5 دقائق للقراءة
حين تنطلق من اسطنبول وتمضي بك السيارة في النفق الذي يلتوي مثل الثعبان تحت البحر، ثم تقطع مسافة أخرى في البر، ستجد نفسك أخيرا في عبّارة تقطع بك اليم نحو مدينة جميلة لها تاريخ طويل وقصص كثيرة، لعل أجملها ما يمكن أن تشاهده في الفيلم التركي الرائع (الأب الخباز أو سر العشق) الذي يحكي عن قصة العاشق الإلهي صمونجي بابا وتلميذه آق شمس الدين القائد المعنوي لفتح القسطنطينية، وخبره مع الولي الصالح السيد أمير سلطان صهر السلطان بايزيد الأول، وقصة جامع بورصة الكبير، وقصصا أخرى كثيرة.
إنها ثاني عاصمة عثمانية بعد سوغوت ( 1299م إلى 1335م)، حيث أصبحت العاصمة من سنة 1326 إلى سنة 1365. وقد تأسست سنة 186 قبل الميلاد، واسمها مشتق من اسم مؤسسها بروسياس ملك بيثينيا….
فأهلا بكم في بورصة الخضراء “Yeşil Bursa”.
تقع مدينة بورصة في منطقة مرمرة، شمال غرب تركيا، بين اسطبنول وأنقرة، عدد سكانها في تعداد سنة 2010 ما يقارب 1.2 مليون نسمة، وهي رابع المدن التركية سكانيا ومن أهم المدن الصناعية، وسميت بالخضراء لأنها تقع وسط غابات خضراء، مع كثرة حدائقها، ويمتد فيها نهر جيلومبوز الجبلي، وأنهار أخرى، وينتصب خلفها جبل أولوداغ (الجبل الضخم أو الضالع) الذي يرتفع أكثر من ألفي متر، ويمثل منتجعا للتزلج، وكان صعوده وسط الضباب والمطر في المعبر الهوائي “التلفريك” مغامرة ممتعة كانت تكون أجمل لولا كان الطقس أفضل. وقد كان المشهد شبيها بأحد الأفلام مع مؤثرات سينمائية عالية.
أطلق العثمانيون على بورصة اسم (خداوندكار) وتعني هدية الله، وقد سيطروا عليها سنة 1326 على يد السلطان أورخاي غازي (السُلطانُ الغازي شُجاعُ الدين والدُنيا أُورخان خان بن عُثمان بن أرطُغرُل القايوي التُركماني
وهو ثاني سلاطين آل عثمان، وكانت قبل ذلك بيد البيثينيين ثم الرومان والبيزنطيين والسلاجقة ثم الصليبيين، وازدهرت مع العثمانيين حتى دمرها تيمور لنك سنة 1402 ثم استعادها العثمانيون، ثم بدأت تفقد الكثير من مكانتها حيت انتقلوا إلى أدرنة كعاصمة لهم عام 1413، ثم اسطبنول سنة 1453.
في بورصة الكثير من الجمال، طبيعة ومعمارا، وفيها الكثير من الآثار العثمانية، ولعل أهمها مسجد بورصة الكبير أو مسجد أولو جامع أو الجامع الأعظم، وقد أخذ اسمه من جبل بورصة الشاهق، وبناه السلطان بايازيد الأول أواخر القرن الرابع عشر (بين سنتي 1396 و1399) على الطريقة المعمارية السلجوقية، وله عشرون قبة ومئذنتان.
لقد شعرت بروحانية عالية وأنا أزور الجامع، خاصة حين تستشعر قصته وخبره، والذي يمكن أن تشاهد تصورا دراميا رائعا له في فيلم الأب خباز أو صمونجي بابا.
يدخل السلطان بايزيد الأول بن مراد بن أورخان (بلدرم خان أو بلدرم الصاعقة أو البرق كما سماه والده) لافتتاح الجامع في سرور وأبهة، ومن حوله الأعيان والوزراء والعلماء وكثير من الرعية، ويطلب من صهره السيد الشريف والرجل الصالح والعالم الكبير أمير سلطان أن يلقي خطبة الجمعة، فيقف “أمير سلطان” قرب المنبر ويجول ببصره ليفتش عن العالم “صمونجي بابا”، ويقول للسلطان: كيف أتكلم وهنالك من هو أعلم مني، وليس في هذا الجامع من هو أحق منه لإلقاء الخطبة”، ويستجيب صمونجي بابا مضطرا، لقد تم كشف سره، وهو الذي كان يوزع الخبز على عمّال المسجد طيلة فترة البناء دون مقابل، وكان الناس يظنونه رجلا بسيطا يبيع الخبز، وتكلم صمونجي بابا في تفسير سورة الفاتحة من سبعة وجوه، فأذهل السلطان وكل العلماء والوزراء، وقال العالم الكبير المُلا “شمس الدين فناري” قاضي بورصة الذي كان حاضراً و سمع هذه الخطبة، فقال فيما بعد لأصدقائه: “لقد شاهدنا هذا الرجل و تبحره في العلم و التفسير، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع، والتفسير الثاني فهمه البعض، والتفسير الثالث فهمه القلّة والخواص فقط، أما التفسير الرابع والخامس والسادس والسابع فقد كان فوق طاقة إدراكنا.[7]خاصة هذا الرجل من إلقاء هذه الخطبة”.
ويتوسل الملا شمس الدين وأمير سلطان للأب الخباز بأن يبقى، لكنه يقول: سرنا ان نكون سرا، ويسافر مع تلميذه إلى مكان لا يعرفهم فيه أحد.
صمونجي بابا اسمه الحقيقي حامد آقصرايلي (731 هـ/1331م – 814 هـ – 1412م)، وقد تلقى العلم والتصوف سنين طويلة في الشام وتبريز وأردبيل، ثم مكث سنينا مع الشيخ والعالم الكبير علاء الدين الأردبيلي وتزوج ابنته، وذاب في العشق الإلهي وساح في أرض الله مخفيا نفسه في إعداد الخبز وإطعامه للناس، حتى التقى تلميذه آق شمس الدين الذي صحبه ما تبقى من حياته حتى توفي في مدينة آق سراي.
وآق سمش الدين أو شمس الدين الأبيض، هو عالم محمد شمس الدين بن حمزة (792هـ،1389-1459م الدمشقي مولدا، والذي اكتشف مكان قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وكان معلم السلطان محمد الفاتح ومربيه، وقد علمه علّمه القرآن والفقهوالرياضيات والفلك والتاريخ، وكان القائد المعنوي لفتح القسطنطينية، وكان على تصوفه وفقه عالما في الطب والنبات والصيدلة، “من أشهر مؤلفاته كتابين في الطب هما “مادة الحياة” و”كتاب الطب” وهما باللغة العثمانية، وسبع كتب باللغة العربية من أهمها “حل المشكلات” و”الرسالة النورية” و”رسالة في ذكر الله”. ومن كتبه أيضاً “مقامات الأولياء”.
أما صهر السلطان بايزيد الذي طلب من صمونجي بابا أن يلقي أول خطبة جمعة في الجامع الكبير ببورصة، فجامعه ومقامه وقبره ليس بعيدا، وحين تصل إليه ستجد طرازا معماريا جميلا، وسوف تكون في حضرة أحد سلاطين الظاهر والباطن: أمير سلطان.
بكثير من المحبة دخلت مقامه، وبالكثير من عشق الروح عانقت روحه، فهو هو السيد الشريف شمس الدين محمد بن علي آل حسين البخاري (وُلد في بخارى عام 770هـ /1368م؛ توفي في مدينة بورصة 833هـ/1429م)، وجده الأكبر محمد بن الحسن المهدي، من نسل الإمام الحسين بن علي.
وقد تزوج من “خوندي فاطمة سلطان خاتون” ابنة السلطان بايزيد، وسمي “أمير” لنسبه الشريف، وسلطان لزواجه من ابنة السلطان، فجمع له الله سلطاني الظاهر والباطن، ولله أن يكرم من يشاء.
وقد بني جامعه بين أعوام 1366-1429م تقريبا، ومن المحتمل أنه بُني أثناء حكم محمد جلبي (السلطان محمد الأول) ثم أُعيد بناؤه في عام 1804م بناءً على أوامر السلطان العثماني سليم الثالث، وأُعيد بناؤه مرة أخرى في عام 1868م.
في المقام قبره وقبر زوجته وابنهما أمير علي وابنتيهما، ولكن فيه أيضا بركات آل البيت والصالحين، وأنوار يراها صاحب القلب والبصيرة.
من بورصة سأرجع إلى اسطنبول التي تبركت فيها بقبر ومقام الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وكان لي فيها أيام من التجوال، من جامع السلطان أحمد ومتحف توب كابي والآثار الشريفة، إلى ساحة تقسيم وجامع الفاتح، وجامع السلطان سليمان القانوني، إلى الكثير من القصص الصغيرة واللقاءات الجميلة، لكن تبقى بورصة ذات روح مختلفة.
لقد غمرتني بورصة بكرم كبير، وكنت أتمنى زيارتها منذ شاهدت الفلم الذي مس شغاف روحي، وها قد أكرمني الله بذلك، لأسير على خطى الصالحين وأتنسم الهواء الذي تنفسوه، ففي كل ذلك رحمة عظيمة وبركة حاصلة.
غادرتها وقد انهمرت من روحي القصائد والمواجيد، راجيا أن أرجع إليها لأمكث فترة أطول، فما أقصر يوما واحدة على بورصة، بل ما أقصر عمرا واحدا على لحظة من حياة ولي من أولياء الله الصالحين وعشاقه المخلصين.