ليبياوتونس تاريخ ومآلات

6 دقائق للقراءة

بقلم الدكتور مازن الشريف، المفكر الاستراتيجي.
رئيس المنظمة الدولية للأمن الشامل، والمركز العالمي للاستشراف والمستقبليات.
نائب الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين


بدأ اهتمامي العلمي بملف التكفير والارهاب سنة 2008 حين كنت في بلاد الشام، قرأت ما قرأت، والتقيت من التقيت من أهل العلم والخبرة، لأشكل أسسا نظرية وآفاقا استشرافية ملخصها أن العالم العربي عموما وسوريا ثم ليبيا خصوصا أمام حتمية هجمة تكفيرية ارهابية مدمرة وعاصفة، وعلى هذا أنشأت نظريتي “التنظير، التكفير، التفجير”، وعليه حددت حتى الاحزمة المكانية وعدد من المآلات، وكذلك تواصلت مع المعنيين لايصال رسائل الى اعلى هرم السلطة في سوريا وليبيا ثم تونس التي بينت انها ومن جانب استشرافي تحت تهديد ارهاب كبير ايضا.
احتفظ لنفسي منذ تلك الفترة بالتفاصيل والادلة كذلك، ومن يعرفني يعرف اني لا اتكلم جزافا، ومن لم يعرف او اراد ان يشكك فله ذلك ولا اهتم به، انما سأنقل الامر الى ما عندي عليه دليل ظاهر في الاعلام والندوات الكثيرة، عبر العالم، والكتب والمقالات العديدة، منذ بدايات ما سمي الربيع العربي، حيث قمت بواجب المفكر وواجب الناصح الامين، ولا ضرورة لسردية مطولة فالغاية تبيان حق لا مجرد تفاخر فارغ.
ولكن سبب قولي لهذا وإشارتي إلى طول عملي وسعة مع دقة اطلاعي على هذه الملفات المعقدة، هو ما تم تداوله عن أن هنالك ارهابيين في قاعدة الوطية الليبية يمثلون تهديدا على تونس، مما اضطر الدولة التونسية لغلق حدودها، وكذلك تصريحات رئيس الحكومة الليبي عبد الحميد الدبيبة التي كانت فيها إشارات إلى تونس ودخول عشرة آلاف ارهابي منها، وردود الافعال التونسية والليبية على ذلك، ومناخ التشنج الحالي، في ظرف يهدد وجود المغرب العربي الكبير ولو صوريا بعد قطع الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب.
لنختزل المسألة في ثلاث نقاط: نقطة تاريخية، نقطة آنية، ونقطة استشرافية.
*تاريخيا: وأعني هنا التاريخ القريب جدا، والذي نحن شهود عيان عليه، على اختلاف زوايا النظر، لكن لنعترف أن هنالك عددا كبيرا من الشباب التونسي تم التغرير به بتشوهات عقائدية تكفيرية أو باغراءات مادية ليسقط في حبائل الارهاب، ويكون له دور دموي في ليبيا وسوريا والعراق، وحتى في بلده الاصلي، ضمن اطار جغرافي مفتوح عبر التسلل ووسائل مخابراتية معقدة.
ولكن هذا يشمل شباب الأمة كلها، بل وكل الشباب الذي اسلم عبر العالم من جميع الجنسيات، فكل من زرعوا فيه التكفير ونقلوه من مرحلة التنظير الى مرحلة التفجير كان له انتماء لداعش التي اصبحت اشبه بشركة متعددة الحنسيات وفاقت ارباحها المالية من نهب النفط والاثار والتجارة بالبشر والأسلحة والمخدرات فاقت كل الشركات عبر العالم.
هذه الحقائق لا تلغي حقائق اخرى: أن الشعوب بريئة من هؤلاء الارهابيين، لا الشعب التونسي ولا شقيقه الشعب الليبي شعوب ارهابية وتستحق العقاب، وكل سياسة لا تنظر الى هذا سياسة عقيمة وعميلة.
كما ان الاختراق كان حقيقيا على مستويات للدول التي نشطت فيها شبكات التسفير وحركات التكفير والخلايا الارهابية.
لقد دفعت المؤسستان الامنية والعسكرية التونسية كوكبة من الشهداء من اجل الدفاع عن الوطن ضد ارهاب اعمى. كما قدم الجيش الليبي والشعب الليبي افواجا من الشهداء لتطهير مدن مثل سرت وبنغازي من الارهاب، وذات الامر يشمل سوريا والعراق، واتكلم كمطلع بشكل مباشر وميداني في رحلاتي الكثيرة لتلك الدول، ومن خلال علاقتي المباشرة مع رجال قادوا الحرب على الإرهاب في تونس وليبيا وسوريا والعراق، وما كشفوه لي، وما بينته من جهة الفكر والتحليل والاستشراف، وامتلك خزينة معطيات عبر حواراتي مع رجال مخابرات كان لهم دور محوري في كسر شوكة الارهاب، ويمتلكون كنوزا من الوثائق التي قد ياتي اوان نشرها وكشف محتوياتها الخطيرة التي تثبت عمق المؤامرة وهوية المتورطين والخونة…..
فخلاصة هذه النقطة ثبات وجود اختراقات وخيانات وكون الشباب المسلم كله كان هدفا وكان منه من تم تسميم افكارهم وتجنيدهم وأكثر هؤلاء للاسف كانوا توانسة.
وتبقى الشعوب بريئة منهم.
*نقطة آنية: اليوم مرحلة دقيقة حرجة، مع وباء أنهك العالم وأرعب البشر وفتك بالملايين.
وهنالك تحولات جيوستراتيجية عميقة عبر العالم، وتطورات اقليمية خطيرة، في محور مصر السودان ليبيا تونس الجزائر المغرب.
وسواء في زيارتي الاخيرة لمصر ومن التقيتهم من قيادات، او لقائي الرئيس السوداني السابق عمر البشير وما اخبرني به من معطيات دقيقة، او اللقاءات مؤخرا في طرابلس وبنغازي مع قيادات عسكرية ومخابراتية مهمة، وكل التفاعلات المعرفية التي كانت بيننا، ولا تخفى كثرة اسفاري وعلاقاتي في الجزائر والمغرب، وتونس بلدي وهي اولى.
اقول كل هذا لأبين اني لا اتكلم من مجرد المعرفة النظرية بل من حركة في المكان لاكثر من عقد من الزمان، ومن علاقات مباشرة، ومعطيات دقيقة من مصادرها ومن فاعلين مباشرين لها.
خلاصة الكلام هي مرحلة تحتاج التعاون، فسد النهضة الذي يمثل خطرا على الامن القومي المصري والسوداني يتطلب تعاونا بين البلدين وهو شبه مفقود حاليا.
وملف الصحراء يحتاج آفاق تعامل اخرى بين الشقيقتين المغرب والجزائر ولكن العكس ما يحدث.
وملف الإرهاب يحتاج تنسيقا مخابراتيا وتعاونا كاملا بين ليبيا وتونس بالتنسيق مع المخابرات الجزائرية والمخابرات المصرية لوجود ارتباط بين تلك الجماعات. (مثل ارتباط مختار بن مختار وتنظيم المرابطين من الجزائر، بجماعة انصار بيت المقدس في سيناء التي قامت بعملية مسجد الروضة وغيرها، وارتباطهما بانصار الشريعة في ليبيا وتونس وبكل من داعش والقاعدة (رغم الخلاف الظاهري بين التنظيمين الا ان الصانع والمتحكم واحد) ليمثل ذلك شبكة عنقودية معقدة تتبعت خيوطها في اسفاري عبر العالم وهي تمضي من حدود الجزائر وليبيا الى مالي وما فيها من مجموعات، وبوكو حرام بنيجيريا والشباب المجاهدين في الصومال، ثم الى شبكة تشمل سوريا والعراق، ولها وجود في اليمن وخلايا في كل دول العالم، وتتفاعل من اوروبا الى الصين وسيرلانكا (كلها شهدت عمليات إرهابية عنيفة) الى تنظيم نوسنتارا في اندونيسيا (قام ببعض العمليات) وتنظيم خراسان في القوقاز (مرشح لخلافة داعش وله عمليات في روسيا مثل عملية فولغوغراد) والذي ظهر بشكل علني مؤخرا مكفرا لحركة طالبان، وقد يفتح باب عمليات ارهابية جديدة في تلك الاحزمة، وقد قابلت في بعض تلك الدول شيخ وعالم افغاني كان احد ضحايا عملية ارهابية في جنازة في العاصمة الافغانية كابل، وكانت صورته وهو مغطى بالدماء تكشف بشاعة المشهد وضراوة وخسة العدو، وهو عدو واحد بمحرك واحد مهما اتسعت رقعته الجفرافية ولا يختلف عن وباء كورونا الا في طريقة الاخراج.
مختصر هذا التعقيد والتشابك المعلوماتي وفي اطار العلاقات التونسية الليبية هو ضرورة التعاون، وفتح صفحة جديدة بعد ملابسات التداخل الذي كان بين السياسي والايديولوجي، خصوصا مع مرحلة تونسية يقودها الرئيس قيس سعيد وما اعلنه من قرارات، ومرحلة ليبية تلوح فيها افاق وحدة وطنية رغم عدد من الإشكاليات والعوائق.
وان الاتهامات والاتهامات المضادة لن تقدم للدولتين ولا للشعبين الشقيقين شيئا، وإن غلق الحدود يمثل كارثة اقتصادية على مئات الآلاف من التونسيين ومناطق الجنوب خاصة الحدودية، وكذلك على حركة اقتصادية يمثلها الوافدون من ليبيا للعلاج او لمختلف الغايات الاخرى.
كما ان اجراءات الحجر فاشلة ومكلفة ومجحفة بحق التونسيين والليبيين وفيها رائحة استغلال مالي اكثر من كونها وقائية، ويجب الغاءها فورا.
وطبيعي هذا لا يلغي العمل المخابراتي والعمل الصحي بآليات أكثر نجاعة وواقعية.
*استشرافيا: مآلات أوطاننا واحدة.
لم ولن يتم تمزيق النسيج الذي يجمع بين الشعبين الشقيقين.
لقد كانت هنالك اشكاليات سياسية عميقة فإثر فشل تجربة الوحدة عام 1974، كانت هنالك ازمة حادة تم خلالها طرد أربعة عشر ألف عامل تونسي، ثم كانت عملية قفصة سنة 1980 والحرب التي سبقتها ولحقتها بين رئيسي البلدين.
ورغم ذلك لم تنفصم العرى، ولم ينس ما بين البلدين من تاريخ مشترك، واواصر قبلية ودينية، كالعلاقة بين النوايل والتوازين، وهجرة ورفلة وما سبقها من هجرات الفواتير الى تونس خاصة زمن القرملية اثناء حربهم مع اولاد سليمان في سبها وبعدها، ووجود جد قبيلة الصيعان في سبيبة التونسية، وكون جد قبيلة طرهونة من اشقاء ابناء الشيخ السايح (ابناء عمومة الجليدات والربايع)، وصولا للعلاقة بين المقاومين، مثل عمليات الشيخ احمد الشريف لمساعدة تونس وضرب الفرنسيين المحتلين، وتعاون البطلين خليفة بن عسكر والدغباجي، وعلاقة الشيخ سوف القائد الكبير مع عدد من كبار قبائل تونس وشعرائها كالشيخ المحسن في تطاوين الذي اجابه اجابة شعرية رائعة تعقيبا على قصيدته الشهيرة “استاحشت حرب الكافر” التي عني بتوثيقها الاديب التونسي محمد المرزوقي. ومثيل ذلك تعقيب الشاعر الفحل احمد ملاك على قصيدة البطل غومة المحمودي “راحت ايام العز ونسيناهم”.
حتى نصل الزيتونة لنجد مؤسسها سيدي علي بن زياد الطرابلسي.
هذا الارتباط يجعل عددا كبيرا من التوانسة من اصول ليبية حيث نجد لقب الزليطني والفيتوري والدوفاني والغدامسي، كما ان هنالك ليبيون كثر من اصل تونسي مثل بعض ابناء نفات الذين هاجروا مع المناضل الكبير والمظلوم علي بن خليفة اثر خسارته امام الفرنسيين ومات حزينا في نواحي طرابلس، وعدد من تجار جربة تسمى بهم شارع الجرابة.
ان الذي يجهل التاريخ سيجهل المستقبل.
وان ادعاء العلم والخبرة يسقط امام اول اختبار واقعي.
يحتاج الامر لا قراءة فقط بل سفرا طويلا ونظرا انتروبوليجيا وعلاقات شخصية واطلاعا مباشرا مع عمق تحليل وبعد نظر.
المرحلة دقيقة تحتاج للتعقل.
الشعبان بريئان من الارهاب، ومن الاعيب السياسة.
هنالك من يريد تمزيق العلاقة بين الشعبين كما يراد للشعبين الشقيقين الجزائري والمغربي، وكان قبيلة اولاد سيدي الشيخ لا توجد بين المغرب والجزائر (الشراقة والغرابة)، وهي اكثر من ناضل ضد الفرنسيين بقيادة ابطال منهم قدور بن حمزة والشيخ بوعمامة وضريحه قريب من وجدة وكنت تشرفت بزيارته.
ليستيقظ حكامنا، حتى لا نقع في الفخ كما وقعنا فيه تحت مخدر الربيع العربي.
مصيرنا مشترك، تاريخنا كمستقبلنا مشترك.
والخلافات يجب حلها، وبشكل فوري.
اما عني، مع كل المعطيات التي لم اكشف منها الا نقاطا صغيرة، ومع العلاقات المهمة عبر العالم، والخبرات المتعددة في مجالات شاملة واخرى دقيقة، فمثلي كقول العرجي (عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي):

أَضاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضاعُوا
لِيَومِ كَريهَةٍ وَسِدادِ ثَغرِ
وَخَلَّوني لِمعتَرَكِ المَنايا
وَقَد شَرَعَت أَسِنَّتُها لِنَحرى
كَأَنّي لَم أَكُن فيهِم وَسِيطاً
وَلا لِي نِسبَةٌ في آل عَمرِو

وسنستمر..

*صورة للمجاهدين والصديقين والبطلين خليفة بن عسكر والدغباجي، كي لا ننسى.

مقالات ذات صلة

هل حقا صعدوا إلى القمر
نشرع بداية من اليوم في إثبات ما ذكرته من أمور وأحداث في برنامج “الحكاية وما فيها” على قناة تلفزة تي في، الذي نسبني بعض...
2 دقائق للقراءة
حرب القيامة
الريح العاصفة، والحرائق الغامضة، والأعاصير العاتية، والزلازل المدمرة، وموجات البرد القارس والحر الشديد، في غير مواسمه ومواضعه.كل ذلك سلاح في أيدي الشياطين.لطالما حذرت من...
2 دقائق للقراءة
وجهة نظر: الذكاء الاصطناعي
أعكف هذه الأيام على دراسة الذكاء الاصطناعي، وأجري حوارات ممتعة وماكرة مع بعض المواقع التي صار لها صيت كبير، مثل CHATGPT/ POE/NEEVA.سألت عن مواضيع...
2 دقائق للقراءة
المدرسة البرهانية
ونحن في ذكرى يوم عظيم من أيام الله.ليس لشيء سبق، ولا لشيء لحق، بل لأمر عظيم كان فيه.أمر ارتجت له السماء، واهتز له العرش،...
3 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
دعاء الكلمة
اللهم يا من إذا قضى أمرا قال له كن فيكون.يا صاحب الكلمة وسرها.يا من خلقه كلمة، وعطاؤه كلمة.ونعيمه كلمة، وعذابه كلمة.ورضوانه كلمة، وغضبه كلمة،...
< 1 دقيقة للقراءة
الشيخ بوعمامة وأبطال الطريقة الشيخية (1845-1908)
(من أطروحة الدكتوراة في التصوف) من أرض الجزائر أيضا، قائد كبير لقب بعبد القادر الجزائري الثاني، إنه المجاهد البطل الشيخ محمد بن العربي بن...
4 دقائق للقراءة
فهرس أطروحة الدكتوراه في التصوف
الحمد لله والصلاة والسلام على حبيب الله. وبعد فهذا فهرس عناوين أطروحة الدكتوراه في أصول الدين: (التصوف الإستراتيجي بنية الأصل وهيكلية الفروع). والتي ناقشتها...
3 دقائق للقراءة
معضلة التاريخ
هنالك فرق كبير وبون شاسع بين معرفة الحقائق التاريخية وكشف غوامضها وملابساتها، وبين توظيف ذلك لإرباك الراهن واشعال الواقع وشغل العامة بأمور لا تؤدي...
< 1 دقيقة للقراءة
المصادفة : بين عين الخضر وعين دوكنز
“كنت اليوم في المدينة والتقيت صدفة بأحد أصدقائي في الجامعة الذي لم ألتقيه منذ عشر سنين، وكنت بالمصادفة يومها فكرت فيه، أو رأيته مصادفة...
7 دقائق للقراءة