التصوف الفلسفي للإمام الغزالي من خلال كتاب مشكاة الأنوار ج 3

6 دقائق للقراءة

/ التعريف بكتاب مشكاة الأنوار:

كتاب صغير الحجم ألفه الإمام الغزالي في أواخر حياته، وهو رسالة كتبها ردا على سائل سأله حول معنى قوله سبحانه وتعالى “الله نور السموات والأرض(الآية)”، وليس التاريخ المحدد للتأليف بثابت كما يرى ا محقق الرسالة الدكتور أبو العلا عفيفي (1897 –1966)، المختص في الفلسفة والتصوف الإسلامي:” لكنا لا نستطيع أن نضع تاريخاً محدوداً لتأليفها كما فعل الأستاذ ماسنيون في كتابه “مجموع نصوص غير منشورة خاصة بتاريخ التصوف في الإسلام: باريس 1929” حيث يقول إنها ألفت في الفترة ما بين 495 ب 505، وهى الفترة التى قضاها الغزالى في طوس وعكف فيها على التأليف والعبادة. ويذكر ماسنيون من مؤلفات الغزالى في هذه الفترة كتاب “معيار العلم” وكتاب “محك النظر” وكتاب “المقصد الأسنى” ورسالة “مشكاة الأنوار”. ولكنا نرى في “مشكاة الأنوار” إحالات على هذه الكتب جميعها مما يدل على أن الغزالى ألفها قبل المشكاة، ولا ندرى إذا كان ألفها كلها في نفس الفترة التى يحددها ماسنيون. ولا نظن أن للأستاذ ماسنيون من السند التاريخى ما يعتمد عليه في تحديد سنوات تأليف كتب الغزالى على النحو الذى رسمه.”.

ثم يضيف: “لم تلق رسالة “مشكاة الأنوار” من عناية الباحثين ما لقيه بعض كتب الغزالى الأخرى على الرغم من أهميتها ومنزلتها العالية بين كتب المؤلف التى كتبها في عصر نضجه. والرسالة جديرة بالدراسة والتحليل العميق لما تلقيه من ضوء على بعض المسائل التى عالجها الغزالى في كتب سابقة عليها، ولأنها تصور الموقف النهائى الذى وقفه من هذه المسائل. وقد جرؤ فيها على ما يجرؤ بالتصريح بمثله في أى مؤلف آخر: فقد أشرف فيها على القول بوحدة الوجود، وخلص بعد مناقشات طويلة إلى القول بأنه ليس في الوجود موجود حقيقى إلا الله؛ لأن كل ما سواه مستمد وجوده منه؛ وما كان وجوده عارية فهو في حكم المعدوم. فالعالم في حقيقته لا وجود له. وأقصى ما صرح به في كتبه الأخرى قوله “إنه ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره”.

ولعل السر في عدم إقبال الباحثين على دراسة هذه الرسالة أنها تدور حول موضوع خاص ضيق في مظهره وإن كان واسعاً عميقاً في حقيقته.

فقد يتوهم الناظر فيها نظرة عابرة أنها ليست إلا تفسيراً لآية قرآنية خاصة هي آية النور، ولا يدرك أن الغزالى قد لخص في هذا التفسير فلسفة إشراقية كاملة، ونظرية في حقيقة الوجود كما يتصوره. ويتجلى في الرسالة إلى جانب هذا المنهجُ الذى التزمه الغزالى في تأويله للقرآن وتخريجه للمعانى الباطنية فيه، وهو المنهج الذى لا شك في أن ابن عربى قد حاكاه فيه عندما استخلص مذهبه الفلسفى الصوفى كاملاَ من طائفة محدودة من الآيات القرآنية، وإن كان الغزالى قد قصر منهجه التأويلى في الأغلب على الآيات التى يضرب فيها الله الأمثال للناس في حين أن ابن عربى التزم هذا المنهج في تفسيره للقرآن برمته”.

والرسالة مبحث إشراقي بامتياز، سابق للسهروردي، يجعل الإمام الغزالي المؤسس الحقيقي لتلك المدرسة التي تجاوزت الفلسفة المشائية إلى آفاق أرحب.

قسم الإمام الغزالي رسالته إلى ثلاثة فصول:

*الفصل الأول: في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقه له.

*الفصل الثاني: في بيان مثال المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار.

الفصل الثالث: في معني قوله عليه السلام: “أن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره”.

وسوف نحاول أن نتبين المنهج الصوفي الفلسفي للإمام الغزالي الذي طرحه من خلال هذه الرسالة القيّمة والأثر الفريد.

4/ التصوف الفلسفي للإمام الغزالي من خلال كتاب مشكاة الأنوار.

تبني الرسالة أو الكتاب على تفسير آية قرآنية لها مقام كبير في الوجدان المسلم، فهي مع آية الكرسي من محكمات الكتاب والآيات الأهم والأقدس عند المسلمين (رغم قداسة القرآن كله)، وكثير من العلماء تكلموا عن خواص هذه الآية العظيمة، واهتم المتصوفة بها أكثر من سواهم.

الآية هي الخامسة والثلاثون من سورة النور، قال سبحانه وتعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) “.

وفي الآية كلام عن موضوع على غاية القيمة، يقترب من الروحانية، ويغوص في الرحمانية، وينجلي في فلك الجمال، فالنور مهم في القرآن وفي وجدان المسلمين، والله سبحانه وتعالى بيّن قيمة هذا النور، وخصص منه أنوارا وجعل فيه أسرارا، من نور خُلقت منه الملائكة، إلى نور الهداية، وقد ذكرت كلمة “نور” في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة، ضمن سياقات ربطت النور بالألوهية (الله نور السماوات والأرض) وبالقرآن والتوراة والإنجيل، وكذلك بمعاني أخرى كنور القمر ونور البصر، وغالبا ما يقترن بضده (الظلمات) ليكون تعبيرا عن الانتقال من حال إلى حال، من موت إلى حياة، ومن ضلال إلى هداية. وكذلك عن حال المؤمنين يوم القيامة ونورهم، وإشراق الأرض بنور ربها، والآيات في السياق كثيرة.

وقد ذكر صوفي الإشراق السهروردي النور، فقال أن (” الله نور الأنوار” ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي و الروحي. وأن “النور الإبداعي الأول” فاض عن “الأول” الذي هو ” الله/نور الأنوار” وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها “القواهر العالية” وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها “أرباب الأنواع ” تدير شؤون العالم الحسي، فابتدع السهروردي عالماً أوسط بين العالمين العقلي “نور الأنوار” والعالم المادي سماه “عالم البرزخ” و”عالم المُثل” وهو ما يذكّر بعالم المُثل عند أفلاطون[1]“).

ولكن الإمام الغزالي كان له منهج علمي مختلف في مسألة النور، ضمن مسار حدده في الفصول الثلاثة. ونرتبها على النحور التالي:

أ/ مراتب النور عند الإمام الغزالي:

يرى الإمام الغزالي أن النور أنوار ومراتب، ويميز في ذلك ويعلل حتى يصل إلى حقيقة هي عنوان فصله الأول: (في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقه له).

وملخص ما ذكره عن مراتب النور لدى العامة والخاصة والخاصة وخاصة الخاصة، وتقسيمه الحسي وما يرى به البصر، والعقلي وهو أعلى، فهو في قوله: ” لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه”.

فهي مراتب محددة، تجعل الأنور يصدر بعضها عن بعض، تصاعدا حتى تصل إلى نور هو المصدر الذي ينكشف به وله ومنه.

 وكل هذه الأنوار مصدرها النور الإلهي، فهو النور الحق والحقيقي والأوحد، وما عداه منسوب إليه، وصادر عنه، وخاضع له. ويجعل للأنوار رسما بديعا ومثالا جميلا فيقول:” الأنوار السماوية التى تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوءُ القمر داخلاً في كوة بيت واقعاً على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكساً منها إلى حائط آخر في مقابلتها، ثم منعطفاً منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط، وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها.”

فالنور متصل بالنور، بين نور حسي وآخر معنوي، ولكن النور الذي به يقوم كل نور، هو الله سبحانه، وهنا يغوص الإمام الغزالي في احوال أهل الكشف والذوق، رغم إشارته الدائمة في كتابه إلى أنه يوجز إيجازا ويختصر اختصارا مراعاة لمستوى إدراك سائله الذي خط إليه الرسالة، فيقول:” فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال “ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله” لأن منهم من يرى الأشياء به. ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؛ وإلى الثانى الإشارة بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق} فالأول صاحب مشاهدة، والثانى صاحب الاستدلال عليه: والأول درجة الصديقين، والثانى درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهم إلا درجة الغافلين المحجوبين.


[1] عن مقال: السهروردي عالم شاب قتله الفقهاء غيظا من علمه”، لفارس سعد [نُشر في 2014/08/02، العدد: 9636، ص(14) جريدة العرب]

# ، ، ، ،

مقالات ذات صلة

في شهود البيت العتيق
وأنت بجوار الكعبة المشرفة، تشهد المشهد العظيم، ترى بعينك الطائفين، وترى بقلبك الأولين، وتنظر بروحك إلى وجوه النبيين، من آدم الأول، بعد أن تاب...
3 دقائق للقراءة
عن الحق والباطل
كل فضيلة تقع بين رذيلتين.الكرم بين البخل والتبذير.والشجاعة بين الجبن والتهور.وكل حق يقع بين باطلين: باطل يحجبه، وباطل يسعى لتزييفه. هكذا حدثتني الروح، وهكذا...
< 1 دقيقة للقراءة
في مقام الوالدين
عظم الله قدر الأم، وأبان عن عظيم شرفها في كتابه، وأوصى الإنسان بوالديه ووصّاه ببرهما، فقال عز من قائل: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ﴾ [العنكبوت...
2 دقائق للقراءة
وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة