5 دقائق للقراءة
كان المعلم يحرص على تربيتهم، فقد خبر البشر وخبر من كان قبلهم، وعرف العوالم كلها، واختار بأمر ربه تلاميذ يعلمهم، وتنانين يدربهم.
وبعد أن قص عليهم خبر أول قاتل وقتيل من ذرية بشري الطين، سأله مريد: تُردد يا معلمي كلمة بشري الطين، فهل كان هنالك بشر من غير الطين.
قال: بلى، ستة أجيال في كوكبكم هذا، وما لا تحصونه في كواكب أخرى كثيرة ومجرات عديدة.
فما كان الله ليخلق كل هذا الكون وما فيه، ثم يتركه خرابا ولا يعمر منه إلا كويكب واحد ضئيل، يدور حول شميسة صغيرة، في مجرة صغيرة جدا مقارنة بمجرات عظمى وشموس عظيمة وكواكب كبيرة.
ولكن قيامة أولئك قامت، واندثر من كانوا قبل بشري الطين، من الأبشر الأوائل، الجلاوذة العظام، والجِبلّة الأولين الذين كانوا يمشون مرحا فيخرقون الأرض ويبلغون الجبال طولا، وهم أول من عمّر الكوكب الأزرق، كوكب الخليفة الأخير.
وكانوا قد خلقوا من معادن شتى، وعلى ملامح كثيرة وخصائص عديدة، ولكن بشري الطين جمع الله فيه ما لم يجمع في غيره، رغم أنهم جميعا كانوا أكبر منه حجما وأشد منه قوة، وأطول منه ومن ذريته عمرا، وعمَروا الأرض وأثاروها بأشد مما أثارها وسلالته، بل كانوا أكثر عددا، حتى فسد حالهم، وأتى زوالهم.
ولكن بشري الطين حمل روحا أعظم منهم، وسرا أكبر، ومختارين من ذريته أرفع مقاما.
وكان سره الأعظم: العشق.
ثم أطرق برهة وقال لهم: حين فارق زوجته ونزل الأرض بعد أن أكل من شجرة توجب التخلص من الطعام مما أوجب كشف ما كان مستورا عنه وعن زوجته، إذ تلك شجرة من كوكب الأرض الذي سيكون خليفة فيه، أما شجر الجنة فثماره وكل طعام هنالك يتخبر في الجسم لأنه من نور عالم البقاء، وليس من مادة عالم الفناء.
وكان ظنه إذ أقسم له الغَرور أن مكوثه في الجنة بأكل ثمرة شجرة الخلد التي نهاه الله عنها سيؤدي إلى نجاة ذريته من الفتنة، شفقة عليهم لا رغبة في عصيان خالقه.
وقد حذرته زوجته، ثم تبعته لأنها مأمورة من الله باتباعه.
فعصى ربه وغوى، وكان ذلك لكتاب كتبه الله عليه، ثم نزل ونزلت على فلَك النور.
مكثا أربعين عاما دون لقاء.
كان مقامه في أرض التوبة التي قال فيها مرارا تُبتُ إلى الله، تُبتُ إلى الله، حتى سميت بذلك، من ركن من الأرض يسمى بركن الأسى، حيث كان فيها آسِيًا.
وكانت في أرض مثوبة، من ركن سمي باسم الفراق، ذلك الركن الغني بكل خير، والذي سيسكنه فرع من ذرية ابنهم القتيل، ثم يستعبدهم ذرية القاتل مجددا.
بقي باكيا دامع العين، وقد حمل معه هدية ينفخ فيها فتخرج أصوات حزينة، وحين سأله الأمين ما اسم هذا قال ناي، لأنه يعبر عن أناي، وعن أنيني وحنيني.
كنت أهديته الناي وأنا أخبره عن طبيعة العالم الذي سينزل إليه، وأن العداوة ستحكم قبل المحبة، وأن الشر أصل والخير مضاف، وأنه دار فناء لا بقاء فيها، ودار امتحان، ولكن منح الله فيها كثيرة، وهي سبيل للرجوع إلى جنة الأصل، وجنان الوصل.
وكانت معه عصا أخذها من النسر الكبير ميسان، المسؤول عن الحفاظة والحسبان، سادس الستة الكبار.
وكانت في تلك العصا قوى كبيرة مودعة مخفية، اكتشف منها نصيبا، ثم تركها وراثة، من يد مختار إلى يد مختار، حتى حملها الذي شقَّ بها البحر وأغرق واحدا من أعتى أعداء الله، بعد أن ألقاها فإذا هي حية تسعى وثعبان عظيم.
ثم أخفيت مجددا في مغارة حولها زيتون، لتكون في يد الخليفة الكامل في ختام آخر المراحل وبداية الأشراط الكبرى.
طيلة أربعين عاما، كانت حوراء التي سَمْتها حياء وسرها إحياء وهي من حي قد خلقت فعرف بما علمه الله أنها حواء: حاء حب وحياة، وواو ود ووصال، وهمزة أمل وفناء.
كانت طيلة تلك المدة تعيش في أرض كثيفة الشجر كثيرة الوحوش، وكانت قوية سريعة ومحاربة عظيمة لأن ذلك مما أودع الله فيها، ولولا ذلك لما تمكنت من البقاء، وكان نساء من الحظيرة القدسية وأخريات من بنات النار يواسينها أحيانا.
وكان على قوته يعيش بأرض مليئة بالجبال، وقد اتخذ أحد كهوفها سكنا، يتعبد فيه ويسأل مولاه الصفح.
وكانت له قدرات طاقة وتحكم في العناصر، وعلوم ومعارف.
وكان يرى الجن جهرة متى أحب له ربه، فلم تكن عينه مجردة كما سيكون في أجيال لاحقة من ذريته فيكون عليها الغطاء، وكان يرى الملائكة ويشاهد وجوه الشياطين الشامتة وكبيرهم الحقود، وكان يفهم منطق كل دابة من حوله، ويعرف نفع كل نبتة يراها، وضرها، وحقيقتها وسرها.
وكان لامرأته مثل ذلك أو قريب منه.
لقد نُوّم مرة بمغناطيس السماء، وخلق الله له من جنبه من تبقى إلى جانبه، ومن قرب قلبه من سيحبها، ومن تحت يده من سيحميها، كما قال الكلمة لحواريين له في مشهد من مشاهد اقتراب الختام.
حين فتح عينيه كان يسند رأسه إلى ساقها، رأى عينيها فغاب فيهما وكلم ربه مناجيا: مني خلقتها، لكني أشعر أني خُلقت منها، وأن الجنة كانت غربة لي قبل أن أضع يدي في يدها.
رجل بذلك العشق لامرأة خُلقت من جسمه، كيف يتحمل فراقها.
لقد نبعت منه قصائد، وتفجرت في روحه معاني ولواعج، وخفق قلبه وعزف بحزن، حتى كان تمام الأربعين عاما، حين رأى رؤيا، وكأن الله يفتح لها بابا، وفي الباب ارتفع إلى قاب قوسين، ورأى مكتوبا على البيت الأعظم ثم في الستارة وفوقها أسماء قوم، قال من هؤلاء يا رب، قال هؤلاء كلماتي، سادة خلقي وباب وصلي الذي لا يبلغني مخلوق دونه.
إنهم أحبتي قبل أن أجمع طينتك، وأسويك بشرا، وأنفخ فيك من روحي.
قرأ الأسماء وحفظها، واستيقظ فسجد وقال: اللهم بهم وسر صلاتك عليهم اغفر لي.
لمع في صدره نور، وظهر الأمين يحمل ورقة فيها: تبنا عليك.
لقد تلقى الكلمات بعد أن تعلم الأسماء، وهي كلمات تحمل اسم المحبوب وأهله، فصلى عليه ربه وملائكته، ونال أبو البشر الغفران بتلك الصلاة وتلك الصلة، وبذلك الجاه وتلك الوسيلة، وقد قلت له حين هنأته بالعفو: لولاهم ما خلقك.
رأت امرأته في رؤياها أن نورا نزل على زوجها، فسُرَّت بذلك، ثم أقبلت الملكة التي كانت تؤنسها في وحشتها مرات مع نساء من الحضرة القدسية، وملكة الجن الأبيض وأميرات من عالم النار المنوّر بنور الإيمان، وباركت لها التوب والأوب، وأحضرت إليها ثوبا أبيض جميلا، قالت هذا خاطته لك أخوات لك في جنة السماء، ليكون لعرسك الأرضي بعد زواجك السماوي.
يوم الجمعة هو يوم اللقاء، وقد بقي ثلاثة أيام من شهر حرمه الله، في بقعة مقدسة، فيها كان أول بيت لمن سكن الكوكب قبلهم، يأتيه خيارهم ويحرم على شرارهم، ليعبدوا الله ويسبحوه، وحوله بحر حاجز، وقد حرسه صاحب القرنين، حتى بغى من كان قبله وأتوا على دوابهم التي تشابه قطع الجبال، فأبادهم وسجر به البحر رملا، وأصبح ذلك اليم الطافح ربعا خاليا وصحاري ممتدة.
وصلت قبله ببرهة، وكانت متشوقة لتلقاه، وقد حملتها الملكة العالية بنقل الخطوة، ومكثت تجري سبعا بين صفاء نفسها ورواء روحها، جري التي تركها الأواه في واد غير ذي زرع وهي تريد ماء لرضيعها، وفي سابع المراحل ظهر لها على مسافة قريبة بنقل الخطوة وعن يمينه الأمين وعن يساره من يليه مقاما، وكنت والنسر الأبيض وبقية الستة الكبار وشقيقي التوأم خلفه.
ركضت إليه وضمته بلهفة وضمها بشوق، ونبع من تحتهما ماء يزم زمّا، فكان لهما وللمختارين من ذرياتهما، وسيزم مرة أخرى تحت قدم رضيع ذبيح تعيش أمه الصدّيقة نفس المشهد لكن مع فراق من تحب وحماية من أنجبت ليكون من نسله ذبيح ينجب محبوبا ويكون ذبح عظيم يفدي الأول بولد الأخير.
كان عرسا عظيما حضرته الدواوين العليا كلها، والنورانيون من ثَقل النار، في أرض أحاطت بها جيوش كائنات النور، في بيت أقدس، سيكون فيه مختارون كثر، وسيكون مدار حرب النهاية والخلافة العظمى التي تعم الملكوت وتفوق خلافة الأب الأول في التمكين والتصريف والمجال.
وبين بيت محرّم وبيت مقدّس، وأرض اتخذها له مصرا، وأخرى له فيها رافدان، كانت حياته الطويلة، ومأساته الثقيلة بقتل أحد ابنيه للآخر في ركن سيكون عرق دم يراق.
وحين سأله الأمين عن اسم الأرض التي بارك الرب من حولها، والتي فيها معارج السماء، ومنها سيعرج المحبوب حين يظهر، قال: جنة الطين، فيلاس طين.
وبذلك سُمّيت، وسَمَت.