7 دقائق للقراءة
تكمن القوة الحقيقية في الوعي بالضعف، ومهاجمة نقاط ضعفه فينا، فكم يخاف ضعفنا من أن نسترد الذاكرة، ونعلم كم نحن أقوياء.
غرورنا، هواجسنا، ورغباتنا التي لا تنتهي ولا تشبع، تجعل الضعف يستوطننا.
يسكننا الخوف من الآتي، والحسرة على الماضي، والشك في الموجود والحاضر.
إنها المأساة التي لابد منها.
والسعادة الفعلية، هي التأقلم مع المأساة، مع كوننا جميعا سنموت يوما ما، لكن علينا أن نقف حتى اللحظة الأخيرة، وأن نستمر في رؤية شموس الأمل رغم كل سحب اليأس والألم والقلق المحيطة بكل ركن من آفاقنا التي تتسع لأوجاعنا وتضيق كثيرا بأحلامنا الجامحة.
كان المعلم يحدثنا ونحن نصغي لكل حرف، أكثر من مائة تلميذ بعضهم ينتمي لقبيلة الكوغا، وآخرون من الإيجا، يتجاوزون عداوة الماضي إلى الصداقة الأقدم وقرابة الدم منذ أن كان أجدادهم حراس الحاكم في أوكيناوا قادمين من الصين تنفيذا لأوامر الامبراطور الذي كان يحكم أرخبيل الروكيو قبل أن يفتكه الساموراي الياباني ويكون تحت حكم الشوغون.
وهكذا انتقل من فر منهم إلى قريتين مخفيتين في اليابان، الكوغا والإيجا، ليمارسوا فنون التخفي، وليكونوا مقاتلي الظل، الننجا.
ولكن المعلم شينوبي أضاف الكثير، فقد أتقن كل فنون القتال في زمننا، تدرب على فنون الشاولين في المعبد في هونان، وعلى فنون الوودنغ فوق الجبل، وتدرب على التأمل في أرض التيبت لأعوام، ثم تدرب فنون الجتسو والساموراي حتى أصبح الأقوى، وظهرت عليه قوى وقدرات غريبة كأنها السحر، وانتشر خبر معركته التي اختفى بعدها في أرجاء البلاد كلها.
فقد وقع الشوغون مرة في كمين، وكان المعلم شينوبي حارسه الشخصي المباشر، وحين كثرت السهام وتداعت السيوف من كل جانب، قام بختمة بيده حرك ريحا قوية، ويقال أن تنانين حمراء وصفراء ظهرت، وأن نارا اشتعلت، ولا أحد يذكر على وجه الدقة، فقد أغمي على الجميع، وتم قتل كل المهاجمين دفعة واحدة بشكل غامض غريب ترك حروقا ورموزا على أجسادهم، وكان ثمة دائرة في الأرض عليها كتابات غامضة، ولم يعثر أحد على المعلم شينوبي، فقد اختفى ولم يظهر ثانية.
وعندما أتى ذلك الطائر إلى قريتنا، نظر في عيني مباشرة، واختفى أيضا.
بعدها كان ما كان في قريتي، ووجدت نفسي في القرية المخفية.
كان ذلك لغزي وسري، وأعلم أن لكل تلميذ من تلاميذ المعلم سرا ولغزا يختفي خلفه سبب قدومه او استدعائه لهذا المكان، وفيه كيف تم جلبه ولماذا، وفيه المأساة التي تعرض لها والظلم الذي جعله يريد أن يتحول إلى مقاتل ننجا لا يقهر.
كان المعلم يحب الكلام النظري، وكنت أتوثب للتمارين العضلية، لتقوية جسدي أكثر، فأنا قصة مختلفة، وكلنا كذلك في الحقيقة، لكني سأكتفي هنا بقصتي، لعل من يقرأ كتابي يجد فيه شيئا يشبهه.
اسمي الحقيقي، حسنا، لا أذكره الآن لأنه مات مع ذاتي القديمة، أو احترق ليلة الحريق الكبير الذي كاد أن يقضي على عشيرتي كلها، أو ربما نسيته حين تغيرت حياتي في ليلة واحدة.
عشيرة السيف الفضي، كان مؤسسها “كاو تشن”، جدنا الأول، عبر طفلا مع بعض أهله من جزيرة الفرقد حيث نشأ، إلى أرض غابة المطر، والتي أصبحت بعد ذلك أرض الجراد.
كان الناس يعملون في الفلاحة ويقدمون القرابين لملك الجراد كي لا يغزو كل محاصيلهم.
وكانت الفلاحة قائمة على أنواع من الخضر، والكثير من الأرز.
وملك الجراد قاطع طريق ومجرم يسكن الجبل، واستغل ضعف الامبراطور وعدم سيطرة قواته وقادته على كامل تراب الصين الشاسع، ليبطش بالضعفاء.
وكان في عادة سكان قريتي أن يكون لهم مهرجان سنوي، للبهجة والفرح ولشكر القديس العظيم على مِنحه وبركاته.
ويتم في المهرجان زرع مائة شجرة جديدة، وجمع كل الأطفال في أفضل الملابس، والقيام بحركات بهلوانية ورقصة التنين المحببة للجميع، وأخيرا تقديم الطعام لكل الحاضرين والزوار من القرى المجاورة، مع غناء الأطفال لأنشودة الخصب:
“دائما، كل عام
ورغم السحب الشحيحة
نعلم أنك سوف تأتين
أيتها الغيمة السخية
لتمطري في حقولنا
فترقص الزهور
ويغني العصفور الدري
ويعم الخصب أرضنا
شكرا أيتها الغيمة الرحيمة
سنزرع ونحصد ونرقص ونغني
وسنطعم الجياع
ونطعم حتى الجراد
شكرا للقديس العظيم
ولأرواح الأجداد”
وهذا المهرجان لم يكن سوى احتفال بالنجاة، من قصة لم يعد أحد يصدقها، لولا جدة جدي السابعة التي تركت أثرا مكتوبا عن كل ما رأت وشاهدت، وتجزم أننا أحفاد المعلم الكبير فودجا.
تقول القصة أنه ومنذ ثلاثمائة عام أو أقل، كان أهل القرية يسكنون بجانب غابة مطيرة، لكنهم لم ينفذوا ميثاق أجدادهم في حماية الغابة بل قطعوا الأشجار، ومنعوا الطعام عن العابرين إلا بمقايضات باهضة، فمن لم يجد أجبروه على العمل المضني مقابل طعامه، حتى جاء رجل غريب يلبس ملابس صفراء بالية ويمسك بعصا، وعيناه زرقاوان، رغم أنه يبدو صينيا لكن مختلفا، قال أنه من جزر الأرخبيل البعيد، تلك الجزر التي كم تحدث الناس عن هيمنة التنانين على ما حولها من بحار الموج الأحمر، لأن التنانين الحمراء تخرج لتجدد ألوانها تحت أشعة الشمس ثم تعود للأعماق.
قال له أحد الجشعين: اعمل معي في قطع الأشجار.
قال آخر: احفر مع عمالي خندقا حول حقلي كي لا يصله حيوان ولا انسان.
قال لهم: لماذا ترفضون منح الخير وقد منحتكم عدالة القدير كل الخير.
ومن القدير هذا، الملك جاو منغ؟؟؟
جاو منغ هو ملك مقاطعة اللوتس المائي، وأرضهم جزء منها.
لا، بل هو ملك ما حولكم، ملك الهواء.
ملك الهواء؟؟؟
وملك الشمس والأغصان والسماء.
لم يتمكن أحد من تصور ملك لكل شيء، لكنهم ضحكوا كثيرا وانفضوا من حوله.
في الصباح، صرخ عامل وأغمي عليه، وصاحت امرأة، طفل بدأ يبكي، وطفل آخر بدأ يضحك بجنون، لقد كان كل شيء قد اختفى، كل ما زرعوه، ولا شيء.
سمعوا صوته هادرا، انطلقوا إليه، كان يقف في الهواء، وفي يده العصا تضيء، ملابسه تبدلت وحوله ظهر تنين يلتصق بجسده التصاق الظل، وما إن رفع يده حتى انفتحت كوة من فوق رأسه وخرج منها، “الجراد”، ملايين الجراد، ملايين الملايين منها، جراد أصفر تشكل كالسحابة.
صرخوا وسقطوا على ركبهم، الرحمة، الرحمة.
هذا جزاء الجشع، لقد سيطرت عليكم أطياف الجشع الرمادية، يا لكم من مساكين.
في أقصى المدينة كان يسكن غريب آخر، لا يعرف أحد اسمه، وكان لا يستطيع النطق، فقيرا، يسخرون منه، ويتخذه الأطفال لعبة للتسلية حين يرمونه بالخضر المتعفنة ويرونه يركب على عصاه ويجري، ويحاول الكلام فلا يستطيع. ولكن بعضهم كان يشفق عليه، ويطعمه، وكانت إحدى بنات المزارعين تحبه كثيرا، وتعتقد أنه مخلوق آخر، وأن ما يبدو منه ليس سوى قناع أو وهم، وكانت أمها تسخر منها وتقول لها أنت تهذين يا ابنتي، قد يكون مسكينا وربما كان قبل هذا رجلا ثريا في مقاطعة أخرى ثم أصابه شيء ما، ففي عينيه بريق غريب يظهر ويختفي.
ولكنه ليس ما تعتقدين.
حين سمع الغريب صراخ أهل القرية ابتسم وحرك أصابع يده بهدوء.
نزلت سحابة الجراد الأسود والرجل التنين الغاضب يزمجر وهو يقف في الجو، وفجأة ظهر شعاع من الضوء ضرب الجراد وحاصره في بلورة ضوئية، ورفعه عاليا، نظر الرجل – التنين أمامه بغضب، هذا أنت إذا.
التفتوا خلفهم، كان الغريب يلبس ملابس خضراء وبيده خاتم براق وعلى جبينه تاج أزرق بزمردة خضراء.
اجل إنه أنا، وأطلب لهم الرحمة، فقد عشت بينهم طويلا، وفيهم الخير رغم كل الشر الظاهر، أو فيهم الخيرون ولو كانوا أخفياء مستضعفين، ولأجلهم فالرحمة أولى من العقاب.
إنه يتكلم، ويطير، واغمي على زعيم تلك القرية، ثم استيقظ فزعا، فقد رأى آلاف التنانين والجنود المقنعين يحملون السيوف على اكتافهم ورأى أمورا لم يفهمها وكائنات لم يعرفها، كل ذلك كان حولهم وفوقهم، وحين فتح عينيه، لم يبصر من ذلك شيئا، ثم نسي لسبب ما رآه ونسي فزع نفسه.
كالعادة، أطلب تنفيذ العدالة وتطلب تنفيذ الرحمة، إنك يا أخضر رحيم بهؤلاء البشر، ولولا أمر القدير لكنت منعت كل العقوبات السابقة والتي ستأتي.
ارتفع الأخضر بجواره وقال له بلغة لا ادري كيف فهمتها: تعلم أني أشرف على كل عملية إبادة وأفتن الظالمين، ولكني حين أجد نور الخير أركب غيمة الرحمة وأفتح بابها، وأغلق باب العقوبة ولو إلى حين.
كان بين الأخضر والتنين صاحب القرنين ما يفوق الأخوة والصداقة، فهما توأم خرجا من نفس الشجرة، من نفس المكان هنالك في الأعالي، ولكنهما كانا يختلفان في الطبيعة والطاقة، ويتكاملان أيضا.
والعجيب أن أحدهما حين يكون في حال القسوة يكون الآخر في حال الهدوء، وإن كان الهدوء أظهر في الأخضر فإنه لا يمتنع عن التنين المفني.
المميز أن الأخضر عاش أكثر مع البشر منذ أن رافق أباهم بعد نزوله من السماء، لكن توأمه القرني عاش مع الحضارات السابقة لأب البشر الطينيين وكان حاكما للكون كله، ومنذ أن تمت إبادة كل تلك الحضارات والإتيان بالخليفة الأخير، صار الأخضر مسؤولا عن اختيار المعلمين من البشر، وعن مرافقة المختارين جميعا وتدريبهم وتأهيلهم، وعن المكر بالظالمين في مشاهد يعتمد فيها الكثير من البراعة في التقمص ومن المكر والكيد بأعمق المعاني العلوية وأقوى المظاهر السفلية.
وبين هذين المخلوقين العظيمين يكون دور التنين الأبيض الكبير، والنسر الفضي، وقائدهم الرخ العظيم، والنمر الذهبي، وغيرهم من كبار قادة ما فوق السديم الأسود الذي يسميه البشر الكون.
لقد تم العفو عن القرية، ولكن البشر ينسون بسرعة، وعوض أن يذكروا ربهم الخالق، رجع لديهم الاعتقاد بأن القديس الأصفر إله، ولم يكن في الحقيقة سوى أحد المختارين من القدير، معلما كبيرا له بتايبنغ علاقة وطيدة وقديمة، وتلك قصة مطوية من قصص القدر الغامضة.
لعل ملك الجراد عقوبة أخرى، أو لعل التسمية كانت مصادفة.
المهم أنه وفي ليلة مظلمة هجم على القرية التي تأخرت في أداء ما عليها من إتاوة، وكان معه جنود كثر من قطاع الطرق والقتلة.
حاصر القرية وشرع في إحراقها، احترق بيتنا وكاد أبي يختنق وهو يحاول إخراجنا.
رأيت شقيقتي تصرخ، وأمي تحضنها بعينين دامعتين فزعتين.
فجأة، ومن خلال ألسنة اللهب رأيت رجلا يمشي في النار.
مد يده إلي، وأشار إلى النار فانطفأت، ومن خلفه رأيت رجلا يضيء نظر إليه كأنما يأمره بشيء، ثم رأيت تنانين تطير، وظهر سبعة محاربين، ستة رجال وامرأة، كل يحمل سيفا مضيئا.
ما أذكره بصعوبة قبل أن يغمى علي مجرد مشاهد، رأيت زعيم الجراد يطير عاليا ثم يتلاشى جسده كالبخار.
رأيت جنوده يتلاشون والمحاربون السبعة يضربون بسرعة أشد من البرق، ولكل منهم لون وبريق خاص.
رأيت التنانين تنفخ ما يشبه الضوء الناري.
رأيت المعلم الكبير يشير إلى النار فتنطفأ.
أما أنا فصحوت في القرية، وكان المعلم شينوبي ينظر إلي مبتسما، لقد كان الرجل الذي أنقذني من ألسنة اللهب.
وحين هممت بسؤاله أجابني وكأنما يقرأ عقلي: أمك وأبوك وأختك بخير، وكذلك أهل القرية، وسترجع إليهم حين تكون جاهزا لحمايتهم.
وهنا بدأت رحلتي وقصتي، وسماني المعلم اسما جديدا: ياموتو، قال أنه أعطاني ذلك الاسم تيمنا بصديق ومحارب ساموراي عظيم اسمه مياموتو موساشي.