قصيدة سيدي الظريف في مدح الجناب النبوي من الدرر التونسية

6 دقائق للقراءة

(الصورة لمدينة سيدي بوسعيد -جبل المنار- التي تحتوي على أكثر من 500 ولي صالح من بينهم سيدي بوسعيد الباجي وسيدي الظريف)

أثناء مطالعتي للكتاب القيّم الرائع”عنوان الاريب عما نشأ بالبلاد التونسية من عالم اديب”، الذي صنّفه المؤرخ العلامة الشيخ محمد النيفر التونسي مع تذييل واستدراك لابنه الشيخ علي النيفر، وهو كتاب جمع قصائد وأخبار عدد كبير من علماء بلاد إفريقية وأدبائها وشعرائها، عثرت على كنوز كثيرة، ولكن ما أبهرني قصيدة عجيبة بديعة الجمال للولي الصالح الشهير سيدي الظريف (أبو عبد الله محمد الظريف التونسي) وقال عنه المؤلف: نشأ بتونس فطلب العلم والأدب، فبرع، وكان وحيد عصره اشتهر بالفضل، وظهرت على يده كرامات، فكان معتقدا في عصره، معروفا باستجابة الدعاء،صوفيا، متبعا للسنة، ومع ذلك شاعرا مفلقا، توفي يوم الخميس 11 جمادى الأخيرة سنة 787 ه، ودفن بالجبل المبارك جبل المنار من مرسى قرطاجنة، ولا زال ضريحه مزارا”.

والقصيدة على فرادة في جمال الأسلوب والمعنى، فيها حوار مع حمام الأيك مع وصفه وصفا بديعا، ليكون ذلك مدخلا لوصف الشوق إلى زيارة المصطفى وشكوى الحال وبث لواعج الوجد وآلام الاشتياق.
والحقيقة أن هذه القصيدة كنز مخبوء في متن هذا الكتاب، الذي يحوي ما يحويه من فطاحلة البلاد التونسية الذين نُسي ذكرهم، وتعيش البلاد التي أفنوا فيها أعمارهم في خدمة الدين والناس، حالة احتضار أخلاقي وديني غير مسبوقة، ولله الأمر كله.
يقول المؤلف الشيخ محمد النيفر في تقديمه للقصيدة: ” ومن شعره قصيدته في مدح الجناب النبوي الرفيع ضمنها ألقاب الطبوع الموسيقية، ويسميها بعض الأدباء بناعورة الطبوع، وهي تدل على شيوع علم الموسيقى بتونس قديما حتى كان لفضلاء ذلك العصر إلمام به”.
وأقول أن هذه القصيدة تكتنز على مضامين جمالية ووصفية تجعلها من روائع الشعر العربي التي تحاكي في شجنها غزليات مجنون ليلى وفي عذوبتها قصائد البهاء زهير والشاب الظريف، كما أن وصف الروض فيه أنفاس أندلسية تذكرنا بابن زيدون وبالموشحات والموسيقى التي كان لمقاماتها حضور في القصيدة، وفيها من العشق للذات المحمدية ما يرفعها إلى نفائس الشعر الصوفي وإلى كلمات أبي مدين شعيب وابن الفارض والرواس، فهي مزيج جميل فريد.
كما أنها تحتوي على حكم نفيسة يختفي خلفها عارف بالله وخبير بالحياة كقوله:
” لا الحزن يبقى ولا الأفراح دائمة
فمشرب الدهر لا يصفو لإنسانِ”.

وليتنا نجد ديوان سيدي الظريف حتى نقرأ ما جادت به قريحته وما حوته أنفاسه الطيبة وما اودعه في كلماته الرائعة الجميلة، بل ودواويين الذين تم ذكرهم في هذا الكتاب من شعراء تونس وصقلية مالطا التي كانت تابعة لإفريقية وكذلك الأندلس (359 عالم وأديب وشاعر)، وأنا أنصح بمطالعة هذا الكتاب الثري ليطلع أهل تونس خاصة وأهل الفكر عامة على بعض مما أنجبتهم هذه البلاد العظيمة، وإلى ما أبدعه أهل الزيتونة والتصوف، وأهل العلم والشريعة، وما كان من أثر الإسلام على الرقي الفكري والأدبي فيها، حتى أن الإمام محمد بن عرفة الورغمي (توفي سنة 803 ه) الذي تولى مشيخة الجامع الأعظم وكان أعلم أهل عصره في الفقه المالكي، حين عزم على الحج سأل عن كتب خزانة الجامع فقيل له: ستين ألف مجلد، فقال: إنا لله، تلاشت كتب الخزانة. وتجد حسرة ابن أبي الضياف في كتاب الاتحاف عن ضياع تآليف علماء هذه البلاد لأسباب كثيرة منها ما فعله دون جوان الاسباني حين ربط خيله في الجامع وألقى الكتب في الشوارع ونهب ما نهب منها، والمحزن أن خزينة كتب الجامع اليوم تأكلها الارضة والغبار في ركن مغلق مهمل.
ولعل في ذلك دليلا على ما آل إليه حال أهل الإسلام بعد غلق جامع الزيتونة والتضييق على مشايخه، وصولا للمنعرج الأخطر اليوم في السعي لاستئصال الإسلام وتشريعاته من المجتمع ومن قوانين الدولة ومن عقول وقلوب أهل تونس، ومن كل شيء…
شجن يضاف إلى شجن قصيدة سيدي الظريف ولواعجه التي يبثها إلى حضرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولعل في نشرها ونشر عبقها وشذاها وجميل معناها بركة وخيرا ووصلا لأهل المحبة وأهل الذوق والشوق.
نص القصيدة:
من سفْكِ دمعي ومن تحبير أجفاني
صُغتُ الهوى حليةً من حَرّ نيرانِ
ومن نحولي ومن سقمي وشدّة ما
ألقاه من فرط أشواقي وأشجاني
رثى العذول لحالي حين أبصرني
من بعد ما كان بالتعنيفِ ينهاني
وصْلَ الحبيبِ فلا أبغي به بدَلاً
ليس التبدُّل والسِّلوان من شاني
من لامني في الهوى والحب قلت له
إليك عني فإن الحسن أدماني
فرُبّ روضة أنس قد مررت بها
مخضرّة ذات أفنان وأغصانِ
قُطوفها تنعش الأرواح دانيةٌ
كجنّة ذات رَوْحٍ ذات ريحانِ
تخلّل الماء في أنهارها فغدت
تزهو بوردٍ ونسرينٍ ونُعمانِ
في روضةٍ قد شدت من كل ناحية
بلابل لم تدع صبرا لإنسانِ
فقام فيها خطيبٌ فوق منبره
يشكو الغرام بتغريد وألحانِ
مُزوّق الصّدر مخضوب البنان له
من الزبرجد والياقوت لونانِ
سودٌ مناكبه بيضٌ جوانحه
له من المسك والكافور ثوبانِ
مُطوَّقُ الجيد في أطراف مقلته
أشعة من بهاء خدّه القاني
فأطرب الطير في أوكارها فغدت
شوقا تُجاوبه من كل بستانِ
جسّ “الرّهاوي” وجرّ “الذيل” من طرب
وتاه في “الرمل” أحيانا فأحياني
و”أصبهان” غدا يحكي بـ”صيكته”
“محيّر” الحال “مزموما” بهجرانِ
فهاجني ما بكى أهل العراق على
فقد الحسينِ ففاضت منه أجفاني
يشكو النوى ودموع العين تسبقه
حتى رثيت له شوقا فأبكاني
و”الرصد” أشعل في قلب العليل جوى
و”ماية” أحرقت قلبي وأكناني
و”الإصبعين” غدا يحكي بصولته
حتى أذاب فؤاد المدنف العاني
فقلت ما بك صف لي ما ابتُليتَ به
م بال جسمك مكلوم الحشا فانِ
هيّجتَ لي لوعة في القلب ساكنة
خفّض قليلا فقد هيّجت أحزاني
فقال أبكي لإلف كان يألفني
وكنت أهواه في الدنيا ويهواني
قضى الزمان بضعفي حين فارقني
كما تراني فريدا فوق أغصانِ
فلا تلمني على طول البكاء فقد
يحقّ لي النّوْح في سري وإعلاني
وهكذا لم أزل أبكي الدموع دما
حتى ألاقي الثرى في طيّ أكفاني
فقلت أحسنتَ لا خانتك أجنحة
ولا مررت ببازيٍّ وعُقبانِ
ولا نعاك غرابٌ يا حمامُ ولا
حصلت في فخّ صيّاد وسجّانِ
كن واثقفا بجميل الصبر وارض بما
يقضي الإله فحال الدنيا ضدّانِ
لا الحزن يبقى ولا الأفراح دائمة
فمشرب الدهر لا يصفو لإنسانِ
ناشدتُك الله يا طير الأراك إذا
جاد الزمانُ بوصل بعد هجرانِ
وناسمتك نسيمات الرياض ضحى
ورنّحتك غصون الأثل والبانِ
ورشّ ريشك ماء الورد وانبعثت
روائح الندّ من نجد لنُعمانِ
وساعدتك الليالي في تصرّفها
وبات شملك مجموعا بخلاّنِ
وجئت طيبة والوادي وجزت على
وادي العقيق فبلّغ حاجة العاني
سلّم على المصطفى المختار من مُضرٍ
خير النبيِّين من سادات عدنانِ
الهاشميّ الذي فاضت فضائلُه
خير البريّة من قاصٍ ومن دانِ
وقل له يا رسول الله يا أملي
يا عمدتي يا رجائي عن ميزانِي
متى أُمرّغُ خدّي عند تربتكم
متى يساعدني دهري وأزماني
جسمي بتونس موثوق بزلّته
والقلب في الشرق بين الرند والبانِ
وكل عام أرجّي أن أزوركم
والذنب عن قرب تلك الدار أقصاني
والوقت ضاع وعمري ما شعرت به
حتى مضى بين تفريط ونسيانِ
وليس لي قوة أرجو الوصال بها
والكفّ صفر وحال الدهر أعياني
ولا معي عمل أرجو النجاة به
إلا غرامي وأشواقي وأشجاني
يا أشرف الخلق يا كهفي ومعتمدي
يا أنس قلبي ويا روحي وريحاني
مضى الزمان ولا قدّمت صالحة
وقد تماديت في غيّ وطغيانِ
إن زرتُ قبرك هذا العام يصلح أن
أُدعى أديبا ظريفا بين إخوانِ
وإن طُردت بذنب عن زيارتكم
وصدني عنه إجرامي وعصياني
أموت والقلب مشتاق لزورتكم
ما لي شفيع سوى حبي وإيماني
وكن شفيعي في يوم الجزاء إذا
عزّ الصديق وقَلّت حيلة الجاني
يا رب بالمصطفى المختار من مُضر
أَقِل عثاري وعاملني بغفرانِ
واغفر لوالدتي وارحم مقام أبي
من حيث أحسن آدابي وربّاني
واغفر لمشيختي ما أسلفوه كما
بثّوا علوما بتحقيق وتبيانِ
بجاه أحمد خير الخلق كلِّهِمِ
محمد المصطفى من نسل عدنانِ
عليه أزكى سلام الله ما طلعت
شمس وما حنّ مشتاق لأوطانِ
كذلك الآل والأصحاب كلُّهُمُ
والتابعون لهم يوما بإحسانِ

فأنت ترى ما في القصيدة من جمال في المبنى والمعنى، ولعل الجلي فيها
اشتياق سيدي الظريف لزيارة مقام وقبر المصطفى، وهو أمر شائع معلوم عند أهل المغرب عامة وتونس خاصة، سيما أهل الله والمشايخ الربانيين منهم، وفي ذلك بيان لعقيدة القوم وفهمهم وتبركهم بقبر المصطفى وشوقهم إليه وإلى تقبيل تلك الأعتاب الطاهرة، وما أجمل قول سيدي الظريف، وما أشبه حاله بحالي وهو يقول:
” متى أُمرّغُ خدّي عند تربتكم
متى يساعدني دهري وأزماني
جسمي بتونس موثوق بزلّته
والقلب في الشرق بين الرند والبانِ”.
ومن بديع ما قرأت في هذا المعنى، لولي وعالم كبير من علماء زيتونة تونس، سيدي إبراهيم الرياحي (توفي سنة 1266 ه) حين قال:
أتيتك ماشيا وودت أني
ركبت سوادي عيني أمتطيهِ
وما لي لا أُسعّي على المآقي
إلى قبر رسول الله فيهِ.
نسأل الله أن يحفظ لتونس إسلامها وبركتها ولطف ربها بها، مهما فعل المفسدون وكاد الكائدون بين أصحاب العقائد الفاسدة (التي وقف لها علماء الزيتونة وعلى رأسهم سيدي عمر المحجوب في رده على الضال الوهابي)، وكذلك أصحاب العاهات الأخلاقية الذين يريدون فسادا في الأرض وحربا لدين الله.
ولسوف يُغلبون، ولو بعد حين.

سوسة
19/08/2018 14:21

مقالات ذات صلة

طفل وصورة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل. يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما...
4 دقائق للقراءة
صوت لا يخبو ونبض لا يموت
وتبقى الكلمة…موقفا وروحا ونبضا لا يموت.كثيرا ما يُظلم الشعراء، وكثيرا ما تجد القصائد الجميلة نفسها سجينة في زمن يطغى فيه الابتذال وتسيطر عليه الرداءة.وكثيرا...
< 1 دقيقة للقراءة
لقاء مع العملاق
لقاء جديد مع العملاق، صديقي الفنان الكبير لطفي بوشناق، مناضل بالفن، مناصر للقضية، موغل في حب الوطن، وفي العروبة، وفي حب فلسطين.فنان من زمن...
< 1 دقيقة للقراءة
زيتونة
اجلس تحت شجرة زيتون اتنسم نسائمها البارده واتنعم بظلها الوارف واستمع لحفيف الريح على اغصانها يعلو كانه العاصفه ثم يخفت حتى لا يكاد يسمع...
< 1 دقيقة للقراءة
رسالة إلى الذين يعرفون أنفسهم
واجهت في حياتي أعداء كثرا.واجهتهم يافعا موهوبا، فكرهوه حسدا.وشابا قويا طموحا، فازدادوا كمدا.وأواجههم اليوم وقد بلغتُ أشدِّي، فلم يفز منهم أحد علي أبدا.صحيح أن...
2 دقائق للقراءة
في فلسفة الوجع
حياتنا قصة مكتوبة في لوح القدر، ونحن نقرؤها بتنفيذ ما فيها، ونتكشف كل يوم ورقة من ورقاتها، فصلا من فصولها، حدثا من احداثها…ونبقى في...
2 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
في معنى كلمة مولى
ذكر أحد الأحبة عن كلمة “مولى”، أن المولى هو الله عز وجل، وليس الإنسان مولى لأحد.وهذا فهم ضمن معنى الربوبية الإلهية حصرا، لكن للألفاظ...
2 دقائق للقراءة
استقلال وشعر
الشعر استقلال للغة، وتحرر للمعاني، وتحرير للصور من استعمار النمط وسيطرة القوالب.وعبث جميل بحجارة الأفكار، وطيران باجنحة الخيال في آفاق الممكن والمستحيل.وبين العشرين واليوم...
< 1 دقيقة للقراءة
يابا العمدة
منذ الصبا كنت اتابع واحب المسلسلات المصرية، وكنت مغرما باللهجة الصعيدية، وبمشاهد بقيت راسخة في ذهني.ومن الشخصيات التي كنت احبها شخصية “العمدة”، ومشهد الغفير...
< 1 دقيقة للقراءة