4 دقائق للقراءة
بوابة أولى
كل هذه الجبال…. كل هذه الأنهار..
والأرض ذاتها..
من أين جاءت؟
سأل الناسك
ومن أين جاء سؤالك؟
أجاب المعلم”
كوان زان
بوابة ثانية
“الذي لديه جسد قادر على عدد كبير جدا من الأشياء
ذلك الذي لديه روح
حيث القسم ألأكبر غير قابل للموت”
الحكيم سبينوزا
الخط الأول: وادي الموت
يحكى أنه كان في أرض السحاب الممطر واد لا يمطر فوقه سحاب، كانت الحيتان تسبح في ترابه، والتنانين تطيـر في قاعه تلهو باللهب..
أظن أن أحدا ما كان ليعرفه إلا من خلال كوابيسه المرعبة، فأكثر الأحياء شجاعة لم يكن أبدا ليفكر في الاقتراب من الوادي.. “وادي الموت”.
في أسفل الوادي، قرب شجرة جذعها دم، جذورها ليل، وأغصانها ثعابين، وهى إن شئت أفضل شجرة في الوادي، لأنها الشجرة الوحيدة، حجر نابت في الأرض، وقد كتبت عليه الأفاعي: “هنا ينام الرجل الذي قُتل مرتين”.
حول الوادي كان هنالك غابة… حول الغابة كان هنالك بحر… حول البحر كان هنالك شاطئ… وفي الشاطئ كانت تجلس عروس الماء..تعمّد روحها برحيق الشمس، وتبكي غائبها..
يذكر التنين الأكبر الذي يقص الحكاية دائما على الحجارة الضاحكة كما رواها له جده عن سمكة ضاعت في النهر عن نهر أضاع مجراه:
” عندما كنت صغيرا..
قبل أن أنفث أول جذوة نار.. حدثني جدي…. أنه سمع سمكة تقول:
” أخبرني النهر أنه فوق الأرض حيث الشمس..
وفوق الشمس حيث الأقمار والنجوم البعيدة…
كان يعيش رجل بجناحين..وقلب واحد.
لم يكن في تلك الزرقة أجمل منه، ولم يكن في ذلك النور أنور من روحه.
لا أحد يستطيع أن يتخيل كم كان له من القصور والخدم، لا أحد يمكنه أن يتصور أي جمال يرى وأي نغم يسمع، جناحاه نور، ريشهما نار، وخفقتهما مطر، يطير بهما بين الكواكب عبر الأزمنة..
ذات زمـان قرر أن يزور الكوكب المحرم…
رفرف بجناحيه ثم هبط فوق قمة جبل..
فتنته الزرقة وسحره الامتداد وهاله رحيل الموج خلف الشواطئ العصيّة..
فجأة..رآها…تعمد روحها بالشمس وتغفو فوق صفحة اليم…
أحس بخفقان شديد، شيء يكاد يطير، يحب أن يحلق، أن يصفق، أن يرقص وأن يرفرف….
نظر إلى جنــاحيه، كانا ينظران إليه بكل غباء..
من ذا الذي يخفق إذا..يرقص كجناح؟؟
أجابه صوت في أعماقه: “أنا”…
مد يده إلى صدره، أحس نارا لم يعهدها، فتحت الجلد حيث اللحم، وتحت اللحم حيث العظم، وتحت العظم حيث المجرة الكبيرة، اِنتفض نجم أقسم أن نجما لم ير نجما أشد منه توهجا واَتقادا..
اِهتز كلسان الأفعى في الهجير، وذاب كالدمعة في الرمل…
سقط من فوق الجبل واَختفى في اللجة الباردة..
فلم يكن يعرف….
أن لـه قلبـا..
الخط الثاني: الأقزام
ارتمت عروس الماء في حضن صدفة موجية وأرسلت شعرها خلف النوارس ونظرت إلى حوت كبير بعينين تسكن في زرقتهما السماء فتحول إلى محارة، ثم اِنتحر..
فتح عينيه…نظر من حوله…كان الماء يمر من خلاله..لمس القاع فنفذت يده إلى موار يسيل بهدوء..
رفع رأسـه…الأسماك التي رآها حينها لأول مرة كانت بعدد النجوم..
وكانت تخترق جسده وتعبر ضفتيه..
والحقيقة أنه كان ضخما جدا، أضخم من هذا الوادي، لكنه تمنى أن يصبح سمكة صغيرة، ولو لزمن واحد.
مرت أيام لم يشعر بها، فهو لا يعرفها بعد، واَرتمى الليل على النهار فصرعه، ثم اِنقض النهار على الليل فجذبه من شعره وألقى به بعيدا…
كان طوال تلك الأيام يحلم….
وكانت طوال تلك الأيام تغني..
تـغـنـي…
فتلقي النوارس بنفسها في الماء لتموت وهي تسمعها ويجن السمك.
تـغـنـي…
فتقبّل الحيتان رمال الشاطئ حتى تهلك، ويخنق كل أخطبوط نفسه.
غنت ومرت به، اِخترقته وسبحت داخله، دخلت قلبه فاَهتز وهي تعبره، أراد أن يتبعها فقيّدته التخوم.
هتف القلب: “أريدها….أريدها….أحبها…”
فصرخ جناحاه: ” لا….. ليس الحب….لا …إلا الحب”
وأغمي عليهما.
مد يده ليلمسها فاَلتقت أصابعه على الفراغ.
ضرب الماء بقبضته فأصابت العدم.
حاول أن يلمسها ولو لمرة، لكنه لم يكن من ذلك العالم، كل ما اِستطاع فعله أن يراها تخترق يده، تسبح عبر أصابعه، أنسجته، شرايينه…
كان ضخمـا جدا.. وكانت بحجم خلية من خلاياه، لكنها أصبحت تحتل كل خلية من خلاياه، لقد أحبها.
امتدت إليه يده ممسكة ملقطا صغيرا جدا واَلتقطته من تلك القطرة التي نُسميها البحر، كان ينتفض في ذلك الملقط كسمكة صغيرة في صنارة صياد حتى وجد نفسه في القصر الأكبر، قصر آلهة الأمد البارد، فرقص جناحاه كما يرقص ذيل الكلب عندما يرى سيده..
أجلسته اليد الكبيرة في قفص صغير كان عبارة عن نجوم نسجت بالشهب.
تحرك إصبع اليد على الجانبين، فهم أن اليد قالت له “لا”..
رفـع رأسه..حدق بعينيه…
لم ير إلا إصبعا ضخمة…
أغمض عينيه…
توغّل في دواخله وفتح شرفة في صدره…ونظر…
رأى آلهة الأمد البارد بحجم إصبع صغير …
لقد رآهم بعيني قلبه..
ســأل: “لماذا نزلتم بي إلى هنا”
أجــابوا” :بل صعدنا بك أيها العييّ”
صرخ بغيظ: “قمّتي هنـاك، حيث أراهـا..
زرقة السماء والبحر، زرقة البحر وعينيها، زرقة عينيها وقلبي”…
حدجه سيد آلهة العدم وقال بصوت يشبه عواء الريح في وادينا:
“منحناك الوجود والأبدية الباردة
فدعك من الحب.. الحب نار مفنيــــة
نحن لا نحب…وأنت لن تحب”
رآهم أقزاما بشعة فهتف بهم:
“يا أعداء النور وأحباب الظلمة
ترفضون الحب لأنكم عنه عاجزون
تريدون أن تربحوا اللحظة لأنكم خسرتم الأبد…
لستم آلهة الوجود وأنتم عدم الوجود..
لستم أيها المدعون سوى أوهام تسكن سراديب نفسي المظلمة”..
أنار قلبه فاَنقشعت ظلمات نفسه.
احترقوا وهم يصرخون:” ستحل بك اللعنة… ستحل بك اللعنة”…
فردد في اِستخفاف: “عليكم اللعنة…عليكم اللعنة إلى أبد الآبدين..”
فتح عينيه فرأى اِمتداد لا ينتهي..
إلهي أعدني أراها…قال.. اِجعلني ألمسها ولو للحظة
واَسكب على لعنة الأرض وعقوبة الهاوية…
أغمض عينيه وفتح قلبه، فوجد مكتوبا على صفحته: “واجهْ قدركْ”.