4 دقائق للقراءة
في مجلسه الفاخر، جلس الغريب وقد بلغ أشده واستوى، مفكرا في قصته، وفي ملهاته ومأساته معا، وتذكر لحظة حزن غمرته بعد أن استيقن من تفاصيل خبره قبل أن يأتي عالم الفناء، ولمس الأمر وعاينه معاينه، وشهد من براهينه ما لا يقوى عليه عناد عقله ولا جحود نفسه، فقال لصاحبه يناجيه: أخبرني ماذا أكون، أنا رجل يحمل في داخله جثة وحش وجيفه شيطانة.
ولست الوحش ولست الشيطانة، لست الروح ولست النفس التي هي روح أخرى.
أصعد أحيانا لعوالم الكمال التي فيها حقيقة مقامي وتاريخ روحي العظيمة، وأهوي إلى قيعان العالم السفلي لأطلع بعين شيطانتي على عالم لا يطيقه قلبي.
أعلم أنها حكمة عظيمة، وأن علي أن أكون مثقابا للملكوت، مطلعا على دقائق ما فيه بكل ما فيه من أعلى وأدنى، ومن جمال وبشاعة، وكمال ونقصان، ونور وظلمات.
لكنها حكمة مرة مريرة علقمية لا تطاق.
ولو أنك يا صاحبي حاولت أن تقنع أم الغلام بحكمه قتلك لابنها، وأتيتها بكل آية، ما اقتنعت.
وستقول لك حملته في بطني وهنا على وهن، ووضعته بعد أن تجرعت سكرات الموت، وبعد مخاض عسير، وأسقيته لبنا غبوقا، وربيته على كفي حتى نما وترعرع، ثم حبا ومشى خطوته الأولى، وقال ماما، وصحت لوالده أنه يتكلم، ثم صار طفلا جميلا يسر العين، وغدا غلاما بهي الطلعة، وجئت أنت بقسوتك فقتله بدم بارد، أمام صرخات صاحب لك كان يرافقك، وقلت له غاضبا ألم أقل لك إنك لن تطيق معي صبرا، وانتحبت حين رأيته جثة هامدة، باردة، جاحظة العينين، وجاء أبوه باكيا، ورفعت رأسي إلى السماء أقول رب لم سلطت علي مجرما قتل ولدي، ثم بان لي أنك لم تكن مجرما، بل أنت المعلم العظيم الأخضر، المليء حكمة ورحمة، فأين غابت رحمتك، وكيف ظلمت حكمتك.
ولن تتمكن يا صاحبي من إقناعها في الدنيا أن الغاية من ذلك منع الغلام الذي كان روحا شقية قبل طينة الأجسام من إرهاقها وزوجها طغيانا وكفرا، وأنه قرار اتخذته أنت ومجلس رجال الوقت والعالم الأعلى، وقلت “فأردنا”، وأن الله سيبدلهما بخير منه.
وستقول لك: تقطع يد غلام لأنه سيسرق بعد أعوام، أهذا حلال أم حرام، عدل أم ظلم؟
دعه حتى يطغى علينا ويرهقنا، وسنتحمل ذلك، ونصبر، فطغيانه وكفره أهون علي من أن أراه صريعا وهو غض طري.
وحين سيولد لي الغلام المبارك سأرى فيه وجه شقيقه الذي قتلته بقسوتك التي تفوق صلادة جلمود الصخر الجلَّوذ.
ولن تفهم وترتاح ويشفى جرح قلبها إلا حين تمضي عندكم روحا، ولعلها لن تشفى إلى بعد أن تشرب تلك الشربة الهنية من كف المحبوب بعد القيامة والحشر والحساب.
وكذا يا صاحبي لن أرتاح من وجع ما أكونه، وحشا قتل نفسه، زرعوه في سفلية أعادوها، لأكون البشري ذا الطبيعتين: علوية وحشية نورانية، وظلامية سفلية، في طينة بشرية قوية لم يمر عليها يوم دون وجع، وطفولة عذاب وسقم وتسلط، وشاب تيه وألم، وكهولة ثقل أمانة وعظم مسؤولية، وقدر غريب قادم، وأحوال كثيرة عجيبة.
ابتسم له المعلم وهو يرى طيف شقيقه في الرجل الذي اقترب من موعد اكتماله، وقال له مربتا على كتفه: سوف يعطيك ربك فترضى.
وفي ليلة من تلك الليالي، جمع الغريب شتات ذاته، وخرج لينظر إلى النجوم.
سطع نجم سطوعا كبيرا، ثم اقترب منه.
نظر إليه الغريب وابتسم، فتلك الأطباق الوضاءة والسفن الطيارة يعرفها ويعلم أنها تحيط به وتحميه من حيث يراها أو لا يراها.
لكن ذلك الضوء الساطع اقترب أكثر، وأكثر، وأكثر، حتى عم وهجه كل شيء يحيط به، ثم خفت رويدا رويدا، ووقفت تلك المركبة قريبا منه، وهي تطفو فوق الأرض، وفتحت بابها، ورأى ما فيها من نور أبيض، وناداه صوت في عمقه: لقد حان الوقت، اركب فيها وبسم الله مجراها ومرساها.
لقد كانت الساعة الموعودة التي طال انتظارها، وكانت سفن أخرى قد أحاطت بالمكان، ثم ظهر له فيلق من العلويين، وكان بيهاردن خلفه مباشرة، فتجلى لعينه الحسية، بعد أن رآه زمنا بعين بدنه وقلبه.
صعد غير وجلان، ولكن النفس التي كانت فيه كانت تضطرب، وكان الوحش يهتز كسجين طال سجنه واشتم عبق الحرية.
وهي تصعد به عاليا، بدت له قريته التي ولد فيها نقطة صغيرة، ثم المدينة والبلاد والكوكب الأزرق الصغير، ولاحت له الكواكب والشمس الوهاجة، ثم فتحت بوابة ودلفت السفينة فيها وخلفها وحولها فيالق من السفن والأطباق والعبارات الكبيرة والكائنات النورانية المجنحة وعدد من التنانين الملونة.
وخلف البوابة سطع نور أبيض، وكان الغريب قد بلغ الأفق السابع، بقفز بعدي سماوي، ووجد هنالك المحبوب في انتظاره، وكامل الملأ، ولكنه قبل أن يبلغ ذلك أخذوه إلى تلك المجرة، إلى يوتشي ويوتشيهان، وتم نزع النزاغة وتحرير الوحش قليلا، وتعديل تركيبته الطينية ليتحمل أنوار العوالم العليا.
هنالك أعلى وأعلى، حيث قتل الوحش نفسه، رجع الغريب، وقد دمج ذواتا ثلاثا من عوالم النور والطين والظلام، ليكون الكائن الجديد، الأقوى من كل ما سبقه، ولينزل بالأمر العاجل، في يوم مشهود، يوم لم تر العوالم له مثيلا، فذلك يوم الخروج، وذاك ميقات التحقق.
لقد تجلت جيوش السماء بكامل تشكيلاتها أمام أعين البشر المرتعبة المصدومة، وأحاطت بكل شبر من الأفق فوقهم، واحتلت البحر والجو.
وكان الغريب الذي جاوز الكهولة قد رجع شابا، ووقف هادئا مبتسما صارما في ذلك الركن، وهو يلبس عمامة زرقاء، تماما كما وصفه الذي رآه في الماء، قبل قرون، وهو يكتب كتاب “القرون”.
*الصورة للغريب كما رسمها الذكاء الاصطناعي.