3 دقائق للقراءة
منذ بواكير الصبا طمحت إلى قمة يراها قلبي ولا تراها عيني، وتدركها روحي ولا يدركها عقلي، وركبت من أجلها الخطر، ولم أرتض العيش في الحفر.
ولما درّبت جسدي حدّ الوجع، ودرّبت قلبي بالوجع، ودرّبت عقلي بمئات الكتب وساعات التأمل الطويلة، أدركت قمة رأتها عيني مع قلبي، وأدركها عقلي مع روحي. لكني علمت حينها أن تلك القمة الشماء المستعصية التي استغرقني الصعود إليها كل صباي وزهرة شبابي وسنين من الكبَد والتدريب والقراءة والتأليف والترحال في أرض الله حاملا على كتفي خناجر أعدائي وأحبتي على حد سواء، علمت أنها ليس سوى سفح لقمة أخرى فوقها يراها قلبي ولا تراها عيني، وتدركها روحي ولا يدركها عقلي، وأن الرحلة القادمة ستكون أطول وأن الصعود الجديد سيكون أشد وعورة وخطرا.
أنا قصة للشغف بالعلم والشعر وفنون الدفاع، وقصة حب للخير والسمو وللصالحين ونهجهم.
نحتّ طويلا بأمواج شغفي صخور ذاتي حتى صار النقش واضح الحرف جليّ المعنى أبدي الدوام.
لا أقول لك بلغت الكمال وأحطت بكل شيء علما، كلاّ فذلك محال عليّ فأنا الإنسان الضعيف الذي كم يُخطئ وكم يُذنب، وكم من مسألة علمها فعلم أن خلفها ألف مسألة يجهلها.
إنما أقول لك بفخر وشرف أني بلغت التكامل ولامست من روح العلم قليلا قليلا.
هي قطرة تختزل المحيط، ذرة تحتوي الكون،ونقطة تنطوي فيها كل الحروف والجمل.
فأنا أريد مزيدا من الصعود في قمم المعرفة، مزيدا من التدريب لجسمي، ومن التزكية لنفسي ومن التطهير لقلبي ومن الصقل لعقلي، وأن أفتح من أبواب الروح مزيدا.
سأضل مخلصا للحق ناشدا للحقيقية، فاضحا للباطل عدوّا للزيف والزور والإفك، دارجا في سبل الصالحين وإن لم أكن منهم، محاربا لما يفعل الطالحون ولو شاركته بزيغ نفسي ونزغ شيطاني شيئا مما اقترفوه، فإصابتي بمرض لا تجعلني أوالي المرض، إنما أكون أكثر علما بخطورته وسبل علاجه والشفاء منه.
هذا الشر الذي يفترس العالم سأجنّد له كل خير في روحي وفي سلالة دمي.
هذه الظلمة التي تتوغل في الناس، سأشعل شغفي شموعا وأجعل قلبي فانوسا يضيء لمن أراد أن يرى.
هذه العواصف العاتية في عصر المعدن الذي تقتله ماديته روح المعاني وقيم الإنسان، سأجعل من كل حرف أكتبه وكل كلمة أقولها متاريس في وجهها، وسأجعل ما آتاني ربي من علم وفهم منارة يهتدي بها التائهون.
سأخلص لوطني ولن أخونه.
سأخلص لديني ولن أبيعه، ولن أسمح للطائفية والمذهبية أن تحجبني عن نقائه المحمدي النقي، ولا لأحابيل التاريخ أن تمنعني من رؤية الحق واتباعه ومعرفة أهله، ورؤية الباطل واجتنابه ومعرفة أهله.
ولي حلم فلسطيني لن يموت، ركعات في القدس لن تغادر روحي جسدها حتى أنالها، كذلك قالت لي الروح.
هي قمة أخرى تعرفها روحي بأبدية علمها، ويسلّم لها عقلي بوعيه الفارغ من كل غرور معرفة.
سأحفظ ما آتاني ربي من خير، سأنهض كل مرة إن وقعت، وأخرج من تحت الركام كلما غلبتني الأيام، وألعق جراحي كذئب تعوي فيه رياح الشوق إلى زمن الفرسان، لكنه يعرف كيف يفترس الحزن ومن أين تُأكل كتف الرداءة والخبث، ويضرب بمخالبه وأنيابه أشباح العقم والضلالة.
وسوف تستمر جيوش الخير التي في أعماقي في سحق جيوش الشر التي ينفث في عقدها شيطان مريد.
ولا يهم كم مرة انهزمت أو سوف أُهزم أمام طاغوت نفسي، أعلم يقينا بعين الرؤيا اني منتصر بالله لا محالة، وأني أريد الحق ولا جانبته مرارا، وأمقت الباطل لو وقعت فيه مرارا.
من عرفني فقد عرف أني وقعت في فخاخ كثيرة، ونزفت وحيدا، وصرخت في أودية الموت طويلا، وظَلمت وظُلمت، وأخطأت وأصبت، لكني مخلص في كل حال، ولم أتعمّد ظلما.
الآن وقد كساني الله ثوبا من جميل ما أبدى، وستر عليّ بجميل عفوه قبح ما كان مني، ثم آتاني ما وعدني في الرؤيا وفي كتاب الروح، وأبقى ما هو خير مخبوءا في قمم أخرى تنتظر، ورفع ذكري بمحض فضله، ووضع عني وزري بتمام كرمه، وعفا عني بعظيم جوده، وألبسني ما لا أستحقه بعمل، وتقبّل مني مناجاة السحر، ودعاء الضر، وصلوات صادقات على حبيبه وحبيبي، وهياما بحب الآل، ووقوفا بأعتاب الصالحين ذوي الدلال.
الآن وقد رأيت ما رأيت، وعلمت ما علمت، وطافت بي مقادير العظيم في أرضه ليرني من آياته.
أعلنها وليشهد التاريخ: والله لن يتوقف هدير الموج ولا خرير الماء ولا انسياب النهر.
سأصعد القمة القادمة بعزم، وأضرب وجه الباطل بحزم، ولا أنتظر من مخلوق شيئا. ولا أبتغي إلا وجه الله ورضوانه ورضوان أهل رضوانه الأخص بالأخص والأقرب بالأقرب.
فمن يمشي معي في طريق قلّ سالكوه، ويهجر معي سبل الظالمين.
اللهم اجعل لعبدك إليك سبيلا.
سوسة 11-11-2020