4 دقائق للقراءة
من آدي آباد إلي غاجيبور
من دكّا انطلقنا، عبر طرق متفرعة طويلة، في رحلة دامت لساعات، لنصل ليلا إلى قرية آدي آباد (القديمة للأبد، أو مدينة القِدم، وآدي ربما أشارت إلى آدم)، وكان في استقبالنا حشد غفير من مريدي الشيخ السيد سيف الدين أحمد شيخ الطريقة المجبندرية القادرية، وعلى رأسه خليفته في تلك الزاوية وهي واحدة من أكثر من ستمائة زاوية.
ربما لن تنتبه وأن تنظر للحشود التي أمامك، إلى الشاشة العملاقة في جانب المكان حيث احتشدت النسوة بأعداد تفوق الألفين، كما أنك سوف تُفاجأ من صبر هؤلاء القوم وانضباطهم ومدى عشقهم لرسول الله وولائهم لشيخهم..وهنالك كان بعض الفيض والكلمات الطيبة عن المولد، مع مزيج من الابتهاج والضحك والانشاد والتحفيز من الشيخ أحمد التجاني بن عمر، وكلمة توجيهية دامت أكثر من ساعة للشيخ سيف الدين أحمد.
في أثناء العودة تابعت واحدا من أقوى أفلام الحركة والسرعة في حياتي: سائق السيارة العجيب الذي كان يقود بنا وسط ضباب كثيف جدا وظلام مطبق وكل مرة تظهر من العدم أعداد كبيرة من الشاحنات في طريق متعرّج ضيّق…لنصل إلى الزاوية (الخنقة) في دكا صباحا…إنها من ليالي العمر العجيبة.
في الغد اتجهنا إلى وجهة أخرى…مدينة غاجيبور (غازي بور أو مدينة الغازي من الغزو) في زحام رهيب…لا يمكنك أن تتخيل الزحام في شوارع دكّا، ولا يمكنك أن تتصور صبر هؤلاء القوم، ولا القدرة المذهلة لسائقي السيارات والحافلات هنا، أمر يبعث على الحيرة فعلا، وبعد ساعات أربع مضنية جدا بلغنا غاجيبور، وكان لنا موعد مع الآلاف أيضا، رجالا ونساء، وكانت الكلمة عن الفرح بالمولد، والتحذير من شياطين الوهابية وما يأفكون.
بعد ساعتين، وأثناء دعاء ختام المجلس للشيخ السيد سيف الدين، بدأت ألاحظ حركة غريبة: شباب يصطفون معا، ثم بدأت صحون الطعام تتالى، في مشهد لا يُصدّق: كل تلك الآلاف تناولت الطعام في انضباط وهدوء، وبقيت فاغر الحيرة.
عند العشاء قال لي السيد سيف الدين: كل شهر لدينا البرنامج الذي حضرت بعضه: كل يوم في زاوية وفي مدينة، ويتجدد اللقاء دوما، ونوزّع الطعام كما ترى على طول السنة، وبخلاف الاجتماعات الكبرى للمريدين، فإن كل الزوايا التي تتبعني توزع الطعا يوميا على العديد في المساكين..
بعدد يفوق 600 زاوية، في كل زاوية 100 يتناولون طعامهم يوميا، وفي كل شهر برنامج مفصّل في المدن وفي كل لقاء يحضر الآلاف فيستعمون وينتفعون ويوزع عليهم الطعام، وفي نفس الطرق الصعبة، في بلاد بنغلاديش التي لا تُعد من الدول الغنية، بعد أن نهب الانجليز أغلب ثرواتها لأكثر من مائتي سنة، حتى جوهرة التاج البريطاني سرقوها من هنا، ولكن الزوايا تستمر في عطائها، في طريقة تضم أكثر من خمس وعشرين مليون مريد، بالإضافة إلى بعض المستشفيات التي أنشأها والده السيد معين الدين أحمد رحمه الله، وكذلك مئات المدارس التي يدرس فيها الآلاف مجانا مع توفير اللباس والتغطية الصحية والطعام، ومع آلاف المساعدين والمدرسين والمشرفين، دولة من دول أهل الله تراها أمامك، وإن لم يكن كل ذلك مددا وبركة ربانية كاملة فماذا يكون؟
إن لم يكن برهانا لرسول الله في ذريته وآل بيته، ماذا يكون؟
إن لم يكن حجة للغوث عبد القادر الجيلاني وللصالحين، فماذا يكون؟
منذ قرابة الشهر ونحن معا: أحاضر باللغة العربية، ويتكلم الشيخ أحمد التجاني بن عمر بالانجليزية، وينهي السيد سيف الدين أحمد بالبنغالية، وبكل تلك الألسنة نقول كلاما واحدا تقريبا: حب الله وعشق رسوله وآل بيته والصالحين، ومحبة الخير للمسلمين، والدعاء للقدس والشام واليمن والعراق والأمة كلها، ثم التحذير من ضباع بين وهبان التي تتربص هنا أيضا، وتسعى نهشا في جراح الروهينغا، وسمّا في فقر الناس وجهلهم بالدين…وهم أشد خطرا على الأمة من بني صهيون، لأنهم يتكلمون باسم الله ورسوله إفكا، ويزورون الحق ويخدعون وينشرون الحقد والكراهية حيثما حلّوا.
إن ما عشته في بنغلاديش وشهدته في هذه الأيام ونحن ننتقل من مدينة إلى مدينة بالطائرة وبالسيارة، من آيات العشق المدهشة، ومما يشعرني بأن في جزء من العروبة شيء، شيء فاسد تراكم عبر العصور، ترى فيه أوجها بغيضة وقلوبا مُبغضة حاقدة كارهة للنبي وآل بيته والصالحين يملؤها الغرور والصّلف والكِبر الأجوف، تناسلت من يزيد ومن قبل يزيد، إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب إلى هذه الساعة.
والصّلف لا يشمل تلك الشراذم فقط، ولا الغرور، فكم مُدَّع للعلم الشرعي وهو من أهل الغرور، وكم مدع أنه من أهل التصوف ومن أشياخه وهو كتلة جهل وغرور، وكم دون ذلك من عاجز كسول، ولص دجّال.
إن السيد سيف الدين أحمد مدرسة محمدية، ونموذج للصوفي الحق: العالم العامل، وللسيد الشريف فعلا وقولا لا نسبا فحسب، إذ النسب أمانة ولها واجباتها وحقها.
ولست أمدح أو أداهن، ولكن أشهد بما رأيت، وليت أحبانا من مشايخ التصوف في العالم العربي وفيهم خير كثير يحذون حذوه، رغم أن إشكال الإمكانيات يبقى معضلة، فدولنا مهما كان لها من مال تجعله في سبل أخرى تراها أهم، وما هي في المعظم إلا سُبل غم وهم.
أرجع قريبا إلى تونس التي تُعاني ما تعاني، وأسأل الله لطفه، لأعاود الرحيل مجددا إلى الهند وأندونيسيا وماليزيا…لأقرأ من كتاب شعوب مذهلة…لأزور أهل الله وأحباب أهل الله…لأتعلم درسا جديدا…وأقول كلمة جمال جديدة…وأكتب المزيد من الشعر…وأنعم بدلال الله وفيضه وأمداد رسوله …وأحتضن في كل مدينة وليّا جديدا من الصالحين الذين عشقتهم منذ الصّبا…وأرى بهم عزا وحبا في أعين الناس الذين ألتقيهم لأول مرة وكأننا التقينا منذ آلا السنين…فتلك بركات أهل الله في محبيهم تسري…وتلك أرواحهم تَحُفُّ من قصدهم من بعد المسافة لا يروم بعد رضا الله ورسوله إلا حبهم وودهم…ولن يقصد إلا كراما…ولن يرى ضيما أو كدرا…فمن خدم أهل الله حقا …لن يذل ولن يُخذل.
دكا، بنغلاديش.
22/12/2017 – 14:00