3 دقائق للقراءة
الإلحاد النفسي ردة فعل غاضبة، وهم تظنه حقا، والحقيقة أنك لست ملحدا، فقلبك موقن، ولو سألته لحدثك عن يقينه.
وعقلك المتشكك يساير نفسك، ولو خافت نفسك خوفها من الغرق، لأطلق عقلك لسانك بنداء الله والاستغاثة به.
وكل بشري، سواء ادعى أنه الرب الأعلى، أو أنه لا وجود لإله،
أو أن لله شركاء من أصنام يصنعها بيده، أو من الجن والشياطين الذي خلقهم، أو حتى عبد الشمس أو النار، كل بشري حين تداهمه عاصفة كتلك التي داهمتكم، سينادي يا ألله، لأن كل روح تعرف الله، حتى روح كبير الشياطين.
ثم حين ينجو يرجع للعناد كأن لم يدع ربه لضر مسه.
أما ما تراه ظلما، فأنت واقع في فخ المعاينة.
وما فخ المعاينة، قال الشاعر وقد راق له الكلام.
أراد فلسف أن يتفلسف قليلا ويتكلم عما عاينه في أرض زيوس وفي بلاد وودنغ وفي قصر الحاكم في مدينة الترجمان، وكيف يختلف المنظور وفق اختلاف الناظر، ولكنه ارتأى أن كلامه سيضيع الوقت، وأن ما ينطق به الأستاذ الكبير أهم وأعمق، فصمت.
ابتسم المعلم وهو يسمع تسلسل أفكاره ويقرأ صفحة عقله وأبهجه أن تلميذه بدأ يخرج من دوامة التفلسف إلى بحار الفلسفة.
فخ المعاينة هو اختلاف المنظور باختلاف الناظر.
فتح فلسف عينيه، وقال في نجوى نفسه باستغراب: كأنه سمع فكري.
ولم يعلم أن الفكرة نفسها أتت من عقل معلمه لا من عقله، وكان ذلك فنا تخاطريا سيتقنه بعد ثمانية أعوام.
نعم، اختلاف المنظور، باختلاف الناظر.
لنأخذ مجلسنا هذا مثلا: أنا أجلس في الهواء متربعا، أو أحيانا على الصخرة الكبيرة.
وأنتم هنا من حولي، وحين أنظر إليكم أراكم من نقطة أعلى منكم، أرى كل واحد، وفيما أنظر إليه أثر ما أنظر به، علمي، وعيني، وموقع نظري.
سلفوت ينظر إلي وهو يكاد ينام، لأنه يظن أن الأمر لا يعنيه، بل هو مضطر لصحبتنا وقد كره الصحبة، فنظره بعين الكراهة قبّح في عينه الحسن، وبشع في نظره الجميل.
وسكران ينظر إلينا مترنحا، ويبدو له كل شيء ممكنا وغير ممكن.
هو لا يفهم ما يدور من حوله، لكن عقلا في باطن عقله يفهم كل شيء، وقلبه يدرك كل شيء.
وبين نظر عقل السكران السطحي، وعقله العميق، وعين رأسه وعين قلبه، يختلف المنظور باختلاف الناظر، ويختلف المعايَن باختلاف العين التي تُعاين.
ملحد ينظر باهتمام، ومجنون لا ينظر أصلا، وكل عين ترى ما تراه وفق سر النظرة.
كلٌّ يرى من موقعه، ويبدو له شكل المجلس وهيئة الجالسين وفق ذلك الموقع، ولو صعد أحدكم فوق الجبل لرآنا على غير ما نرى به بعضنا.
ثم انظروا من حولكم، كل كائن سيرى على حسب ممكنات نظره وإمكانات بصره.
البومة سترانا بلون وحال، والنسر المحلق فوقنا سيرانا بلون وحال، والنملة التي تمر تحتنا سترى عمالقة جالسين، والجبل لو كان له أن يرى فسيرى بعض الحصى يتحرك فوقه.
ثم أعين المردة المطلين من سجنهم، وعين كبير الشياطين وأعين شياطينه، وأعين الملائكة الذين يحرسوننا، وأعين الكتبة منهم، وكل كاتب يرى من خلال من كلف بالكتابة عنه، ويسجل ويدون ما يراه تسجيل صورة ومشهد لا تسجيل خط وحرف.
ثم انظر إلى أعلى، كيف يرانا أصحاب المقامات العالية، وكيف نبدو في أعين الأنبياء والصلحاء وأهل الملأ الأعلى، ثم كيف نبدو في عين الله على مراد الله من معنى عينه لا جسما ولا حسا.
وكم من عظيم في عين نفسه، حقير في عين ربه.
وكم من حقير في عين نفسه، عظيم في عين ربه.