12 دقائق للقراءة
في ربوع الصين القديمة…منذ آلاف السنين…حيث لا يمكن للرمز أن يصل…وللشخصيات أن تتشابه مع زمني والمكان الذي أنا فيه…حدثت قصتنا….وقد سمعتها من روحي ذات يوم من أيام “ليل الغراب”، حيث كانت مملكة النعام تمتد تحت الأرض وفوق الاحتمال…وكنتُ يومها مريضا جدا ومرهقا…لكن الروح همست في أذن قلبي هذه القصة فابتسمت ونهضت..وكان خلفي يسير ظلي السري..لكني مشيت أحمل القصة إلى أن انفجر النهار…انكسر الظل…وفر الغراب….
الآن، وبعد أشهر من ميلاد الملحمة، أجلس على تلة من الأفكار…ألامس العالم من حولي بأطراف ذاتي…وأتعمّق فيّ أكثر كل يوم…لأجدني أتذكر فجأة القصة التي حدثتني الروح عنها…ولأجد يدي تسارع لكتابتها… وهنا علي أن أختفي….
في تلك البلاد…أرض الصين الرائعة…حيث يمتد التاريخ موغلا في الأزمنة…ويمتد المكان موغلا في الشساعة..كان حاكم اسمه…طبيعي أن اسمه ليس القضية في قصتنا…فربما يكون اسمه أي اسم …”لاو” أو “تشانغ”…المهم أنه كان حاكما…منذ آلاف السنين…في مقاطعة ما من مقاطعات الصين…
يعترض أحد رواة القصة جازما أنها حدثت في الهند، راو آخر أقسم بكل ما يؤمن به أنها كانت في بلاد فارس….وتغيرت أسماء الحاكم وأمكنته وأزمنته…لكن تفاصيل القصة بقيت ذاتها كل مرة…
لنتفق إذا…أنها الصين قديما…ولنمض معا عبر الزمان والمكان لننظر في مرايا الماضي…حيث كان الحاكم يخرج كل صباح ليقوم ببعض الرياضة …شيء من قبيل التاي تشي…حركات هادئة في حديقة القصر…ثم يجلس في المكتبة فيقرأ…ويكتب…ويعزف على آلة Guzheng الوترية الشبيهة بالقانون…
كان شاعرا وفنانا وخبيرا في فنون الحرب…هادئا متواضعا وحكيما…
هذا يكفي…قال لكاتب قصته…سيمجدني الناس في كل عصر…وسأكون من الخالدين…
والحقيقة أن كل ما كتبه عنه كاتبه كان صحيحا في فترة من ما من حياته…لكن الحكم حوله تدريجيا إلى مهووس…وكان له هوس واحد بعد كرسي حكمه..”الشطرنج”….
يختلف الرواة أيضا عن كيفية تعلمه للشطرنج…لأن التاريخ لم يفصح عن أول من ابتكر الشطرنج…وبين من قال أنه ملك هندي أمر حكيما له بابتكاره كي يرد على الفرس الذين ابتكروا النرد… وسميت “شطرونجا”…وقيل أن اسم الملك “بلهيث مالبث “….وبعض العرب قال أنهم تعلموه من الهند وآخرون رجحوا أنهم أخذوا اللعبة من الفرس وأن أصل الاسم “شطرنج” من كلمة فارسية معربة هي “شدرنج”…وآخرون ردوها إلى النبي سليمان…أما الكتب القديمة في اليونان فتقول أن “يالاميدس” هو من ابتكرها…وقد وجدوا رقعة الشطرنج في مقبرة توت عنخ آمون…أكثر الفراعنة شهرة في هذا الزمان…وكذلك في حفريات في أور أشد قدما…لكن ما يريح الراوي … أن هنالك من يقول أن الحاكم الصيني “”هان شنغ” هو أول من أوجد هذه اللعبة، عندما طال حصاره لمدينة “شن سي”، من أجل تسلية جنوده، وسماها “تشوك- تشو- هنغ- كي” أي علم الحرب باللغة الصينية.
كان يتحول كل يوم إلى نقيض ذاته….حتى سيطر عليه الهوس كليا…فأصبح لا يقوم بأمر سوى لعب الشطرنج…لعب مع أهل البلاط وقادة الجيش والوزراء والحكماء فهزمهم جميعا…ولعب مع كل الحكام الذين قاتلهم أو قاتلوه..وكانت رقعة الشطرنج توضع بين الجيشين…وهكذا كسب المدن وأنقذ حياة الآلاف….
عندما لم يجد في بلاد الصين كلها من ينازعه عرش الشطرنج أرسل إلى حكماء الهند والسند يتحداهم…ولم يقف أحد أمام حدة ذكائه وقوة موهبته…فغذى ذلك غروره كما تتغذى النار بالخشب….
ذات يوم كان في موكب…ومضى إلى الصيد..حمل النشاب…وخفقت من حوله رايات حرسه….وعندنا بلغ الغابة…. رأى على مقربة منها كوخا…وبجانبه بعض الحطب…فحمله الفضول للنظر…فوجد رجلا رث الثياب نحيلا…يضع على رأسه مظلة من القش…
لم يبد اكتراثا للخيل …لا للجنود..ولا حتى للحاكم…
ضربه جندي بقسوة: “اركع أمام جلالته”…
شعر الجندي بألم في يده وقدمه تحول سريعا إلى خدر..كأنه أصيب بصعقة برق…ثم أغمي عليه…في حين ظل الرجل ثابتا…وبدأت الخيل تصهل وتقف على قوائمها…كأن خوفا غامضا ألمّ بها….
من أنت – سأل الحاكم
ومن أنت – أجاب الرجل
أنا الحاكم …قال الحاكم
وأنا الرجل – ردد الرجل..
لماذا لا تنحني أمام سيدك…
رفع الرجل نظره في الحاكم..فأحس بخوف غامض…لكأن يدا من حديد تعصر قلبه….
أنت…أنت تستحق الموت لجرأتك..كيف ترفع نظرك في مولانا الحاكم..قال أحد القادة وهو يشهر سيفه لكنه لم يضرب فمازال الخوف الغامض يسكنه مما حدث للجندي أمامه…فلربما كان الرجل من أرواح الغابة أو مردة الجن….
وماذا لو هزمتك – قال الرجل وهو يبتسم بهدوء…
تهزمني…أنت…ألا تعرف من أنا…أنا قائد جند الحاكم…لم يهزمني أحد في فن السيف مطلقا….أنا الأفضل…بعد سموه طبعا…
أمسك الرجل عصا كانت بجانبه…وأغمض عينيه…
نزل القائد من فوق صهوة حصانه…واقترب منه…ممسكا السيف بيمينه في وضعية فن الوودنغ….
وفجأة انقض عليه بضربة جانبية سريعة…لكنه لم ير أحدا…ركز بصره ولم يصدق عينيه…هل اختفى..إنه من الجن حقا…
أحس وخزا في ظهره…التف بسرعة خاطفة دون تفكير فقد تعلم رد الفعل التلقائي من سنين تدريبه الطويلة…فوجد الرجل يبتسم خلفه…
أكد الجنود أن الرجل اختفى..في حين رأى الحاكم أنها خدعة بصرية وأن الرجل ليس أكثر من ساحر….في حين فقد القائد سيفه في الحركة الهجومية الثانية التي قام بها دون أن يفهم كيف…ثم وجد العصا أمام وجهه…
ابتسم الرجل مجددا وحرك العصا القصيرة في يده بسرعة لا يمكن للبصر أن يتبعها…ثم رماها في الأرض الجافة فانغرزت عميقا…ومضى دون أن يلتفت…
لم يفارق خياله لحظة منذ أن رآه قبل شهر…كان يرى الكوابيس في الليل وكذلك بقية الجنود ومن رآه معه…لكنه في قرارة نفسه كان يشعر بالإثارة التي يثيرها التحدي في المحارب….
خرج في موكبه بعد أن أخذ أفضل مقاتليه…كانوا بعدد كتبية…ثم مضى إلى الكوخ بجانب الغابة…لكنه لم يجد أحدا..فأمر رجاله بحرقه…
لماذا تحرقه…هل أساء إليك…إنه قصري…
أحس بالبرد يغزو أطرافه…نظر خلفه…كان الرجل بملابسه الرثة وجسده النحيل يبلس مظلة القش…وكان الحر شديدا جدا…
أشهر الجنود سيوفهم وسنوا رماحهم ووضعوا النشاب في نبالهم…
وماذا لو هزمتك..قال الرجل مبتسما…
من تهزم…هتف قائد الجيش في حنق…
أنت..أشار بإصبعه إلى الحاكم…
أمسك الحاكم سيفه وهو يتردد في النزول ثم سأل:
كيف رأيت هجوم قائد جيوشي وأنت مغمض العينين؟؟
لأن بصيرة الروح المتحررة لا تحتاج لبصر العقل المحدود؟؟
وكيف اختفيت بتلك السرعة..
لأن أبطأ حركات الروح أشد سرعة من أسرع حركات الجسد؟؟
كان يعلم أنه لن يتمكن من هزيمته…لكن كبرياءه منعه من الرفض…
اعد سيفك إلى غمده…فلم أكن أعنيه..بل أهزمك في ما لم يهزمك فيه أحد من قبل..في الشطرنج….
سقط السيف من يده…سقط فك القائد…وسقط بعض الجنود أرضا…
أشيع في طول البلاد وعرضها…وعلم كل أهل الصين ممن تصلهم الرياح والغيوم والطيور…أن رجلا تحدى حاكمهم في الشطرنج….
إن فزت…آخذ ملكك…وإن فزت أنت…تأخذ حياتي..فهي كل ما أملك…قال الرجل بهدوء مميت…
كان يركز في كل حركة ويفكر كما لم يفكر من قبل…لكن الرجل هزمه….وأصبح هو الحاكم…هكذا بكل بساطة…وانتهت القصة…
جلس كبير الرواة…وقد بدا التعجب وعدم الرضا في وجوه من يستمعون إليه…ونهض راو شاب فقال:
بدأت الحكاية في قصر الحاكم عندما رأى رؤيا…رأى جيوشا من خشب…ورقعة…وقلاعا وفيلة…ورأى الليل والنهار مجتمعين يلعبان…وكان لكل جنود بلونه…جنود البياض وجنود السواد..وحين استيقظ قص القصة على حكيم العصور…وهو أحد كبار حكماء الزمان…فاستنبط منها لعبة الشطرنج…وأعطاه أسرارها….وحين مرت الأعوام أصبح الحاكم البطل الذي لا يضاهى في تلك اللعبة…لكنه كان ظالما قاسي القلب…يرزح في سجونه الكثيرون…وقد فكر الحكيم أن تلك اللعبة قد تنزع منه عدوانيته…وهكذا كان يعلمه كل مرة درسا مقابل الإفراج عن المساجين وانصاف المظلومين ..وحين تقع الحروب التي لابد منها..كان الحكيم يقنع الخصوم باستبدال الحرب بمعارك الشطرنج…وهكذا سيطر الحاكم على المدن وأبرم معاهدات كثيرة دون إراقة دماء…وكان ينتصر دائما…رغم أن الكثيرين استعانوا بالحكماء وأتقنوا الشطرنج…لكنه كان الأفضل لأنها كانت رؤياه…ومرت أعوام أخرى..ومات الحكيم كما قيل..وقد ردد بعض المغرضين أن الحاكم سممه بعد أن اشتاق إلى الشر الذي كان يسكن دواخله…وامتد غرور نفسه ليطغى كل ذرة في جسده وكل فكرة في عقله وكل أحساس في قلبه….
لكن آخرين رجحوا السبب إلى يقين الحاكم أنه طالما كان الحكيم حيا فهو سيظل الثاني في الشطرنج..لأنه وإن كانت من رؤياه..فهي من ابتكار الحكيم…وهو الأفضل حتما…وهكذا قتله ليكون الأول..لأنه يحب أن يكون الأول دائما…
ذات ليلة رأى في المنام نبتة فهمّ باقتلاعها…لكنه لم يستطع..فأمر رجاله أن يجتثوها..لكنها ظلت في مكانها وأخذت تنمو بسرعة لتصبح غابة احتلت كل ركن من القلعة والقصر…ووجد نفسه أمام جرف فانهار به وسقط وأرى عظام وجماجم من قلتهم وكان فوق الجرف رجل يشبه الحكيم لكنه رث الثياب يبتسم..
استيقظ فزعا ودعا حكماء قصره..لم يتمكن أحد من تعبير الرؤيا ..لكن أشدهم مكرا وكذبا قال أبشر يا مولاي فذلك مجدك يصبح غابة وتلك أحزانك تهوي في الجرف وذاك اسمك يبستم في قمة الخلود…
بعد أربعين ليلة…شعر برغبة في الصيد..فحمل النشاب ومضى برفقة بعض الجنود…
كانت قلعته قريبة في مدينة عامرة قرب بحر الصين..وكان فيها غابة كبيرة…مضى بمحاذاة الشاطئ…ولفت انتباهه زورق يقترب ببطئ..فتوقف وأمعن النظر..في حين اقترب الزورق رويدا…وكان على متنه بحار نحيل…أشعث رث…سارع بالنزول وأنزل سمكة لم ير الحاكم مثلها في حياته..كانت ذهبية تلمع تحت الشمس..تذكر أسطورة السمكة الذهبية التي طالما تكلم عنها الحكماء والكهنة..والتي تهب الخلود لمن يأكلها..وأن أحدا لم يتمكن من صيدها إلا إمبراطور بحر الصين..الذي اصطادها منذ آلاف السنين وتحول إلى حاكم للبحر ومعه حورياته الآسرات…وقلة رأوه بعد ذلك بعد أن أخفى مدينته كلها في أعماق المحيط فظلت أسطورة…
بسرعة ودون تفكير أمر جنوده فانقضوا على البحار المتعب…ضربه أحدهم بقسوة فأسقطه أرضا…وافتك الثاني منه السمكة بسرعة وهو لا يصدق عينيه…ووضع ثلث قدمه على وجهه وغرز الرابع رمحه قريبا من جنبه…
“أخيرا..الخلود..ومن أحق مني به”..
كانت السمكة لا تزال تتنفس…وكانت من الذهب الخالص..زعانفها من الماس والزمرد…وعيناها لؤلؤتان زرقاوتان…لكنه لم يكن يعرف كيف يأكلها..فلا يمكن للذهب أن يُشوى أو يُطبخ أو يمضغ…
فجأة ارتفعت موجة عظيمة مرعبة لم ير الحاكم مثلها حتى في خياله…وضربت بقوة..تطاير الجنود وغرق الأحصنة…تمسك الحاكم بلوح من ألواح الزورق…ثم لفه السواد..
فتح عينيه..كان في كوخ من الخشب …وبجانبه كان رجل يعد بعض الحساء…حاول أن يتذكر من يكون وماذا يفعل…أحس بوخز في رأسه..وكان تنفسه ثقيلا لكأن أضلاعه محطمة..التفت الرجل..وابتسم..
تناول الحساء…كان حساء سمك لذيذ…أراد أن يشكر مضيفه..ثم فجأة سمع قرع جرس في رأسه ورأى نفسه في اليم تحمله الامواج حتى أغمي عليه..وتذكر السمكة والخلود والحكم…فصرخ: حاكم يشرب حساء في منزل بحار بائس..أين سمكتي..أخبرني…أو أقتلك..وعلى مقربة سمع صهيل خيل لم يلبث أن اقترب …كانت كتيبة من حرسه مع قائد جنده..وسرعان ما كان في قصره..والبحار في السجن..
أخبرني عن السمكة أين وكيف اصطدتها وعن طريقة أكلها أو أقتلع عينيك وأرميك في وادي الثعابين..
وماذا لو هزمتك..قال البحار يهدوء..
تهزمني…وانت مقيد بالسلاسل…ومن حولي جنودي..وأنا أفضل سياف في العالم..
بل في تلك اللعبة..نلعب معا…فإن غلبتني جلبت لك السمكة وعلمتك سرها وكنت من الخالدين..وإن غلبتك أخذ حكمك وتاجك وقصرك…وأعطيتك كوخي وزورقي..
ضحك كل من في البلاط…وتعالى الضحك حين ضحك الحاكم..ثم اختفى فجأة حين صمت….واكفهر وجهه: تهزمني..ألم تعلم أنه لم يغلبني أحد…وأني “رب الشطرنج”…
ربما أن هنالك ربا أقوى منك…قال المزارع وهم يحملونه إلى حجرة من حجرات القصر.
“سنلعب بعدالة ..وسوف تأخذ فرصتك…لا أعرف كيف تعلم معدم مثلك الشطرنج..لكن لا بأس…سترتاح جيدا وتأكل أفضل الطعام..ولديك مهلة أربعة أيام…ثم نلعب…واعلم أني لا أُهزم..وأن عليك أن تنفذ الاتفاق…
وأنت أيضا يا حضرة الحاكم…عليك أن تفي بعهدك…وعم السكون المكان..
تدرب وتأمل وركز وتناول أعشاب تقوي الذهن وجمع كل حكماء مملكته…وأمرهم بجلب البحار فقد جاء اليوم الموعود…كان في قرارة نفسه يفكر في قتله بمجرد أن يريه سر السمكة..سأخلد ويموت ..كما فعلت بالحكيم…الذي علمني سر الشطرنج..وضحك شيطان نفسه حتى سكر..
كان يوم الشمس – يوافق ما نسميه يوم الجمعة أضاف الكاتب – وهو يوم يفضله لأنه يؤمن بالبخت والنحس…
ليس هنالك من داع لسرد تفاصيل اللعبة التي استمرت طيلة اليوم وكان الحكماء من حول حاكمهم والنفس يكاد ينقطع..لا أحد تخيل أن البحار يمكنه أن يصمد كل ذلك الوقت…ونزّ العرق من جبين الحاكم وصفع غلاما كان يحرك مروحة من ريش الطاوس بجانبه وشرب كؤوسا من عصير القوة وخليط الأعشاب ونهض إلى خلوته مرارا ورجع وهو يكاد يفقد عقله..في حين ظل البحار هادئا مستكينا…
لا أصدّق…قال قائد الحرس لزوجته..لولا أني رأيت الأمر بعيني لضربت عنق منا يخبرني به…مولانا الحاكم…أمهر من لعب الشطرنج..الرجل الذي لا ينهزم..يغلبه بحار بائس…
غالبت الزوجة ضحكة شماتة في قلبها وتظاهرت بالأسف..
اصفر وجهه حين سمع الكلمة …ما يشبه “كش ملك” قال الكاتب والراوي يحاول إخراجه من القصة –
أجل…أنا…بل…أعتقد…ربما..حسنا…وضرب الرقعة..إنه ألم في رأسي رهيب…لم أتمكن من….سوف….
سنعيدها مرة أخرى..قال البحار ببساطة وهو يبتسم ويغادر إلى كوخه البعيد…وسقط أحد الحكماء ميتا من هول المفاجأة..في حين ضرب قائد الجند أقرب جندي إليه فصرعه…
إنها مهمة مصيرية…قال القائد للحرس الملثمين أمامه..وهو تشريف مباشر من مولانا نفسه..عليكم أن تحرقوا زورقه..دون أن تضروا به…اتركوه بلا مأوى..ولا زورق أو شبك..ولا حتى قبس نار…وسوف تفعل الريح فعلها فيه..والبرد..والجوع…وذؤبان الغابة..وإن نجا من ذلك..فسيأتي متعبا…وسيغلبه سموه…
في أرجاء المدينة تسرب خبر عن هزيمة الحاكم..لكن جواسيسه اغتالوا كل من كانت له علاقة بنقله داخل البلاط وخارجه..وردد بعض عيونه أن فخامته كان مريضا ..وأنه لا يمكن أن يُهزم..ودعا البسطاء للحاكم بالصحة والنصر..وناموا حالمين..
ببراعة نفذ الحرس مهمتهم…وجزم قائدهم لقائده الذي أقسم لمولاه أن المزارع لن يرجع وسيقتله الجوع..
غبي…أرسل إليه بعض الطعام وغطاء..قل له أن الأمر حادث من بعض المغرضين الذين يريدون ان يشوهوا سمعة سمو الحاكم كي يقال أنه غير عادل ..وهاهي لفتة كريمة من فخامته…كي تعلم أنه صادق في عهوده…
لم يفهم الخادم وهو يحمل الطعام مع بعض الجنود…في حين تفطن قائد الجند إلى ضرورة استغلال الأمر لإظهار عدالة سيده..في حين ردد الحاكم في صدره المثقل بالحقد: يموت..وأظل بلا سمكة ذهبية…وأمضي للفناء…
في يوم الجمعة الموالي..قال الرواي كي يمنع الكاتب من التدخل والتفسير..عم الصمت في أرجاء القصر ..في حين تعالت الموسيقى في أرجاء المدينة كلها لأن الحاكم قرر القيام بمهرجان طويل للتسلية والفرح..ومكث الناس يرقصون ونسوا أمر البحار وقصة الشطرنج بل ردد أكثرهم سكرا ومعرفة أنها مجرد إشاعة..
جلس أمام الرقعة وقد لبس تاجه وملابسه المزركشة ونياشينه الذهبية..ومن حوله الوزراء والقادة وبعض الحرس وفي الأروقة جواريه وغلمانه…كان منظره يثير المهابة والرهبة في قلوب المحيطين به..وكان يرجو أن يتغيب البحار يومها فيخسر..ثم يعثر عليه جنوده في اليوم الموالي فينفذ عهده ويأتي بالسمكة..لكن ما كان يقلقه حقيقة أن أحد جواسيسه أخبره أن البحار اختفى ..أما ما كان يقلقه حقا فهو أن يأتي البحار حينها ويهزمه..فهو يعلم في يقين نفسه أن الرجل أذكى وأقوى منه..وان لديه قوة غامضة..ومن يدري..ربما يكون أكل سمكة الفضة التي تمنح من يأكلها حكمة العارفين وعلم كهنة الجن الغامضين…
اهتز قلبه على وقع خطى تقترب…مع وقت الموعد تحديدا…ثم دخل البحار وفي يده نبتة..تذكر فجأة الكابوس والنبتة التي حاول اجتثاثها فتحولت إلى غابة ورأى في عيني البحار الجرف والجماجم والصراخ وتذكر انه من كان فوق الجرف يبتسم..أجل..هو..البحار ذاته…وفي أعماقه انتحب شيطانه ومن حوله أمطرت سحب فوق رأسه ثلجا فأحس أن البرد يكسّر عظامه وأن الخوف يكاد يقتلع قلبه من مكانه..في حين ارتجف البلاط ومن فيه..
هذه العشبة نادرة يا سمو الحاكم…قال البحار وهو يجلس قبالته..ولقد مضيت إلى جبل الريحان وتسلقت الجليد لأجلبها لك..إنها تزيل كل الأوجاع وتصفي الذهن وتمنح شاربها قوة أربعين حصان وذكاء وقادا..
.
تظاهر بالسرور وأمر أخد خدمه بطبخها…بسرعة وجلبها ليشرب منها…كان يتحرك بلا تفكير ولا يعرف لماذا لم يؤجل ذلك ليتأكد أطباؤه أنها ليست نبتة سامة رغم إيماءات كبير حكمائه ورئيس أطبائه الذين كانا يقفان خلف البحار مباشرة..
شرب ماء النبتة وأكل منها..أحس بتوهج في وجهه وقوة في جسده وشعر أن عقله يتيقظ وأن ذهنه يتوقد كما لم يتوقد من قبل…
استمرت لعبة الشطرنج يومها إلى منتصف الليل…فقد ابتكر قوانين جديدة منها استراحة للأكل وأخرى للتأمل..وكان يسأل حكمائه الذين تابعوا كل حركة والبحار في مكانه …ورغم كل ذلك الزخم من القوة والذكاء والنصائح..فهو لا يعرف كيف وجد نفسه يذعن للحقيقة…كش ملك…وارتعد جسده..هل يأخذ بحار حكمه ويصبح هو بحارا بائسا..فكر في البرد وفي الريح وفي الكوخ الخشبي والبؤس..فكر في جواريه وقصره وكنوزه وأمجاده..ولم يخرجه من غمّ هواجسه سوى صوت البحار الهادئ: أعتقد أن النبتة سببت لك عوارض التشتت..هذه أيضا لا تُحسب…موعدنا الأسبوع القادم…وغادر كالطيف ومن حوله من في البلاط قد تحولوا إلى رخام …
لم يصدّق أحد من أهل البلاط عينيه ولا فهم الحكماء شيئا..حتى هو لم يفهم..فالرجل ذكي فوق الاحتمال…وبسيط أكثر مما ينبغي..كان يريد أن يبث الرهبة فيه بملابسه وتاجه وحرسه..لكنه هو من سقط في هوة المهابة حد الرعب من مظهر البحار البائس وملابسه الرثة وعينيه الغامضتين…والتي يختفي فيهما نمر غاضب وتنين مزمجر ينفخ اللهب…
للأسبوع العاشر…كان الحرس ينفذون الأوامر بعناية…في البداية أمرهم الحاكم باختطاف المزارع ووضعه في كهف دون طعام ولا شراب ولا نوم…حتى يحطمه التعب..ثم رميه بجانب القصر…لينفذ عهده ويجلب السمكة..بعد أن يخسر طبعا لأنه سيكون على حافة الموت..لكن الرجل نهض رغم جوعه وتعبه وسغبه…وربح الحاكم في ساعتين…
ثم أمرهم بتقييده ووضعه في قبو مظلم وجلده كل يوم حتى يسلخ جلده..بل وقلع أظافره وتحطيم أصابعه…ثم سنعالجه قال…بعد أن أغلبه..وسيأتي بالسمكة..كان ما يزال يريده حيا..لكن البحار هزمه في ساعة واحدة…بيد دامية وأصابع محطمة وجلد نازف..
ثم أمرهم حينها بوضعه في قارب وتقييده بسلاسل الحديد…ولتذهب السمكة إلى الجحيم..فقد أصبح الأمر محرجا له..كما كثر الكلام في المدينة ولم يعد جواسيسه يستطيعون قتل كم من يرد قصة البحار وهزمه للحاكم..او سيقتلون سكان المدينة والمدن المجاورة…
حين جاء البحار وغلبه في نصف ساعة…قتل كل الحرس الذين القوه في البحر متهما لهم بالخيانة …ومضى بنفسه متلثما مع قائد حرسه وبعض الجلادين وقيده بيديه ورآه بأم عينيه يغرق..نزع اللثام عن وجهه وقال: انتهينا منه..وكانت زوجته تعد له التمائم لتخلصه من الكوابيس وتدعوه لقتل المزيد من الخصوم…وكانت تغار من الشطرنج فدعته لتحريمه..وهكذا صار الشطرنج محرما وسوف يعدم من يلعبه..لابد أن ينسى الناس قصة الشطرنج الملعون..
لكن أمام عينيه الذاهلتين وعيني زوجته الزائغتين وأعين أهل بلاطه المغشية دخل البحار مبتسما وغلبه في دقائق ثم غادر صامتا…
أمرهم بقتله…وتعليق جسده فوق أسوار القلعة…كي يعرف الناس عقوبة من يتحدى الحاكم ويخالف التعليمات…وفي يوم الجمعة المحدد كان أمامه يبتسم ويغلبه ويمضي..
حُسم الأمر..قال لوزرائه ومستشاريه وجلاديه…لقد جلبت ساحر بحيرة الدم…وهو من سيقضي عليه…
خذوه فضعوه في بحيرة الدم..هنالك سيذهب سحره وتزول قوته…ثم مزقوه إربا..وأطعموا لحمه للكلاب..ثم مزقوا الكلاب..وأطعموا لحمها لذئاب الجبل..ثم مزقوا الذئاب…وألقوا لحمها لأسماك القرش..فيصبح هباء في هباء في هباء..
احتفل أهل القصر ليلة الجمعة…وهنأ الحاكم نفسه على كل يوم يعيشه..ولم يعد يهتم بالخلود ولعن السمكة الذهبية بل أمر ببيع البحر وقتل كل البحارة..وشرب الخمر مع زوجته وحاشيته ونام قرير العين..وفي منامه وجد نفسه ينظر من كوة الباب..فرأى الحرس يمسكون جسد البحار..لكن البحار كان يجلس فوقهم..معلقا في الهواء..وكان الحرس يمسكون أوهامهم متجسدة فيما يشبه البحار..فمزقوها..وأغرقوها…وعلقوها فوق أسوار المدينة..والبحار يبتسم..ثم رآه يتحول إلى كبير حكمائه الذي علمه الشطرنج واغتاله بالسم…ثم وجد نفسه يسقط في جرف..والنبتة تخنقه بجذورها ثم ترميه في بحيرة الدم… ورأى الأفاعي والجماجم وسمع صراخ المعذّبين..وبعدها حملته موجة ثم طوته إلى جوف البحر..وهنالك وجد أسماكا ذهبية وفضية ورأى قصورا من الماس والزمرد…دخل من الباب ورأى في مرآة في بهو القصر وجهه قزما ذميما ..وكان يجلس البحار الحكيم …ثم رآه يتحول إلى ملك بملابس لم ير أجمل منها وبملامح تنطق بالقوة والعزم و وجه مهيب رهيب..وعلى رأسه تاج يضيء كأنه قطعة من الشمس..ضربته موجة بعنف…اخسأ أيها القزم الأعمى..أنت في حضرة امبراطور البحار…
قيل أن الحاكم جن يوم الجمعة…وقال آخرون أنه فر مع زوجته من المدينة..لكن جميع الرواة اتفقوا أن ليل الغراب انتهى…أو كاد…في حين وقف امبراطور البحر فوق موجة ..ومد يده فظهرت حمامة بيضاء..طارت عاليا وحلقت بعيدا…وأمامه كان البحر الأزرق ينتفض وكانت الأرض الخضراء تبتسم..وفوقه كانت السماء رقعة شطرنج..تتحرك فوقها قطع الليل والنهار ..وتحركها يد لا يستطيع أحد أن يراها..ولا حتى امبراطور البحار…..
جربة
11-10-2011 20:46:28