2 دقائق للقراءة
منذ عام في دمشق الفيحاء، كنا قد فرغنا للتو من زيارة الشيخ محي الدين بن عربي، ونزلنا ثم ركبنا السيارة، فقال لي أخي الشيخ عيسى العلي وهو يشير إلى شيخ يصعد مسرعا: هذا هو الشيخ فتحي، من أهل الله، فلنسلم عليه.
لم أكن أعرف الرجل ولا رأيته من قبل، ولكني حين صافحته شعرت بروحانية عالية، وكلمني مبتسما وسألته الدعاء، وقال لي: نحن نسعى، والله بيعين، بلهجته الشامية الجميلة.
مصافحة ولقاء لدقيقتين، ليس أكثر، ومضى كل منا إلى سبيله.
بعد ذلك بحثت عن “الشيخ المضحك” كما سميته، ووجدت مقاطع كثيرة فيها قصص طريفة وبساطة عذبة، ورأيت انشراح الناس، رأيت خلف ذلك رجلا يتألم بحق، ولكنه يزرع الابتسامة في زمن الحزن، كأنه نفحة من نفحات الشام الجريحة والمباركة.
لم يكن في أدبيات الخطاب الديني الرسمي مثل ذلك الانبساط، ولا تجد من يحدثك عن توبته ويقول لك: أجل وجدني الله ضالا فهداني.
المضحك المبكي في الأمر أني لم أعرف الرجل معرفة العقل حين صافحته في ذلك اللقاء القصير، وإلا كانت الأمور اختلفت، وكنت سعيت إلى لقاءه لمدة أطول، ولكن قدري وقدره قد كتب لنا فيه في الدنيا فقط ذلك اللقاء، مصافحة ليس أكثر.
لكن أليس الفراق الحتمي يحول المدة الدنيوية مهما طالت إلى لحظات:
“لكل لقاء بين خلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليلُ”
أليست الدنيا لمحا قصيرا ومجرد مصافحة عابرة.
لقد آلمني كثيرا خبر وفاة الشيخ فتحي الصافي، الذي غادر كآبة الخطاب الديني الرسمي وثقل كثير منه على قلوب الناس، وتعالي كثير منه على العامة الخطائين، وادعاءه الكمال وتمثيل الذات المحمدية والذات الإلهية بتلك المهابة والنظرة العابسة، غادر كل ذلك إلى انبساط وسرور وكلام بلسان عامي جميل، وقصص سلبت القلوب وزرعت الفرح في فترة حزينة مؤلمة عاشتها الشام وتعيشها الأمة كلها.
الشيخ فتحي الصافي مدرسة بحق، ولست أبخس قدر الكثير من المشائخ ذوي المهابة والعلم، ممن أخلص قلبه، إنما أرى وجوبا على أهل العلم الشرعي أن يتعلموا كيف يزرعون الفرح ويجنون الحب، وكيف يقتربون من الناس فيقترب منهم الناس، وكيف يعرفون أين تصبو قلوب الشباب وماذا يريدون أن يسمعوا من علماء الدين، بيسر ومحبة ولطف وانشراح، فهذا الدين دين شرح الصدر، دين نبي شرح الله صدره، وجعله معلما محبوبا، لا يتنكر لماضيه، ولا يتعالى على الناس، وهو الذي قال أنه رعى الأغنام، وأنه ابن امرأة كانت تأكل القديد في شعاب مكة.
رحم الله الشيخ فتحي الصافي الذي شيعته دمشق، وبكته مساجدها، وتابع جنازته الملايين على مواقع كانت حكرا على المفسدين من جانب، وما يبثونه من سموم بأرقى أنواع التصوير وأفضل آليات الإخراج المبهرة الخلابة، وأصحاب التكفير وخدعه وقصصهم الفارغة مضمونا والمزينة أسلوبا من جانب ثان، فكان الشيخ الصافي أول من افتك مكان الصدارة في العوالم الافتراضية، التي يجب أن يفكر أهل الاعتدال جميعا في كيفيات اختراقها، لأن فيها أمة تنتظر.
سوسة 04/05/2019 09:32