7 دقائق للقراءة
لا أعرف سر ذلك الإحساس الغامض الذي انتابني وإنا أدخل الغابة، رغم أن العرافة طمأنتني وقالت لن يفترسك وحش ولن يصيبك مكروه، وكنت أحمل التعويذة معي..
القصة طويلة جدا وأتعب حين أعيد سردها، لقد مرض جار عم زوجتي، وهو يسكن بعيدا جدا عني ولا يعنيني مطلقا، لكن عم زوجتي زاره، فانتقل المرض إليه، وحين زارت زوجتي عمها عادت إلي بنفس المرض، يسميه بعض الخبراء “لعنة الوظيفة”، أجل، مرض ذلك الجار ودخل عقله جرثوم مجرم، خرب عليه فِكْره، فَكَره عمله وفقده، ثم عم زوجتي تبلّد وأصابه الكسل، وأصاب زوجتي نفس الشيء، وانتقلت العدوى إلي ففقدت وظيفتي بعد يومين، رغم أني لم أجد وظيفة يوما، لكني فقدتها، وبما أني أكثر أهل الحي علاقات ومعارف، فقد أصيب الحي كله، ولم يعد أحد يعمل، وحين عرضت حالتي على خالتي لم تجد حلا سوى زيارة خبيرة في الأمر، العرافة “ريشة”، يقال أنها كانت تلاكم في وزن الريشة، وتلكُم الأيام والعقول والحقائق، ويقال أيضا أنها تستطيع التحليق في الهواء كالريشة، ويقول بعض المنظرين أن عقل من يزورها يتحول إلى ريشة، خفيفا نظيفا، وربما ظن بعضهم أنهم سموها ريشة تيمنا بريشة الرسام، ولأنها تتقن رسم الخيالات وتحليل ألوان الأحداث والأفكار..
دخلت عندها، نفس الوصف الذي قد يخطر ببالك، لك أن تضيف إليه من خيالك، ضوء ودخان، أرواح وأشباح، جماجم وأفعى سوداء تتلوى في صمت وبجانبها مسبحة كبيرة جدا وبعض الودع، أو جلد كبش على الأرض عليه شخص ينظر بعينين تشع منهما الحكمة ويصرخ فيهما مردة الجن، ولك أن تتصور الزوار وعددهم، من فقد زوجته، ومن فقدت جمالها، ومن ضربه جن ابن حرام فطار نصف عقله والباقي طائر منذ البداية، ومن يصرخ ويتلوى أو يبكي، ولعلك تجد امرأة تتنصت وتسأل كل واحد عن اسمه وقصته ثم تدخل أولا لتحكي لمعلمتها وتخرج وهي تحكي عن بركاتها وقدرتها وتقول عرفَت اسمي فور دخولي، ولك أيضا أن تتصورها تمتلك كاميرات تجسس وتستخدم “العرافة الحاسوبية”أو “علم الودع الإلكتروني” فهنالك من يستخدم العرافة الحديثة عبر النت وعبر التلفزيون وعبر الأثير ويقوم الجني مباشرة ، ونحن على الهواء كالريش طائرين وبمجرد أن يسمع صوتك تتصل بجلب كل أخبار حياتك وهو عادة يجعل كل شيء في هم وبلاء ولا حل إلا العراف الرائع الذي قد يتسمى بالروحاني العظيم والفلكي المبهر وعالم الأبراج الفذ…
الأمر موجود من حولك ولن تتعب في البحث إن كنت مثلي مصابا بداء الكسل، في الأفلام وفي الشاشات الكثيرة وفي كل ركن وزاوية، فلا تتعبني بكثرة الأسئلة ولنقفز على الأحداث، اعتبرني دخلت عندها بعد أن دلتني عليها خالتي وتجاوزْ جلوسي واضطرابي وانتظاري وحالتي المتعبة وأنا المثقف جدا حين أخضع لعلم العرافة وبين العرافة والثقافة حرب سلمية وسلم حربي وعلاقات عجيبة.
هنالك حيث جلست في احترام ومن حولي دخان البخور، ومن صوتها المهمهم وحركاتها السحرية، أغمضت عينيها وجاء صوت عميق من عالم آخر: اسمي جَنْجَنونْ..جن ابن جن…من جَنْجَنّة… أو جنة الجن…أحييك..
أحسست بالغبطة..جني ويحييني!!!..إنه حقا يوم مبارك..
*اسمك واسم أمك..
ـ اسمي شغلان…وأمي شغلة..
*شغلان بن شغلة…شو تشتغل..
ـ هون المصيبة..أنا ما بشتغل..
لمعت عينا الجني في عيني العرافة وصرخ: وْلَكْ غبي انت…كيف شغلان ابن شغلة وما بتشتغل!!!
قلت له: هون الشغلة…أنا مرضت بلعنة الوظيفة، ومن ساعتها لا شغلة ولا مشغلة..أساسا أنا عمري ما اشتغلت..صحيح..اشتغلت مع حمار وجرينا عربة عليها حجر لما كنت صبي، من شان أكمل دراستي…
واشتغلت مع عمود الرصيف في شغلة التصفير، كنا نقف سويا أنا وعمود الرصيف ونعد المارين ونصفّر: صصصصصصص ما أجملها..صصصصصصص ما أجمل سيارته..صصصصص ما أحلاها…صصصصص ما أكثر أمواله..كنت حينها مراهقا والمراهقة تبرر كل شيء…
واشتغلت كتير شغلات من شان أتخرج، ولما تخرجت..خرجت من الشغل… وصرت مشغول وتلفوني مشغول وعقلي مشغول بمشاغل ومشاغل…حتى أصابتني هذه اللعنة التي بدأت بمرض مرِض به جار عم زوجتي…
ظلت العجوز صامتة وكأنها تشخر..لمست كتفها، كانت قد نامت والريق يسيل من فمها على ملابسها..
صحَت فجأة وابتسم لها سنان..لم يكن في فهمها سواهما..وقالت: لقد خطفني جماعتي…ورأيت كل شيء..خذ هذه الودعة..علقها سبعة أيام في قرن عجل أخضر وجهه أصفر عنده داء الخجل..ورش عليها مسحوق عيني غراب ومرارة ذئب، ثم اذبح ديك رمادي عينه اليمنى خضراء والثانية لا ترى ولا يؤذن أبدا إلا يوم السبت، وصب دمه على الودعة، ثم خذ قميصا لك وبخر عليه بعود السنحريم وهو عود لا ينبت أبدا ثم اجلس في البيت واصرخ في ساعة يكون فيها عطارد مجتمعا بزحل ويكون المشتري في برج إيفل…
رجتني قليلا..لابد أني غفوت بعد سماعي لكمة برج إيفل، إنها قصة أخرى، فقد كان أبي يحكي لي حكاية قبل النوم، ويقص علي قصة طويلة عن بناء برج من حديد وكيف وضعوا كل حديدة ليسمى في النهاية “برج إيفل”، وحين يصل لتك الكلمة أنام من التعب، وهكذا صار الأمر اعتياديا، فكلما قال معلم الجغرافيا برج ايفل أنام، وان سمعت ذكره في التلفيزيون أنام، حتى زوجتي تفطنت للأمر فصارت تقول لي كلما تخاصمنا برج ايفل فأنام واقفا، ثم صارت تهددني ان ارتفع صوتي:تصمت أول أقول برج إيـ…فأصمت..وكان سلاحها نفذ كل أوامرها…ومن يومها أصبحت أؤمن حقا بالأبراج..
قالت لي العرافة..افعل ما طلبته منك وستشفى…
قلت لها متوسلا: أما من طريقة أخرى…
أجابت..أجل..الدولار..والغابة…
*كيف يعني؟؟
ـ يعني تروح جري تجيبلي ألف دولار وتطلع عالغابة مباشرة…
خرجت أجري وأنا خفيف كالريشة وعقلي أخف، فأخذت الألف دولار التي أخفيتها منذ أن بعت ذهب زوجتي..وعدت إليها..حقا هي كما يحكون عنها..ريشة…
أخذَت الإلف دولار وقالت لي: هذه الأوراق كان عليها نحس، والانا خلصتك منها، امض بهذه الودعة على رقبتك، إن فيها تعويذة قوية جدا، وادخل الغابة، في آخرها، ستجد جبلا، اصعد الحبل، تجد زهرة سوداء، خذها وارجع..ولا تخف من شيء، لن يصيبك مكروه، فكل قبائل الجن معك…………….
كان هذا منذ ساعات، لقد مشيت ومشيت حتى وصلت إلى الغابة، لكن إحساسا غامضا لا اعرف سببه ظل ينتابني…
ماذا سأخسر..قلت في نفسي..ثم التعويذة معي وجماعة العرافة…لا مشكلة..
دخلت الغابة، وتسمى الغابة الحديثة، لأنها تكونت حديثا بعد غابة قديمة احترقت منذ سنين، مشيت بين أشجارها وأنا أتعوذ من شر أشرارها، وفجأة وبلا مقدمات، طلع علي سبع مخيف، بأنياب حادة ومخالب مرعبة، وتقدم مني…
ارتعبت، وفكرت: هل افر، أم ارمي التعويذة في وجهه وجَنْجَنُونْ يتصرف معه، أم….
اقترب مني…تجمدتُ في مكاني من الهلع…وصل إلي…تسمرت أطرافي وتبللت ملابسي….رفع مخلبه القوي…أغمضت عيني وآنا العن العرافة وأيامها…
وضع السبع مخالبه على كتفي، وكأنه يضمني، أحسست به يبتسم، فتحت عيني قليلا، كان يبتسم فعلا، وأنيابه تلمع، ثم وقف إلى جانبي وهو يضع مخلبه على كتفي بكل ود وقال: إلى أين يا صاحبي!!! لا تقلي العرافة والوردة السوداء و..و..و
قلت له وأنا اختنق: أجل..خرج صوتي كصوت قط صغير يسعل أو جدْيٍ مريض ينادي أمه…
قال لي: بسيطة، لكن لكي تمرّ من هنا، عليك أن تدفع الرسوم…
فتحت عيني وصرخت في وجهه: ألن تلتهمني!!
قال بهدوء: ألتهمك!!!! ثم ضحك، مضى زمن الوحشية والصيد والدم والافتراس، أبدا، لماذا الأذى يا أخي، ثم أنا سبع عاشبـ، وأقوم بحمية، لكن من حقي بعض الفائدة لتمرّ، ببساطة، لازمك رشوة، عمولة يعني..
فكرت..ماذا لدي، مال، مطلقا، وماذا سيفعل سبع عاشب بالمال والعشب كثير جدا، كنت ارتدي ملابسي، راقت له السترة، نزعتها، لبسها وهو يرقص، ثم مضى بعد أن أوصاني بالحفاظ على السر، الأمر بيننا فقط….
مشيت بلا سترة، أحسست بالبرد، وفجأة قفز غراب فوق رأسي وأخذ ينقرني بقوة، ثم طار وحط فوق غصن شجرة عالية، وقال لي: اسمع يا زميل، ساعتك تعمل….ارمها إلى هنا، أو لن تخطو خطوة، كل ذئاب الغابة من معارفي، وستموت قبل أن تتحرك من مكانك..
لقد كان عنيفا جدا معي، قلت له:رشوة يعني؟؟
فغضب مني وطار وهو ينعق ويعوي، غراب ويعوي!! لابد أن نزّل برنامج ذئب في حاسوب عقله، وضحكت، فحلّق فوق رأسي ونقرني بشدة حتى وقعت على الأرض وأنا أحاول حماية وجهي، ثم حط على غصن آخر وقال:
تقول رشوة!!! هذا وجه رشوة؟؟؟ أتظنني غرابا لئيما لاحما مستذئبا!! كلا!!
بل هو تحفيز لي وتقدير لمجهودي في حماية الغابة جوا ونقل الأخبار فيها..هيا….الساعة..
ومن ساعتي رميت له ساعتي ولم أصبر ساعة أو أموت أنا وأُدفن بلا ساعة…
ثم مضيت وأنا أقول لنفسي: يا لهذه الحياة المتعبة، تعبت من حربها، وتهت في دربها، لكن المكتوب ما منه مهروب، فلأكمل..
فجأة، وقد لاح لي الجبل، وعبرت الغابة تقريبا ووصلت إلى واد عميق وفج سحيق، أحاطت بي الذئاب، هنا قلت أني لا محالة هالك، ظلوا يدورون من حولي ويتكلمون مع بعضهم بلغة لم افهمها، ثم قال أضخمهم وكان ذئبا أسود اعور يرتدي نظارات سوداء وعلى مخلبه الأمين خواتم وفي ذيله ساعة ميزتها بسهولة..إنها ساعتي..لابد أنه يأخذ من الغراب إتاوة أو تقدير لذؤوبيته…
أهلا بك أيها الضيف الجديد..أي شيء..مال، طعام، ملابس، نحن نقبل كل شيء، وسوف نساعدك في عبور الوادي وندلك على الجذع الخشبي الذي تعبر فوقه..
على الجذع الذي دلتني عليه الذئاب…كنت أحبو عاريا مرتعبا والريح تعوي من حولي والبرد يصفعني…وتحتي كان الوادي عميقا سحيقا فيه أفاعي تتلوى وتنظر إلي كأنها تدعوني للسقوط، كنت أبكي بحرقة وأتشبث بأظافري الدامية في الجذع كي لا تقتلعني الرياح العاصفة، وأكثر ما كان يخيفني..أني كنت عاريا ولم يعد لدي شيء أرشو به الأفاعي كي لا تآكلي سوى لحمي ودمي….نظرت إلى الجبل…لقد فقدت التعويذة أخذها مني ذؤوب صغير…تراءى لي فوق الجذع جني يلوح غاضبا، ومن خلفي كنت أسمع صوت العرافة تسعل وتقول: غبي، أضعت التعويذة…ثم ظهر في الأفق كلب طائر يحمل على رأسه طبق بيتزا…أخذ يقترب مني وبدأت رائحة البيتزا تغمرني…فخارت قواي..وقعت من الجذع في الوادي عاريا ملتاعا والأفاعي تفح فحيحا مرعبا..صرخت وقد ضرب رأسي بالطاولة..فتحت عني..لقد كان وجهي غارقا بالكامل في طبق البيتزا التي على مكتبي…آه من السهر….ضحك زملائي علي…فمسحت وجهي ببعض المناديل..اللعنة على قلة النوم..لقد بقيت سهرانا طول الليل أتابع فلما عن برج ايفل ثم شاهدت عرافتي المفضلة…مسحت وجهي بسرعة وقضمت قضمة من البيتزا ونظرت إلى بطني الضخم وربطة عنقي القصيرة…لقد كان كابوسا مقرفا…دخل شخص من الباب يحمل في يده ملفا وعلى عنقه علق ودعة…أخفيت البيتزا في الدرج..ابتسمت له بطيبة ذئب..وفركت أصابعي..فوضع بين بدي بعض المال الحلال..ضحكت له ولبست وجه الحمل..وأنا أرمي المال في الدرج فوق البيتزا وأقرأ الملف…
أجل..بسيطة..بدك كمان عمولة..وتمشي أمورك……ولا تظن أنها رشوة…نعوووووذ بالله..من الرشوة….
دمشق
12/04/2010 05:03:02 ص