3 دقائق للقراءة
من خلال بعض المتابعة لما يتم تقديمه من برامج على القنوات التلفزية (التونسية خاصة وبعض القنوات العربية)، فإن الأساسي في معظمها ثلاثي (العنف، العهر، البذاءة).
ورغم اختلاف النسبة ونوعية الاخراج، فإن هنالك إصرارا على ترسيخ العنف والدعارة والفحش لفظا وفعلا، ولئن كان هذا ساريا طيلة العام، فإن شهر رمضان بما له من مكانة في قلوب المسلمين وما يحتويه من انوار وأسرار وبركات، يجعل القائمين على تلك البرامج والمسلسلات اكثر إصرارا على كل ما يدمر روحانية الشهر الفضيل ويفسد الأخلاق ويخرب المجتمع.
ولكن أليست المجتمعات نفسها (واركز على النموذج التونسي) قد أظهرت من القابلية للإفساد بل وشدة المتابعة لكل رديء على انه منتهى الابداع ما حث ممولي تلك المشاهد المنحطة على مزيد الانحطاط الذي يعني مزيد المتابعة وتنافس الذين يرغبون في الاشهار لسلعهم ومنتجاتهم وبذلك يكون الربح المادي مضاعفا على حساب ما بقي من قيم وما تبقى من ماء الوجه.
وليكون التحليل واقعيا يجب أن نعترف: ليس لدينا إعلام ولا لنا في هذا السوق الكبير مجال.
اعني “نحن” الذين ندعي الغيرة على القيم ويسوؤنا ان يصبح مجرم شاذ مثالا لأبنائنا، وأن تصير بغيّ نموذجا لفتياتنا.
لكن ما الذي قدمناه في المقابل؟
لا يمكن بأي حال منع الشباب من متابعة ما تبثه القنوات، وعلى كثرتها فالخيارات قليلة: معظم ما يتم بثه يحمل هدفا واحدا: نشر الرذيلة والفحشاء وتخريب المجتمعات، لتكون ردات فعل: من تقمص ما يتم بثه، فترى شبابا على نهج ذلك المجرم او الفاسد، وترى فتيات يسعين لتقليد نجمتهن المفضلة في كل ما يسلب روح العفة وينشر وباء الميوعة وما فوقها.
أو ردة فعل غاضبة متعصبة تجد ما يسكن غضبها في الخطاب التكفيري الذي يحرم كل شيء، وتكون لاحقا دمارا ونارا على مجتمعاتها، كما سبق في السنوات القليلة الماضية لشعب بلا ذاكرة، فليس العنف الذي جسده الشباب التوانسة سوى بعض حصاد ما تم زرعه من فساد ممنهج وإفساد شرس منذ خروج المستعمر من بوابة تونس ورجوعه من الف نافذة.
لكن يمكن في المقابل تقديم خيارات أخرى: أعمال راقية بإخراج متميز وأداء ممتاز.
الجسد الصوفي على سبيل المثال، لدى طرقه او عدد كبير منها على امتداد العالم امكانيات بشرية ومالية رهيبة، وفوق التصور، فلماذا لم يتم العمل على توجيه بعض المريدين إلى دراسة الفن والسينما والاخراج، والى بناء المؤسسات الاعلامية بحرفية عالية وجودة كبيرة، ليظهر مبدعون يقدمون مسلسلات تصحح المفاهيم وتنور العقول، وتعرّف برجال يستحقون ان يكونوا قدوة، على غرار بعض المسلسلات والافلام التركية، مثل الفلم الرائع “بابا خباز” الذي يروي سيرة احد اقطاب العشق الالهي والتصوف في تركيا والذي اصبح تلميذه شيخا لمحمد الفاتح، او الكثير من المسلسلات والافلام الايرانية.
فالتصوف في صلبه حركة ذوق ووعي واصلاح اجتماعي، وآلية الفن اليوم هي أقوى آلية للاصلاح او الافساد، فلماذا تكون حصرا في ايدي المفسدين؟
وكلامي عن التصوف يرجع ايضا إلى الصورة البائسة المشوهة التي يتم عرضه بها في نفس المسلسل الذي اظهر لنا “بطلا” من حثالات تونس وحرّف التاريخ ليجعل منه مناضلا وصاحب رسالة وقدوة يحتذى بها، مع تزيين البطش بالناس وبيع المخدرات والبذاءة والدعارة والسكر، كل هذا في رمضان.
في القلب حسرة كبيرة لهذا المشهد المؤسف وما سينجر عنه، ولكن في القلب عتب وغضب اشد على من يدعون الاصلاح وخدمة الدين ونفع الناس والغيرة على الامة..
اين انتم يا قوم في ميدان العصر وفقه الواقع؟
فإن ما يفعله فيلم واحد، او مسلسل، يدخل كل البيوت ويخترق الاذهان والقلوب، أكثر مما تفعله الف محاضرة وموعظة ودرس.
لا يعني ذلك ترك الوعظ والتدريس، ولكن اضافة العنصر الفني الثقافي الدرامي الى العمل التوعوي والدعوي والاصلاحي.
إن الذين يؤدون في تلك المسلسلات على اختلافها يتقمصون شخصيات وفق السيناريو المتاح لهم، ولو توفر السيناريو والتمويل والرؤية الفنية والاخراج الجيد الذي ينجح في جذب المشاهدين، لأدى الممثلون ادوارهم ببراعة في رسالة هادفة تحمل التنوير لا التزوير، وتثير حماسة الارواح لا شهوات الاجساد، وتسمو بالذوق لفظا ومعنى ولا تخربه كلمة ومبنى.
ليس المال هو ما يعوز اهل الخير، بل الخيال والرؤية، وأهل الباطل والفساد اشد جرأة وأوسع خيالا، وأقدر على تحريك الناس بالوهم من قدرة أهل الحق على تحريكهم بالحقيقة.
والمستهدف الأساسي من كل هذا “شباب الأمة” عامة، وشباب تونس خاصة، ليستشري الاجرام والشذوذ والعنف لفظا وفعلا.
إن الدعوة الحق تحتاج إلى كل آليات الواقع وما بلغه الانسان من قدرات التواصل وقوى التأثير، وليس أقوى اليوم من الفن والاعلام والصورة.
وإن أهل الدعاوي الباطلة وظفوا ذلك، بين مكفر ومعهّر، وهما ضفتان لمستنقع واحد، فليست الدعوشة إلا مظهرا من مظاهر فشل أهل الدعوة ونجاح أهل الدعورة، وليس بين داعش وداعر سوى حرف.