7 دقائق للقراءة
إسلام نوسنتارا: رحابة السماحة والمساحة.
من معاني اسمه تعالى الباسط: الموسع في الرزق لعباده، وبسطة العقل والجسم من عطايا الله الوهبية التي ذكرها على لسان نبي بني إسرائيل حين سألوه ملكا فاختار لهم طالوت. ومن البسط الانبساط والمسرة، والبساطة أيضا، وكل هذه المعاني كانت أول ما استقبلني حين حطت بي الطائرة في مطار جاكرتا، وكأن كل شيء يقول لي: أهل بك في أرض البسط.
ما تراه على البسيطة هنا، مما أخذت الأرض به زخرفها وازينت، حين تغادر جاكرتا قليلا أو حتى وأنت في واحد من أرقى فنادقها: فندق بورابودور، الذي سمّي باسم المعبد البوذي الأشهر في أندونيسيا، ففي محيط النزل مساحة كبيرة خضراء تنساب فيها المياه كقطعة من قصور الحمراء في الأندلس.
مؤتمر الإمام الغزالي: كانت دعوتي إلى أندونيسيا من جمعية نهضة العلماء، بمناسبة مؤتمر عالمي عن تصوف الإمام الغزالي، انعقد من 18 إلى 20 جانفي/ يناير 2018 تحت عنوان “دور تصوف الإمام الغزالي في تطوير الحضارة العالمية القائمة على السلام والوئام”.
وقد كانت مشاركتي ببحث عن “التصوف الفلسفي للإمام الغزالي من خلال كتاب مشكاة الأنوار”.
بعد افتتاح من الموسيقى الصوفية، كانت محاضرات لنخبة من العلماء والمشايخ من الولايات المتحدة والمغرب والصين وإيران وروسيا وسوريا، كان مستهلها محاضرة قيمة عن فكر وتصوف الإمام الغزالي للدكتور سعيد عقيل سراج الرئيس التنفيذي لجمعية نهضة العلماء، واختتامها بكلمة لشيخ الطريقة النهضية المعتبرة الحبيب لطفي بن يحيى، وكانت مداخلتي خلال ذلك مزيجا بين ما دونته من بحث حول مشكاة الأنوار، وبين مقتضيات الحال اليوم في الأمة وقيمة إحياء المنهج الفكري والفلسفي والصوفي للإمام الغزالي.
المؤتمر كان ذا غايتين: الأولى بحوث معمقة في فكر الإمام الغزالي ومنزعه الصوفي الجامع والفريد. والغاية الثانية توقيع وثيقة بناء مقام الإمام الغزالي في مدينة طوس بإيران، وهو مشروع سينطلق تنفيذه قريبا بالتعاون مع جمعية نهضة العلماء.
جمعية نهضة العلماء هي أكبر جمعية في أندونيسيا بعدد أعضاء فعليين يتجاوز التسعين مليونا، مع خمسين مليون آخرين من الأعضاء غير المباشرين، وللجمعية كما ذكر لي رئيسها الدكتور سعيد عقيل سراج 800 ألف مسجد، 23 ألف معهد، و13 ألف جامعة، وحين زرت مقرها كان لقائي مع مسؤول المساجد الدكتور عبد المنان، ومدير العلاقات الخارجية الأستاذ أحمد سودرجارت الذي سيرافقني لاحقا في رحلة إلى مدن كثيرة ومحاضرات عديدة، وهنالك أيضا (في مقر جمعية نهضة العلماء) كان اللقاء الأول مع المعلّم نبيل هارون رئيس باغار نوسا: هيئة فنون الدفاع وفن السيلات، وهنالك تم التنسيق لحضوري لمؤتمر الإجازة الكبرى وتوقيع اتفاقية التعاون.
الرحلة إلى جوغاكارتا: ضمن برنامج المؤتمر كانت رحلة سياحية إلى جاوة الوسطى، فانطلقنا بالطائرة من مطار جاكرتا إلى مطار أديسوسيبتو، ومنها إلى مطعم جيجاموران في جوغاكارتا، لتكون وجهتنا بعد ذلك قصر السلطان الذي حكم تلك المنطقة منذ قرون خلت، وهنالك تجد التمازج المعماري والثقافي، ولكن البصمة الإسلامية جلية واضحة، رغم وجود الأثر المعماري الهندوسي، إذ ان الهندوسية كانت الديانة الغالبة في تلك الأرض قبل قدوم الإسلام، مع البوذية.
ولكن المذهل فعلا محبة الناس لك، ترى وجوها مبتسمة في كل مكان، ويبادلونك السلام بود، نساء ورجالا، شبابا وشابات، وحتى الأطفال يبتسمون ويسلّمون وأعينهم تقول: هذا عربي…من بلاد النبي.
في مدينة ملانغي زرنا مدرسة نور الحكمة، والتقينا عددا من طلبتها، وحفنا الأساتذة والمشايخ بحفاوة كبيرة، وتوجهنا في موكب جميل مع الذكر والأنشيد إلى المسجد، والهو مسجد محاط من كل جانب بالماء حرصا على الطهارة، فلا تدخله إلا بعد أن تمضي عبر تلك المياه، وقد ألقيت كلمة مع بعض المشايخ تحت وقع انهمار المطر، فالمطر ف اندونيسيا عامة وجاوة الوسطى خاصة دائم الانهمار، لكن الطقس رغم ذلك حار طوال السنة.
من ملانغي توجهنا إلى مدينة ماغلان، وفيها زرنا معهد الشيخ محمد الخضري للعلوم الشرعية والتصوف، معهد عريق تأسس سنة 1944 لتدريس الفقه الشافعي، واللغة العربية والنحو والصرف (الأجرومية وألفية ابن مالك) وسفينة النجاة وإحياء علوم الدين للغزالي في التصوف. وفي هذا المعهد يقوم الطلبة (وهم خمسة عشر ألف طالب) الليل ويصومون الدهر إلا أيام الأعياد والتشريق. آلاف يدرسون ومئات يتخرجون كل عام في المستوى الختامي ومدة الدراسة تسع سنوات.
حين تكون بين أحباب رسول الله يفتح الله عليك مزيدا من الخير…وحين ترى أهل جاوة وأهل اندنوسيا خاصة تطمئن أن الإسلام له حفظته وأن الأمة بخير رغم كل ما أصابها.
ثم توجهنا بالسيارات إلى جوجيا، حيث سكنّا فندقا جميلا لكن لم نقم فيه سوى ليلة واحدة، لنتجه إلى معبد برامبانان الذي يعتبر أكبر معبد هندوسي في أندونيسيا، ورغم أن زلزال سنة 2006 قد دمّر معظمه، فإنه احتفظ بالكثير من جماليته وعجائبيته، فقد جلبوا الحجارة البركانية من أمكنة بعيدة، وفيه أيضا معبد صغير للبوذية، يحيط به المسلمون ويحرصونه، في مشهد جميل للسلام واحترام الديانات، ومراعاة الجهد الإنساني والإبداع البشري مهما كان الاختلاف في العقيدة…وفي المعبد تحركت في داخلي روح معلم فنون الدفاع، فكانت بعض الحركات في فن التايتشي الرائع، وبعض الصور الجميلة، وقد شدّني اجتهاد الإنسان لإرضاء معتقده، وقدرة الإبداع في المعمار التي تحيّر كبار المهندسين في وقتنا الحالي، وكذلك وجها من وجوه الحياة التي تطوي الأجيال طيّا، ولا يبقى إلا الأثر والعمل شاهدا على تلك الأيدي التي رفعت الحجارة وتلك العقول التي أبدعت المعمار وتلك الأنفس التي آمنت وتلك الأجساد التي رقصت في معبد هندوسي من القرن التاسع حيث تختلط الديانة بالموسيقى والألوان، وهو ما لاحظه معين الدين الجشتي الولي الكبير حين دخل الهند في القرن الخامس فأبدع فنا جديدا في الموسيقى والشعر يحكي عن الإله الواحد لا عن أساطير الآلهة، فكان أكثر من أدخل الإسلام إلى أرض هندوستان كلها، ليصل أثره إلى ماليزيا وأندونسيا وكامل أرخبيل الملايو وبلاد نوسنتارا.
الرحلة إلى سمارانغ كانت طويلة متعبة، ولكن المشاهد كان فيها من الجمال ما ينسي التعب، الجبال الشاهقة، والخضرة الممتدة، ولوحات الطبيعة التي تحكي بديع خالقها وجمال بارئها، وتحدثك عن الأرض حين لا تلوثها يد الإنسان، حين لا يُقطع شجرها ولا يخرّب ما فيها، واحات غنّاء وأنهار جارية، وحيثما نظرت لا ترى إلا اللون الأخضر الموشى بألوان الزهر المحاط بهالات الضوء الذي يسبّح لخالق كل شيء.
في سمارانغ مضينا إلى ضريح الأسد الضاري كما يسميه سكان المنطقة، وهو ليس سوى الحسن بن طه بن يحيى، السيد الذي جاء من حضرموت اليمن، حاملا عبق النسب النبوي الشريف، وعطر التصوف الحق، ليجاهد ضد المستعمر الهولندي، ويرى الناس منه ضراوة وبسالة حتى سموه الأسد الضاري، ثم يستشهد، وهو جد الحبيب لطفي بن يحيى شيخ الطريقة النهضية المعتبرة، والقائد الروحي لأندونيسيا، والذي سيكون لي معه لقاء ثان في ضريح جده بعد اللقاء في المؤتمر بجاكرتا، ثم لقاءات أخرى في مشهد مهيب بعد أيام.
من بيرتونغان التابعة لسيمارانغ حيث مقام الحبيب حسن بن طه، مضينا إلى مدينة ديماك، وإلى مسجد ومقام السلطان عبد الفتاح، أول سلطان مسلم في جاوة الوسطى، ويعتبر من الصالحين التسعة، إذ أنه من أدخل الإسلام إلى جاوة كلها. وقد كان في استقبالنا والي المدينة وعدد من المسؤولين، ورأينا آيات من التواضع والمحبة، واستضافنا الوالي في مقره للغداء، وفي كلامه الكثير من التقدير للعرب، موطن الإسلام الأول، ولعله لا يعلم ما آل إليه حال العرب من فرقة وانقسام، ولكن شرف الدين والنسبة إلى نبي الإيمان والسلام شرف عظيم تعرف حقيقته أكثر حين تزور أندونيسيا وتلتقي شعبها عامة وخاصة، سترى عجبا وستشعر كما شعرت بأنها أمانة وأننا في حقها مقصّرون.
التربية التي يتميز بها أهل أندونيسيا ليست من فراغ، فشعب الملايو عامة شعب مؤدّب جدا، فكيف وقد كان فيه الصالحون القادم معظمهم من أرض اليمن السعيد، وكيف وقد بنوا المدارس والزوايا وأقبلوا على الناس بالمحبة والتزكية، فكان اللقاء بين دين طيب وشعب وطيب، وبين أئمة هداة وأمة تحب أن تهتدي. وهنا ترى كيف تكون الابتسامة فنا والسعادة لحنا، وترى كيف يجتمع الأدب مع العلم، والدين مع الحضارة، في انسجام ووئام.
بعد العودة إلى جاكرتا، تمت دعوتي إلى مدينة بوغور، إلى مدرسة روضة الحكم التي يديرها الشيخ زين الزرنوجي، وهو من أهل الطريقة النقشبندية والقادرية، وحضر المجلس الآلاف رجالا ونساء، وكانت كلمتي عن التربية والعلم والتصوف، ثم كان لنا مجلس ذكر وأناشيد، ويبقى القلب شاهدا على الحفاوة والطيبة والمحبة الغامرة، خجولا من كرم أولئك الكرام.
مؤسسة أمانة كيتا التي يديرها السيد هرتونو لمين، مؤسسة كبرى في أندونيسيا، ومشروعهم بناء تسعة وتسعين مسجدا يكون كل مسجد نسخة من مسجد آخر في بلاد المسلمين، يحوي داخله جوانب من حضارة تلك البلاد وثقافتها، ومن خلال لقاءاتي المتكررة معه في جاكرتا، حدّثته عن جامع الزيتونة المعمور بالبلاد التونسية، أول جامعة إسلامية، وعن ضرورة أن يكون ضمن التسعة والتسعين مسجدا، وإن شاء الله سيكون، وقد اختار للبناء جزيرة من جزر أندونيسيا، التي من بين بينها خمسة آلاف جزيرة غير مأهولة.
يتكلم أهل أندونيسيا لغة الملايو، ولكن البلاد تضم أربعمائة قومية مختلفة، وسبعمائة لغة، وشعارها “الوحدة في التنوع”، ويعيشون معا في سلام ومحبة، وهو من دروس أندونيسيا المهمة والرائعة.
في مدرسة الشيخ عقيل سراج: إلى مدينة شيربون سافرت ليلا مع صديقي أحمد سودرجارت (مسؤول العلاقات الدولية في جمعية نهضة العلماء) لأقيم أياما في مدرسة الشيخ عقيل سراج، وفي ضيافة الشيخ مصطفى عقيل سراج مدير المدرسة وأشقائه الطيبين. وبدعوة كريمة من الدكتور الشيخ سعيد عقيل سراج رئيس جمعية نهضة العلماء لزيارة مدرسة والده الذي كان من كبار مشايخ أندونيسيا ودرس سنينا في مكة والمدينة. وقد رافقني مشكورا أخي الأستاذ أحمد سودرجارت مسؤول العلاقات الخارجية بجمعية نهضة العلماء.
يدرس في المعهد ثلاثة آلاف وخمسمائة طالب وطالبة، قواعد اللغة العربية، والفقه الشافعي والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد والغزالي.
وقد أقيم على شرفي لقاء طيب بين الأناشيد والذكر قدّمت خلاله درسا عن التربية والسلوك وشروط العلم والتعلم، وكانت مناقشة أبهرني فيها التلاميذة والتلميذات بأسئلة عميقة تدل على اطلاع وثقافة، رغم صغر سن بعضهم، إلا أنه يسأل عن معلومات دقيقة في إحياء علوم الدين أو يستشهد بكلام أحد أعلام التصوف مما يثير الدهشة فعلا.
شرف كبير أن أكون ضيفا في مدرسة الشيخ عقيل سراج، وأن ألتقي الشيخ مصطفى وأساتذة وتلامذة المدرسة، وأن أكون ضيفا للدكتور سعيد عقيل سراج في مدرسة والده وأن يكون بيننا لقاء في ملتقى باغارنوسا على مسافة قريبة من المدرسة، وفي منزله بالمدرسة نفسها لاحقا.
وقد بقيت تلك اللحظات في القلب والذاكرة، وأسأل الله أن يعيدها.