4 دقائق للقراءة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل.
يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما تجرح الأصابع، وبنطلونا عليه آثار تراب، وما فوق ذلك مما يقيه البرد.
وكان نحيلا، بلون أبناء الأرياف القريبة من لون أكواخ الطين، شعره أسود يتكاثف سواده كليالي الشتاء الباردة المظلمة.
ينظر بهدوء، وفي عينيه حزن غامض، الى عدسة تلتقط له صورة لتلامذة الخامسة ب، وبجواره المعلم والمدير، وخلفه صديقه عماد الذي سيبقى صديقا له، وقد ضغط دون قصد على ملابسه…
يجهل هذا الطفل سر نبوغه، وقد شهد على ذلك معلموه، كما سيشهد اساتذته لاحقا.
كما يجهل سبب نزيف الأنف المتواصل، والحمى القوية أحيانا، والتي سترافقه بقية أعوامه وتعشق انصهارها معه.
لكنه ذكي ألمعي، كان قد ألقى قبل عام على مسامع معلمه سليمان قصيدتين، للمتنبي الخيل والليل وأرق على أرق، حفظهما من كتاب عمه زهير وكان حينها في الخامسة ثانوي، وقد سمع التصفيق لأول مرة، وأسعده ذلك.
وكان برغم كل شيء قويا، صلبا كالفولاذ، سريعا كرياح الحقول، وكانت أحلامه كأحلام البسطاء التي يتمسكون بها رغم استحالتها على ما فيها من بساطة، وكانت له أحلام أخرى أكثر غرابة واستحالة.
كان طفلا يحب فنون الدفاع، منبهرا ببروسلي الذي شاهد فيلما له مع أعمامه وأبناء عمومته في تلفاز يبث صورا بالأبيض والأسود، جلبه ابن عم والده محمد الملقب بالبلجيكي، وكان فيلم قبضة الغضب، وقد عرف الطفل حينها أنه يريد أن يكون مثل بطل الفلم صاحب القوة الخارقة والذي صدر عنه صوت يشبه أصوات القطط، لكن الطفل كان مغرما بالنمر في كل شيء.
وكان طفلا يحب المعرفة والمطالعة، وقد قرأ حينها وبعدها بعام كتبا جلبها والده من العراق، فيها لابن قتيبة والجاحظ وابن المقفع، مما جعله مواضيع الإنشاء التي يكتبها مواضيع عجيبة يتناقلها المعلمون، وقد أذهلهم في امتحان السيزيام بأن جعل ضمن ما كتبه أبياتا حفظها تقول:
وَكُنتُ إِذا ما زُرتُ سُعدى بِأَرضِها
أَرى الأَرضَ تُطوى لي وَيَدنو بَعيدُها
مِنَ الخَفراتِ البيضِ وَدَّ جَليسُها
إِذا ما اِنقَضَت أُحدوثَةٌ لَو تُعيدُها
وهي من قصيدة لكثير عزة مطلعها:
لَقَد هَجَرَت سُعدى وَطالَ صُدودُها
وَعاوَدَ عَيني دَمعُها وَسُهودُها
وقد عجب المعلمون مما كتبه، ورآه والده وقد اجتمعوا يتناقشون وحدثوه فأفرحه ذلك وما يزال يذكره.
وكان طفلا يعشق الشعر الشعبي، وقد حفظ بعد وقت قريب لاحمد ملاك والعربي النجار واحمد بن موسى واحمد البرغوثي ومحمد الصغير الساسي، مع قصائد الهلاليين، وقرأ كل ذلك على جده الذي سيرافق مسيرته في الشعر الشعبي التي تبدأ بعد سنوات قليلة.
كان طفلا مميزا في عين كل من رآه وعرفه، وكان يرى أن له قدَرا عظيما، لكنه لم يكن يستطيع تخيل المسيرة بآلامها وأسقامها وصعوباتها. سيقرأ الكثير من الكتب، في المعهد ثم في الجامعة، وسيكتب الكثير من القصائد الفصيحة التي بدأها ببيتين ارتجلهما في موضوع إنشاء في السنة السادسة ابتدائي خاتما بهما موضوع إنشاء:
وتبقى الأسئلة تجوب
تطرق بابا بعد باب
تدخل طيات القلوب
تائهة تريد جواب
لتكون بعد ذلك ملحمة القصائد وما خلفها من قصص وغصص، وليكون شاعرا من الكبار.
سيتدرب كثيرا لآلاف الساعات، ويتحمل ألم الجسم، ومشقة التدريب، وقسوة الظروف، ووجع الايام الطويلة، حتى يستويا مقاتلا بارعا ومعلما مذهلا، ويؤسس فنا قتاليا خاصا.
سوف يعيش قصصا تؤلمه، وأخرى تفرحه، وسيلقى حنان الأحبة، وقسوتهم، وخناجر الأعداء وطعنات الحاسدين وسخرية الحمقى. وسيمكث ردحا من الزمن يعالج قمة عصية تلزمه الروح بصعودها، ويأبى عليه القلب إلا أن يفعل، فيدفع من أيامه زمنا ومن آلامه ثمنا، حتى يرقى فوقها، ليرى أنها سفح جبل آخر أكثر ارتفاعا ومشقة.
وسيأتي الوقت الذي يسافر فيه في البلدان، ليرى أمكنة لم يتصورها، ويلتقي الكثيرين، ناشرا للعلم، ومحاضرا، ومؤثرا، لينحت اسمه مع الخالدين، ويفتك مكانه مع العمالقة.
وسيعق الطفل الصالحين، الذين يعرفونه قبل أن يعرفهم، وتكون بينه وبينهم أحوال منذ الطفولة البكر، يكتمها في طي صدره. وسيزورهم حين يبلغ أشده ويدافع عنهم بالعلم والحجة وينشد عنهم الأشعار ويؤلف في حقهم الكتب…
سيأتي مدير المدرسة ويكلم المعلم، وسيخرجهم المعلم إلى الساحة، وسينظر الطفل الى تلك العدسة، وستمكث الصورة قرابة الأربعين عام، حتى يراها الكهل الذي بدأ يقترب من الخمسين، وقد حقق ما لم يكن يظن الطفل ولا من كانوا معه حينها، يراها بعين تشتاق ذلك الطفل، ويراها بعين تبحث عن ذلك الطفل في ملامح الكهل، وفي ملامح ابنه الذي لا يمكنه أن يتصور كيف كانت طفولة والده.
ينظر إليها، ويطلب من شقيقه الأصغر حسام أن يصورها، ويشعر بألم شديد في قلبه، ويود الرجل لو يسافر في الزمن ليضم الطفل الذي كانه، ويحضنه بحب كبير ورأفة شديدة، ويمسح على شعره الأسود الغزير ويقول له: “تحمل يا صديقي، سيكون الامر أوجع مما تتصور، وأعظم مما تظن”.
هذه صورتي سنة 1988 في المدرسة الابتدائية بالرواضي، وفيها تلامذة السنة الخامسة ب والمدير سي الحرباوي المرابط.
إنها تحكي الكثير، وتوجعني بشدة لا يمكن تصورها.
لكني واثق ان ذلك الطفل لو سافر بدوره في الزمن لعانقني بحب وقال لي باعتزاز: “أنا أفتخر بك”.
فلنستمر إذا يا طفلي الذي لن ألتقيه أبدا لأنه تلاشى كي أكون، لكنه سيسكنني للأبد.
لو التقيت بالطفل الذي كنته ماذا ستقول له؟
سوسة 13/08/2024 01:16 م