3 دقائق للقراءة
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.
حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.
أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة الكلام، ومما لا يمكن أن يترجم أبدا، فينقله إلى القلب فيما يبدو توجسا، أو ما يتراءى مشاهد غير مكتملة.
أما الروح فهي الحكيم الصامت، الذي يعلم كل شيء، ويرى كل شيء، لكنه لا يتكلم إلا نادرا.
ومن بين تزاحم الأفكار والمشاعر، هنالك أمر جلي لا ريب فيه، أن الإنسانية مهددة في وجودها المعنوي والبنيوي.
فأما المعنى فيشوهه شياطين إنس، تؤزهم أبالستهم، حتى يكاد المعنى يضمحل، ثقافة وفنا، وعاطفة، ومعتقدا.
وأما المبنى، فليس القصف الذي تشهده غزة والضاحية سوى وجه من وجوه الخراب، ألم يكن في الشام ما كان، ومضى تكفيره وتفجيره إلى العراق، وعاث ما عاث في اليمن، وقتل إرهابه من قتل في سيناء وليبيا وتونس، وكانت له قبل ذلك عشرية سوداء من الدم والتدمير في الجزائر، وله ألف يد تختفي في أرجاء العالم كله، تشويها لدين السلام، كما فعل المجرمون من الطف إلى الحرة إلى فخ إلى ما بعدها.
وليست الحرب العالمية الثانية عنا ببعيد، ولا انفجار القنبلة التي أفنت مئات الآلاف من البشر، معلنة عصر الحروب النووية، ولا معارك الخنادق الدامية في الحرب العالمية الأولى، ولا الحروب الصليبية قبلها وجرائمها التي يشيب لها الولدان.
وكم اقترف الاستعمار من المجازر في إفريقيا والعالم العربي، وكم من سكان أمريكا الأصليين تم قتله، ومن الافارقة الذين حملوا عبيدا، فمات من أولئك عشرة ملايين، ومات من هؤلاء مثلهم.
الصورة القاتمة تحمل ملامح الدنيا في عمق وعقم معناها: يمكنك أن تتصور ما فعل فرعون من قتل وجرائم، وترى الرضع الذين ذبحهم جنوده وعويل امهاتهم وآبائهم، ويمكنك أن ترى بوضوح ما فعل قوم عاد الذين قالوا من أشد منا قوة، وقوم ثمود الذين استحبوا العمى على الهدى، وقوم شعيب الذين كانوا إذا بطشوا يبطشون جبارين، وما كان قبلهم وبعدهم وبينهم.
بل إن قوم نوح كان أشد قوة وأكثر إجراما، وأطول أمدا.
فلو جمعنا كل ذلك الدم النازف لملأ البحار، ولو نظرنا إلى أصحاب الأخدود يلقون في النار ذات الوقود، لرأينا معهم أضعافهم على مر الزمان، من النشأة الآدمية، أو مما كان قبلها من الأقوام والحضارات الذين أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء حتى اعترضت الملائكة على استخلاف من يحمل بذرة شرهم ولوح أقدارهم.
ولذلك فليس مما يجري شيء غريب على طينة العالم الفاني، ولن يكون غريبا أن ينال الظالمون اليوم ما نال الظالمون من قبل، حين أفناهم الله بقوته، وأبادهم بقدرته، ودمدم عليهم بذنبهم فسواها، وما يخاف عقباها.
إنما طال العهد كما كان من شأن الأمم السابقة، حتى يئس من ينتظر إلا قليلا، وحتى طغى من ظلم وحسب أن لن يصيبه وقومه البوار ولو بعد حين.
إن للروح أن تشهد، وللقلب أن يحزن، وللعقل أن يحتار ويتفكر، وللقلم أن يكتب أو أن يتلزم الصمت إن لم يجد للكلام جدوى.
وفي كل الأحول، إن ما يجري من حولنا تتجاوز خطورته الأحداث في ذاتها، على قسوتها، إلى ما هو أشد وأخطر.
وهو امتحان بني الدنيا في دنياهم، التي تقنع الغافلين منهم أنها لا تزول، ولا يرى أصحاب اليقين فيها إلا دار عبور إلى دار مستقر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وإن ما بعده لعظيم، يتم بأمر العظيم، فلا يكون فيه إلا ما هو محسوم سلفا، ومكتوب من قبل، وعليه الأختام، مؤجلة بآجالها، لا تجاوزها ولا تسبقها أبدا.
ولقد عرف العارفون وشهد الشاهدون، ما كان من شأن القرون الأولى، والمؤتفكات ومن غوى من قبلهم، فأتى الله بنيانهم من القواعد، وقطع دابرهم، ولم يذر لهم من باقية.
وأكاد أرى من خلف السجف ملامح ما يكون، فيا ليت قومي يعلمون.
سوسة 12/11/2024