4 دقائق للقراءة
ب/ النور الظاهر، والنور الإلهي:
يميز الإمام الغزالي بين فرعين من النور: نور ظاهر به يرى البصر، ونور الله الذي به ترى البصيرة، وكما يمنح النور الظاهر للعين والبصر قدرة الإبصار، فإن البصيرة تستمد من النور الإلهي ما به تظهر لها الأشياء. فيقول شارحا ذلك: “وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع التفريق وخفى الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد؛ فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره”.
وأنت ترى كيف جعل لما أراد من معنى النور توصيفا دقيقا واستدلالا حكيما بالشمس والقمر وما دونهما، وكيف جعل تلازما بين ما يراه البصر وما تراه البصيرة بحيث إذا صح أن النور أظهر للبصر ما أظهر، فالأكيد أن النور الرباني أقدر على ذلك في البصائر.
ج/ بين نور العين ونور العقل: يعلي الإمام الغزالي من مكانة العقل في مشكاة الأنوار، ويعطي لعوالم المعنى قيمة أعظم من عوالم المادة، فالروحانية عنده أعظم من الجسمية، والعقل أعظم من الحواس، يقول في صدد ذلك: “” فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضه”. فالجسم في نظر الغزالي أخس موجودات العالم، واللون والشكل وما تدركه العين أخس الأعراض الظاهرة، وهو لذلك يبرر سبب تقديمه لنور العقل على نور البصر، وللعقل على العين الحسية، فيقول: ” إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بَعُد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيراً في إبصاره: فيرى الكبير صغيراً والبعيد قريباً والساكن متحركاً والمتحرك ساكناً. فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعرى هل هو أولى باسم النور أم لا؟
واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها وهى التى يعبّر عنها تارة
بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنسانى. ودعْ عنك العبارات فإنها إذا كثرت
أوهَمَت عند ضعيف البصيرة كثرة المعانى. فنعنى به المعنى الذى يتميز به العاقل عن
الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه “عقلاً” متابعة للجمهور
في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن
يسمى نوراً من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر
نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالماً وقادراً: ويدرك علم
نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا
تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراءه سر يطول شرحه.
والثانى أن العين لا تبصر ما بَعُد منها
ولا ما قرب منها قرباً مفرطاً: والعقل يستوى عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفة
إلى أعلى السماوات رقياً، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هوِياً. بل إذا حقت
الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات
قدسه معانى القرب والبعد الذى يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى،
ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة…
الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب،
والعقل يتصرف في العرش والكرسى وما وراء حجب السماوات، وفي الملأ الأعلى والملكوت
الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعنى بدنه الخاص. بل الحقائق كلها
لا تحتجب عن العقل”.
وهذه النزعة العقلانية تبين مدى تعمق الغزالي الفلسفي، فهو لم ينجرف إلى التحقير من العقل أمام النقل كما يفعل غلاة الفقهاء، ولا فصل العقل عن الروحانية كما فعل الفلاسفة الماديون في مراحل لاحقة، وهي موازنة نادرة ورؤية فريدة بحق.
د/ النور الحقيقي، والنور المجازي: يرى الإمام الغزالي أن نور الله هو النور الأول، وأن الله هو النور الحق، وكل ما عدا ذلك من أنوار فهو مجازي غير حقيقي، لذلك يقول: “بل أقول ولا أبالى إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض”.
وهذا يفتح على نظرة وجودية كاملة، فالغزالي يجعل كل شيء وكل نور محاقا مندثرا ومجرد صورة مجازية أمام النور الأول، وهذا ذوق صوفي رفيع يلتقي فيه مع السهروردي في نقاط، ولكنه تفصيله أدق وأجلى وبرهانه أقوى وأدل.
# الإمام الغزالي، التصوف، التصوف الفلسفي، الدكتور مازن الشريف