لطائف العروج في سورة البروج

8 دقائق للقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على الهادي الأمين، وآله الطاهرين.
وبعد، فهذه لطائف عروج في عظيم معاني سورة البروج، والرسائل المخفية فيها، والإشارات التي يحققها الواقع عبر الأزمنة وصولا لما نحن فيه اليوم..
وسيكون العروج في القرآن بالقرآن، لأنه يفسر بعضه.
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ (1)
يقسم ربنا سبحانه وتعالى بالسماء، وعظيم بنيانها، وما فيها من الأجرام والمجرات والعوالم، فلعل البروج عناقيد المجرات، ولعلها السدم العظيمة، وفيها معنى المنازل التي للكواكب، ومداراتها، وهي أقرب إلى معنى المجرات والسدم والثقوب السوداء الكبيرة التي تسع مجرات بأكملها.
والقسم بالسماء هنا للدلالة على عظمة الخلق، وفي ذلك دلالة على عظمة الخالق، وعلى مزيد ضعف المخلوق المخاطب هنا، وهو الإنسان أساسا.
وفي ذلك قوله سبحانه: (ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ بَنَىٰهَا ۝٢٧ رَفَعَ سَمۡكَهَا فَسَوَّىٰهَا ۝٢٨﴾ النازعات.

*وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ (2) .
هو اليوم الذي لا ريب فيه، وهو على يومين: يوم الوعد، ويوم الوعيد.
فأما يوم الوعد فقد وعد الله نبيه أمرا وهو متمه، وباقي السورة تفصيل إشاري لذلك.
وقد انقسم ذلك الوعد إلى قسمين أيضا، فنافذ، وقادم.
فما تم هو وعد أولاهما، وما سيأتي هو وعد الآخرة، أو الدينونة والمحكمة الأولى، والقيامة الصغرى، والحاقة التي تحق وتحيق بالظالمين بعد العلو الثاني، ومداره بنو إسرائيل، وأكثر من ذكروا في القرآن هم، والأنبياء الذين كانوا منهم أو آباء لهم، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف، وموسى خاصة، ثم داوود وسليمان وعيسى.
ومتن الوعد في الإسراء: ﴿وَقَضَیۡنَاۤ إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَیۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوࣰّا كَبِیرࣰا ۝٤ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادࣰا لَّنَاۤ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ فَجَاسُوا۟ خِلَـٰلَ ٱلدِّیَارِۚ وَكَانَ وَعۡدࣰا مَّفۡعُولࣰا ۝٥﴾ [الإسراء ٤-٥]
فهذا أتمه الله ببختنصر البابلي، فجاس بجيشه خلال الديار، وأسر منهم سبعين ألفا.
والثاني يتمه بمن ارتضاهم لذلك في معجزة تذهب بالألباب:﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا﴾ [الإسراء ٧]
وهذا الوعد تحديدا كان مدار سؤال بني إسرائيل عنه تحديا حينا وتخوفا أحيانا، وقد تكرر ذكر ذلك في كتاب الله ست مرات بهذه الصيغة: ﴿وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ [يونس ٤٨] [الأنبياء ٣٨] [النمل ٧١] [سبأ ٢٩] [يس ٤٨] [الملك ٢٥].
وأما الوعيد فله يوم هو القيامة الكبرى.
﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمُ ٱلۡوَعِیدِ﴾ [ق ٢٠]
ولئن كان الوعد أيضا يحمل معنى القيامة الكبرى، وهو الوعد الحق، ثالث الوعود، اي وعد أولاهما ووعد الآخرة: ﴿وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ فَإِذَا هِیَ شَـٰخِصَةٌ أَبۡصَـٰرُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَـٰوَیۡلَنَا قَدۡ كُنَّا فِی غَفۡلَةࣲ مِّنۡ هَـٰذَا بَلۡ كُنَّا ظَـٰلِمِینَ﴾ [الأنبياء ٩٧]

*وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ (3)
أما الشاهد فأوله رب العزة ثم ملائكته: ﴿وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ﴾ [يونس ٦١]
ومثنى ذلك النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، والنبيون من قبله: ﴿فَكَیۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِیدࣲ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شَهِیدࣰا﴾ [النساء ٤١]
ولمقام الشهادة هنا تنزلات شتى، كمن عنده علم الكتاب، وكذلك الأشهاد من أهل الله وخاصته، والشهداء بشتى معاني ذلك.
﴿وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَسۡتَ مُرۡسَلࣰاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ [الرعد ٤٣]
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَیَقُولُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [هود ١٨]
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ﴾ [غافر ٥١].

وأما المشهود فعمومه كل ما خلق الله فهو مشهود لديه لا يغيب ولا يعزب عنه منه شيء: ﴿وَمَا تَكُونُ فِی شَأۡنࣲ وَمَا تَتۡلُوا۟ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانࣲ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَیۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِیضُونَ فِیهِۚ وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینٍ﴾ [يونس ٦١]

﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتَأۡتِیَنَّكُمۡ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِۖ لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَاۤ أَصۡغَرُ مِن ذَ ٰ⁠لِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرُ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ﴾ [سبأ ٣]
وله خواص كالنبي صلى الله عليه وعلى آله، كقوله سبحانه له: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة ١٤٤].
وله خصوصية في السورة عن أصحاب الأخدود، فالله الشاهد وهم المشهود.

*قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ (4)
هؤلاء قوم مؤمنون ابتلاهم الله، فكان مصيرهم الشهادة والقتل في سبيل الله، مصداقا لقوله تعالى: ﴿۞ فَلۡیُقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یَشۡرُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا بِٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَمَن یُقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَیُقۡتَلۡ أَوۡ یَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ [النساء ٧٤]
والقتل لهؤلاء الخلص شهادة وحياة: ﴿وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن یُقۡتَلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰ⁠تُۢۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءࣱ وَلَـٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة ١٥٤]
﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰ⁠تَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ﴾ [آل عمران ١٦٩]

ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ (5) إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ (6)
وهذا من عظيم البلاء، إذ حفر الظالمون لهم أخدودا في الأرض ثم أضرموا فيه النار ليثنوهم عن إيمانهم، فلم يرهبوا، فألقوهم وأحرقوهم أحياء، وقد ارتضى أولئك الخلص من المؤمنين بذلك حبا لله وإيمانا به واحتسابا.
والله سبحانه يبتلي ويمتحن عباده كما يحب وكما يرضى ويريد ويشاء، وهو الحكيم الخبير.
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُوا۟ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ [البقرة ٢١٤]
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [آل عمران ١٤٢]
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُوا۟ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَلَمۡ یَتَّخِذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَلِیجَةࣰۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [التوبة ١٦]
والبلاء حكمة مرة لا يكاد يحيط بها المخلوق المبتلى، وامتحان في دار الامتحان: ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة ١٥٥]
﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَـٰهِدِینَ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰبِرِینَ وَنَبۡلُوَا۟ أَخۡبَارَكُمۡ﴾ [محمد ٣١]
ومن ذلك ما ابتلي به بنو إسرائيل حين سلط الله عليهم فرعون وآله: ﴿وَإِذۡ نَجَّیۡنَـٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ وَفِی ذَ ٰ⁠لِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة ٤٩].
والناظر لهذا الحال، مما فعل فرعون وما فعل المجرمون في عالم الفناء، وما كان من فعل قتلة أصحاب الأخدود، وما يكون عليه المبتلون، وما يجترحه ويقترفه الظالمون، لن يفهم ما لم يدرك أن الأمر لله كله، وأنها فتنته يصيب بها من يشاء، ويضل بها من يشاء، ويهدي بها من يشاء.
كما قال نبي الله موسى عليه السلام بعد الرجفة وتجلي الله على الجبل:
﴿وَٱخۡتَارَ مُوسَىٰ قَوۡمَهُۥ سَبۡعِینَ رَجُلࣰا لِّمِیقَـٰتِنَاۖ فَلَمَّاۤ أَخَذَتۡهُمُ ٱلرَّجۡفَةُ قَالَ رَبِّ لَوۡ شِئۡتَ أَهۡلَكۡتَهُم مِّن قَبۡلُ وَإِیَّـٰیَۖ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَّاۤۖ إِنۡ هِیَ إِلَّا فِتۡنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاۤءُ وَتَهۡدِی مَن تَشَاۤءُۖ أَنتَ وَلِیُّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۖ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡغَـٰفِرِینَ﴾ [الأعراف ١٥٥]
بل كل من نظر إلى البلاء بعين الدنيا يكاد يزلزل إيمانه، ويقول كيف يرضى الله بهذا لعباده، وكيف يسمح بهذا للظالمين.
ولكن الله له الحكمة العظمى، لأن الدنيا ليست سوى دار محنة وامتحان، والآخرة هي الحيوان.
﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [آل عمران ١٨٥]
﴿وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [الأنعام ٣٢]
﴿وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ﴾ [العنكبوت ٦٤]
﴿ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱۚ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [الحديد ٢٠]
لذلك لم يتزعزع إيمان المخلصين أبدا مهما امتحنهم الله وابتلاهم، كأصحاب الأخدود، وكغيرهم من اهل اليقين، وكسحرة فرعون بعد إيمانهم.
فإنهم بعد أن أيقنوا بالمعجزة خروا سجدا، فتوعدهم فرعون بالصلب والتقتيل: ﴿فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدࣰا قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ ۝٧٠ قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِیرُكُمُ ٱلَّذِی عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِی جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَیُّنَاۤ أَشَدُّ عَذَابࣰا وَأَبۡقَىٰ ۝٧١﴾ [طه ٧٠-٧١]
لكنهم ثبتوا ولم يهنوا بل رسخ إيمانهم وثبت يقينهم بنعمة الله عليهم وربطه على قلوبهم.
﴿قَالُوا۟ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلَّذِی فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ ۝٧٢ إِنَّاۤ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِیَغۡفِرَ لَنَا خَطَـٰیَـٰنَا وَمَاۤ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَیۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤ ۝٧٣﴾ [طه ٧٢-٧٣]

ويكرر الله سبحانه ذكر هذا المشهد لعظيم العبرة التي فيه. ويورد كلمة عظيمة قالها أولئك المؤمنون أمام وعيد البلاء، إذ قالوا “لا ضير”، وهذا من عظيم الإيمان والرسوخ واليقين، والثبات على الحق.
﴿فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ ۝٤٥ فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ ۝٤٦ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ۝٤٧ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ۝٤٨ قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِیرُكُمُ ٱلَّذِی عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ ۝٤٩ قَالُوا۟ لَا ضَیۡرَۖ إِنَّاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ۝٥٠﴾ [الشعراء ٤٥-٥٠]
وما هذا القصص بسرد مجرد، بل لله من ورائه حكم، وفي قصص الاولين عبرة، ورسائل عن سنن ستتكرر حتما، حتى يأتي الله بأمره الذي لا ريب فيه.
﴿لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ﴾ [يوسف ١١١].

*وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ (7)
الفاعلون شاهدون على ما فعلوا وسيحاسبون عليه. والملائكة شهود بأمر ربهم، لا يتدخلون إلا بإذنه ومن بعد أمره، فلو شاء الله لمنع القاتل من فعل ما فعل، ولحفظ عباده من القتل: ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوࣰّا شَیَـٰطِینَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ یُوحِی بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضࣲ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورࣰاۚ وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا یَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام ١١٢]
ومن ذلك وأد البنات وهو أمر تشعر له الأبدان، والشهود شاهدون، ولو شاء الله ما فعلوه أيضا.
﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ زَیَّنَ لِكَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ قَتۡلَ أَوۡلَـٰدِهِمۡ شُرَكَاۤؤُهُمۡ لِیُرۡدُوهُمۡ وَلِیَلۡبِسُوا۟ عَلَیۡهِمۡ دِینَهُمۡۖ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا یَفۡتَرُونَ﴾ [الأنعام ١٣٧]
فيا لها من حكمة مرة، ويا له من أمر عجيب، والملائكة شهود ينظرون، لو حرك أحدهم إصبعه لفجر الكواكب والنجوم، لكنهم واقفون حيث يأمرهم مولاهم وربهم، الذي لا يغفل ولا ينسى.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَیۡنَ أَیۡدِینَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِیࣰّا﴾ [مريم ٦٤]
ففرعون كان تحت القهر الإلهي لو شاء الله لجعله هباء بكن، ولو شاء لسلط عليه الثعبان الذي صدر عن العصا، أو أيا من جنده حتى الذي لا تراه العين، فيريده به، لكن الله جعل لكل أمر أجلا، ولكل أمة أجلا.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلࣱۖ فَإِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ لَا یَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [الأعراف ٣٤]
﴿قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی ضَرࣰّا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [يونس ٤٩]
﴿مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ﴾ [الحجر ٥] [المؤمنون ٤٣].
وأجل الظالمين قريب، مهما طال بهم العهد وتطاولت بهم الأعوام، وهم مقدور عليهم مهما بلغوا من القوة والعتو.
كشأن عاد، وما رجع من شأنها وعاد.
﴿فَأَمَّا عَادࣱ فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُوا۟ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ﴾ [فصلت ١٥]
يتبع…

منشورات ذات صلة

لطائف العروج في سورة البروج ٢
لطائف العروج في سورة البروج ٢ *وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ (8) القضية الإيمانية هي أم القضايا الدنيوية، وهي صراط...
5 دقائق للقراءة