الإلحاد: بين الحقيقة والوهم (2) (الجذور والتاريخ: بين الأنتروبولجيا والفلسفة)

6 دقائق للقراءة

تشير كتابات كثيرة للملاحدة أنهم أصل ضارب بجذوره في العمق التاريخي الإنساني، ويقول بعض منظّري الإلحاد أن الإنسانية ملحدة في الأصل، كما ورد عن فولتير في كلامه عن أن البشرية “عاشت قرونا في المادية قبل أن يخترع الدهاة الماكرون ديانات”، أو ما يشيرون إليه فيما أسموه “نظرية نشأة الأديان”، من أن الإنسان كان يخاف الطبيعة وقواها الغامضة فابتكر آلهة كثيرة، ثم لما بلغ مستوى من المعرفة والقوة اختزلهم في ثلاثة آلهة (التثليث المسيحي)، ثم في إلهين (المعتقد المجوسي وإلهَيْ الخير والشر المتصارعان)، ثم في إله واحد (الإسلام).
وكل هذا زعم تنفيه جميع البحوث الفسلفية والانتربولجية والتاريخية، فلم توجد أمة في التاريخ ولا شعب ولا مدينة ليس لها معتقد في وجود خالق (فرد، أو مجموعة آلهة يحكمهم إله واحد)، وهنالك فرق واسع بين الشرك والإلحاد. وفي هذا المعنى يقول المؤرخ وكاتب السير والناقد اليوناني الكبير بلوتارك الخيروني (46 – 120 ميلادي) الذي كان له أثر في كثير من الفلاسفة والأدباء من بينهم شكسبير : ” لقد وُجِدت في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد”.
ويقر بذلك أيضا الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجسون (18 -01- 1859 / 4-01- 1941)، والحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة1927 في كتابه –” أصلاَ الأخلاق والدين”: “لقد وُجدت وتوجد جماعاتٌ إنسانية بدون علومٍ، وفنونٍ، وفلسفاتٍ، ولكنَّه لم توجد قطّ جماعةٌ بغير ديانة”.
وهو أمر له براهين انتروبولجية دامغة، فحتى القبائل البدائية لها معتقدات وله إيمان بوجود خالق رغم كل ما يشوب ذلك التصور من انحرافات وخرافات أو أساطير (الطوطم، الآلهة..). ولكنه يثبت أن الإيمان بوجود خالق أمر فطري في الكائن البشري سواء اهتدى للموِجد الواحد أو لم يبلغ علمه ذلك وتلاعبت به يد الظن والجهل بمختلف محركاتها وأسبابها.
بل إن الإيمان بوجود خالق مسألة تمس المعنى الوجودي الذي هو قوام الحياة البشرية، ونجد شاهدا على هذا في موسوعة لاروس الفرنسية :” إنَّ الغريزة الدينية مشتركةٌ بين كلّ الأجناس البشرية، حتى أشدِّها همجيةً، وأقربها إلى الحياة الحيوانية .. وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النَّزعات العالَمية الخالدة، وهذه الغريزة الدينية لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبُل إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً من الأفراد”.
وبالنظر والتقصي الدقيق في التاريخ البشري عموما، وتاريخ الديانات والفلسفة، فإن الإلحاد كمذهب مستقل لم يكن له وجود.
حين نعود إلى بواكير الفلسفة وفجرها المُدوّن (لاعتقادي أن الفلسفة بوصفها حبّا للحكمة ورؤية تفكريّة في العالم مبنى ومعنى مرتبطة بالوجود الإنساني منذ بدايته)، فإننا نجدها قد ركزت على المبحث الإلهي والميتافيزيقي، (واستمرت الفلسفة في ذلك لاحقا)، واهتمت بمسألتين أساسيتين:
*المسألة الأولى: أصل العالم والوجود: وهذا كان المبحث الرئيسي والأساسي إن لم يكن الوحيد للمدرسة الملطية أو الإيونية التي تكونت من فلاسفة وعلماء رياضيات كبار أثروا في الفكر الإغريقي والإنساني عامة بنظرياتهم وقوانينهم وقواعهدهم الرياضية والفلسفية وهم طاليس وأنكسيمندرس وإنكسيمانس وهرقليطس وإمباذوقليس وإنكساغوراس وأركليوس وهيبو وديوجانس الأبولوني.
استقر رأي طاليس الملطي (نحو 624 – نحو 546 ق.م) رائد المدرسة الفلسفية الإيونية المادية، وأحد حكماء اليونان السبعة، على أن أصل العالم إلى الماء.
في حين أقر تلميذه أناكسيماندرس (610 – 546 ق م) بأن اللانهائي هو أصل كل الأشياء.
أما إنكسيمانس (نحو 588 – 525 ق. م) تلميذ أناكسيماندرس، فقد قال أن أصل العالم هو الهواء، في حين اعتبر هرقليطس النار العنصر الأعظم.
وكل هذه الأفكار لا تعني إنكار وجود خالق ولكنها بحث في أصل الوجود، في حين وجّه منظرو الإلحاد الأمر إلى إنكار الخالق ونشوء العالم من مادة أصلية بشكل تراكمي أو مصادفة أو من اللاشيء، أو بفعل قانون الجاذبية الذي مكّن الكون من إيجاد نفسه بنفسه عبر عدد كبير جدا من الأكوان الموازية كما أراد ستيفن هوكينج عبثا أن يثبت مع فريق بحث من الفيزيائيين في جامعة كامبردج، ولكن نظرياته كلها تسحقها الحقائق العلمية والقوانين الحتمية التي يسير بها العالم والكون وكل كائناته وتكويناته الذرية والزمنية والرياضية والكيميائية والتركيبية وغيرها، ذات الأمر لنظرية التطور لدى دارون، ولي رجوع لنظرياتهما.
بل إن الكلام عن أصل العالم والخلق والكون والكائنات تم ذكره في الكتب السماوية وخاصة القرآن، وذُكر الماء تحديدا كعنصر أساسي لكل شيء حي، وأن السماء كانت دخانا وأنّ بعض الكائنات كانت من التراب (الطين) وأخرى من النار.
*المسألة الثانية: البحث في كيفيات معرفة الخالق وإثبات وجوده: عكس ما يصوّر المنظّرون للإلحاد، لم تكن الفلسفة تشكيكا في وجود الخالق والموجد للعالم، بل انصب تركيز الفلاسفة على البحث في سبل الوصول إلى معرفة الله، وطرق اليقين من وجوده، باستثناء التيار الإلحادي الذي ظهر مع الثورة على الكنيسة وفلاسفة التنوير ونظرية دارون، أو ما سمي بالتطورية الإلحادية ، ثم مع تيار الإلحاد الجديد في الفترة المعاصرة، وما تخلل ذلك كانت حركات فردية لا تمثل تيّارا أو مذهبا في الفكر.
من سقراط (469 – 399 ق.م) وتلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م) الذين قالا بالدليل الغائي (لكل شيء في الطبيعة غرضا، لا يمكن تفسيره إلا بافتراض وجود موجود غير مادي، يتجاوز الطبيعة وينظم كل الظواهر على نحو منسجم وهو الله).
إلى دليل الحركة (وجود محرّك لكل متحرك، وهو غير متحرك)، ودليل العلية أو الدليل الكوني (الله هو العلة الأولى لكل الأشياء والظواهر) وقال بهما أرسطو ( 384 – 322 ق.م ) تلميذ أفلاطون.
إلى البرهان الأنطلوجي الذي وضعه القديس أنسلم الكنتوربري
( 1033 – 1109 ) وقد نال شهرة واسعة لدى الفلاسفة فأخذوا به وأضافوا إليه، ومختزله عن الوجود الأكمل الذي لا يمكن تصور ما هو أكمل منه، والذي يوجد في الذهن وخارجه، مع اشتراطه الإيمان قبل الفكر.
ثم الدليل الأنطلوجي (الوجودي) الديكارتي، أو البرهان السببي (إذا وجد أي شيء فلابد من وجود شيء آخر هو سببه بصورة مباشرة أو غير مباشرة)، وفيه إعادة إخراج لبرهان أنسلم، حيث يرى ديكارت أن وجود الكائن الكامل المتناهي حتمي، وعلى عكس أنسلم لا ينطلق من الإيمان بل من الشك، ولكنه الشك المفضي حتميا إلى الإيمان، ولي عودة إلى الكوجيطو الديكارتي وفكر ديكارت وبراهينه عن وجود الله.
ولديكارت دليل آخر أسماه الدليل الهندسي، رابطا بين حتمية وجود الله وحتمية مساواة الزوايا الداخلية للمثلث لقائمتين.
وصولا للدليل الأخلاقي الذي قال به كانط الذي يرى أن البرهنة على الله لا تكون إلا أخلاقية ومن المحال أن تكون نظرية، ويرى حتمية وجود يوم يثاب فيه المحسن ويعاقب المسيء، وذلك يستلزم وجود إله ذلك اليوم يحقق العدالة التي هي شعور فطري في الإنسان. إلى رؤى سبينوزا (أن الرب يكشف عن وجوده لأنه الكائن من تلقاء ذاته) ومالبرانش وباسكال ولايبنتز وكرستيان فولف، وغيرهم كثير، فإن النظريات الفلسفية كانت تسعى إلى إيجاد مقاربات وبراهين على وجود الله، وتناقش مسائل العلاقة بين النفس والعقل، والعقل والإيمان، أو اللاهوت والفلسفة، ولكن خارج دائرة الإلحاد، دون نسيان الفلسفة الإسلامية وفلسفات الشرق بما فيها من روحانية ومثل وأخلاق وإيمان.
خلاصة القول من جانب التاريخ والأنتروبولوجيا، ومن جانب الفلسفة (أحد الأعمدة التي يرتكز عليها منظرو الإلحاد مع البيولوجيا وفق النظرية التطورية لدارون، ثم الفيزياء الكونية مؤخرا مع هوكينغ)، فإن تاريخ الفلسفة شاهد على أن الإلحاد لم يكن مذهبا خاصا أو تيارا له أنصاره ومؤيدوه والفلاسفة المنظرون له إلا مع التيار المادي التطوري الذي كان لظهوره أسباب نفصلها فيما سيأتي.
ولكن ظهور ذلك التيار واستمراره لليوم لا يعني عدم وجود فلاسفة وعلماء يثبتون من وجهة نظر فلسفية وعلمية محضة بطلان ما يقدمه الملاحدة من تصورات ونظريات، بل ظهرت تيارات فلسفية حديثا بعد المادية اللادينية واللاأخلاقية وكوارثها على الإنسان والمجتمعات وتغييبها للمعنى الوجودي، وهذه التيارات نهضت على أنقاض انهيار النظرية التطورية وأنساق الفلسفة التي انبنت عليها.
إن الإلحاد لم يكن في التاريخ سوى حركات فردية، والبحث الأنتروبولوجي يثبت أن كل شعوب الأرض كان لديها معتقدات (وثنية أو طوطمية بدائية أو في آلهة كثيرة أو إله واحد) وكل ذلك يثبت أن الإنسان بطبعه وفطرته يعتقد في وجود خالق له وللعالم من حوله وفي وجود قوة مسيطرة مهمينة وفي وجود حياة بعد الحياة كما تثبت البرديات والمخطوطات القديمة في الهند والصين وبابل ومصر والمايا وكذلك طقوس التحنيط والدفن والقصائد التي تتكلم عن رحلة ما بعد الموت، والملاحم والأساطير، وما تم اكتشافه من آثار…
صحيح هنالك من ألحدوا، وهنالك من نسبوا الألوهية لأنفسهم، دون أن يمثّلوا تيّارا أو مذهبا في الفكر، ولم يظهر تيار الإلحاد بشكل ممنهج إلا في الفترة التي ثار فيها الفلاسفة على الكنيسة بعد عصور الظلام في اوروبا، ولم يظهر كتيار ممنهج بدعم غير مسبوق في الفترة الحالية إلا لوجود من يريد جعل الإلحاد يطغى على العالم كله، تاركا البشر عراة من كل قيمة ومعنى وغاية وجود، ساعيا إلى هدم القيم والأخلاق والمعتقدات، وطبيعي هنالك من يهمه هذا الأمر ويمثل سلاحا فتاكا في يديه، نفس اليد تمسك سلاح التطرف باسم الدين لقتل الناس وتفجيرهم بعد تكفيرهم، وخيوط الشذوذ الذي يهدد مسقبل الجنس البشري، وخيوطا أخرى قوامها التطرف والتطرف المضاد، وهذا ما سأبرهن عليه في الصفحات القادمة.
فإلى أنواع الإلحاد ودحض كل نوع منها، لتنجلي ملامح المتلاعبين بوجدان وضمائر وعقول البشر، والمنتجين الحقيقيين لكل أشكال الانهيار القيمي والدمار والخراب والتناحر.

مقالات ذات صلة

هل حقا صعدوا إلى القمر
نشرع بداية من اليوم في إثبات ما ذكرته من أمور وأحداث في برنامج “الحكاية وما فيها” على قناة تلفزة تي في، الذي نسبني بعض...
2 دقائق للقراءة
حرب القيامة
الريح العاصفة، والحرائق الغامضة، والأعاصير العاتية، والزلازل المدمرة، وموجات البرد القارس والحر الشديد، في غير مواسمه ومواضعه.كل ذلك سلاح في أيدي الشياطين.لطالما حذرت من...
2 دقائق للقراءة
وجهة نظر: الذكاء الاصطناعي
أعكف هذه الأيام على دراسة الذكاء الاصطناعي، وأجري حوارات ممتعة وماكرة مع بعض المواقع التي صار لها صيت كبير، مثل CHATGPT/ POE/NEEVA.سألت عن مواضيع...
2 دقائق للقراءة
المدرسة البرهانية
ونحن في ذكرى يوم عظيم من أيام الله.ليس لشيء سبق، ولا لشيء لحق، بل لأمر عظيم كان فيه.أمر ارتجت له السماء، واهتز له العرش،...
3 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
ليبياوتونس تاريخ ومآلات
بقلم الدكتور مازن الشريف، المفكر الاستراتيجي.رئيس المنظمة الدولية للأمن الشامل، والمركز العالمي للاستشراف والمستقبليات.نائب الامين العام للاتحاد الدولي للمؤرخين بدأ اهتمامي العلمي بملف التكفير...
6 دقائق للقراءة
دعاء الكلمة
اللهم يا من إذا قضى أمرا قال له كن فيكون.يا صاحب الكلمة وسرها.يا من خلقه كلمة، وعطاؤه كلمة.ونعيمه كلمة، وعذابه كلمة.ورضوانه كلمة، وغضبه كلمة،...
< 1 دقيقة للقراءة
الشيخ بوعمامة وأبطال الطريقة الشيخية (1845-1908)
(من أطروحة الدكتوراة في التصوف) من أرض الجزائر أيضا، قائد كبير لقب بعبد القادر الجزائري الثاني، إنه المجاهد البطل الشيخ محمد بن العربي بن...
4 دقائق للقراءة
فهرس أطروحة الدكتوراه في التصوف
الحمد لله والصلاة والسلام على حبيب الله. وبعد فهذا فهرس عناوين أطروحة الدكتوراه في أصول الدين: (التصوف الإستراتيجي بنية الأصل وهيكلية الفروع). والتي ناقشتها...
3 دقائق للقراءة
معضلة التاريخ
هنالك فرق كبير وبون شاسع بين معرفة الحقائق التاريخية وكشف غوامضها وملابساتها، وبين توظيف ذلك لإرباك الراهن واشعال الواقع وشغل العامة بأمور لا تؤدي...
< 1 دقيقة للقراءة