ملوكا ومن الجن قبل ذلك.
وجعل الأنبياء سادة، والصالحين هداة قادة.
وكتب على قوم الهداية فحفظهم ملوكا أو رعية، وكتب على قوم الضلال فأهلكهم بضلالهم ملوكا أو رعية.
وجعل لكل سلطان سلطانا به ينفّذ سلطانه، وجعل فوق كل سلطان سلطانا به ينفذ الجن والإنس من أقطار السماوات والأرض لو استطاعوا وما يستطيعون دونه، وهو له كله، وما عند المخلوق ظل لما عند الخالق.
وجعل بطانة لمن حكم، وقاضيا لمن احتكم، ورعية لمن ملك، ومُلكا لمن امتلك، فأغنى وأقنى، وأضحك وأبكى، وكتب في الكتاب تفصيل كل شيء.
وجعل على كراسي الملك زينة، وحول ذلك مالا وجاها، فحفظ أهل وده من فتنته، وأخضع من أضل لسطوته.
فالحمد لله على ما وهب، والحمد لله على ما أعطى، والحمد لله الذي أفنى ويفني الملوك وما ملكوا، ولا يفنى، ويبقى وحده سبحانه له الملك الكامل وله سلطان الدنيا والآخرة.
وصلّى الله على حبيبه الذي جعله على القلوب ملكا وعلى الأرواح سلطانا، وأنزل عليه من لدنه قرآنا، ولقّنه علما وحكمة وبيانا، وآتاه سنة وهديا وفرقانا، وإسلاما ويقينا وإيمانا، ومعارج ومناهج وإحسانا، وتزكية وترقية ورضوانا.
وعلى آل بيته أهل الخير والفضل بعده، وأقربهم إليه مقاما، وأهدى الخلق إماما.
ورضي الله عن أصحابه حجّاب أبوابه والمنافحين عن جنابه والحافظين لعهد كتابه.
وسلام على الصالحين في كل أين وحين، حيثما تنزّلوا وفي أي عصر ومصر كانوا، من عاهدوا الله فما خانوا، واعتزوا بالله فما هانوا، وجاهدوا في الله فما استكانوا.
وبعد:
إن الله سبحانه قد آتى داوود وسليمان ملكا، وقال لداوود مؤدبا:
” يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) (ص)
فالحكم وهبيٌّ، والفضل كسبيٌّ، من بعد تفضّل المتفضّل ومنح المنعم.
فمن سعى في سياسة الناس بالعدل كان له فضل عظيم، ومن جعل الحكم حكمة، والملك خدمة، جعل الله له في الدارين مقاما رفيعا، وعزّا منيعا.
فإن اليد الطولى في فعل الخيرات، وإغاثة الملهوف، وإعالة الفقير، وعطاء المحتاج، ومنح المحروم، وعون اليتيم، والرحمة بالناس، ونصرة المظلوم، والانتصار من الظالم، والعدل في المسائل، وتوفير الوسائل، وإيصال الرسائل، من كل خير وعلم وفهم إلى كل سائل، وبناء العمران، ومواجهة المفسدين، وصد المعتدين، والحفاظ على الدين، وتشييد المعمار وترقية الثقافة والرقي في معارج الحضارة، وتوفير الأمان، والرزق والضمان، والحياة الكريمة، والعدالة الحكيمة، والقوة الرحيمة، التي تضطر من بغى، وترأف بالضعيف، وتنزل الناس منازلهم، فلا ترفع وضيعا، ولا تضع رفيعا، ولا تُقدّم باغيا، أو تخدم طاغيا، أو تصد ناصحا، أو تخوّن أمينا، أو تستأمن خائنا، أو تحابي مترفا، ولا تقسو على مسكين، أو تحرد المعترّ ، وتمنع المضطر، ولا تجافي ذا طلب، أو تنسى ذا سغب، أو ترائي ذا كظّة . إنها يد يباركها الله ويحبهّا، ويفخر بها رسول الله وأهل الملأ الأعلى، وما أشد ندرتها في تاريخ البشر، أمام كثرة الطغوى، وشدة الفتنة والبلوى.
وإن من آثار العدل النماء، ومن أثر الظلم الشقاء.
ومن اتقى ارتقى، ومن عدل اعتدل، فكان أمره وسطا، ولم يسلك فيه شططا، تزمّتا أو تفلّتا، فأثرى سعيه، وأفلح رعيه، ورشد وعيه.
وإن على الراعي ثلاث، وله ثلاث، ومنه ثلاث، وبه ثلاث، وفيه ثلاث، وعنده ثلاث.
فعليه العدل في الأمر، وحسن النظر، وفطنة الاختيار.
وله رفعة المكانة، وقوة السلطان، وخلافة الرحمن.
ومنه العدالة في الرأي، والسَّطوة في الحق، والعزم في الأمر.
وبه أمان الرعية، وعدالة القضية، وحفظ ما حكَم.
وفيه الرخاء بعد الشقوة، والقرار بعد المحنة، والمنعة بعد الهنة.
وعنده كل خير إن عدل، وكل فتنة إن غوى، وثواب أو عقاب من كان تحت سلطانه.
فاعلم هداني الله وإياك ثقل الأمانة، ورفعة المكانة، وكثرة أهل الخيانة، وخطورة الموضع، وحرج الموقع.
واعلم أن الاوطان تعمّر بحكمة عادلة، وتضيع بطغمة مفسدة، لا تجد من يقطع أيديها عن الناس.
وما جُعل الملك إلا محنة في منحة، فمن جاوز الامتحان فاز، ومن عدل اجتاز.
ولا يخلو الحق من باطل يناجزه، ولا العدل من ظلم يحاربه.
وقد يختلط الباطل بالحق، فيرى الناس الحق باطلا، والباطل حقا.
فتكون الفطنة بابا، والحكمة حجابا، والعدل اساسا، والقوة مِراسا، والهدي نبراسا، وذكر الله إيناسا، وعون الله متراسا.
ومن أدام التسبيح للملك والخضوع لمن ملك، نجا برحمة من الله وما هلك.
وخير الحكام من خضع لأحكم الحاكمين، فجعل له من أهل الشهادة وأهل الغيب أعوانا يخرجونه من اللجة، ويمدونه بالحجة، ويقيمون أمره على المحجّة، ويصلحون له السبل المعوجّة.
فأدم يا عبد الله على ذكر رفيع الدرجات، والصلاة على سيد الكائنات، وطلب المدد من رب السماوات، يوقظ عزمك فلا سبات، ويُلحق رَكْبك فلا فوات، وتدرك ومن معك سفينة النجاة، إلا من أبى وغوى وافتات .
وكتب أبو علي مازن بن الطاهر بن علي الحسني الحسيني
بجوار مقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
المدينة المنورة الأحد 03/03/2019 05:27 عند آذان الفجر.