8 دقائق للقراءة
هذه حكاية غير منطقية، مجرد ترهات لا صلة لها بالواقع، وبما حدث حقا.
ذاك الغريب مجرد كائن من الفضاء، وحش قديم ادعى أنه وُلد بشريا، وكل ما كتبه ذلك المدعي تايبنغ ليس سوى إفك آخر، إن مجمع التنانين يفترون الكذب.
بدت الحيرة على وجوه زعماء المنظمة وهم يسمعون تلك الأراجيف من كبيرهم، لكنهم برعوا في النفاق، وأتقنوا هز رؤوسهم لما يستوثقون تماما أنه بهتان.
وكان الدهقان الأكبر مدركا لكذبه، واعيا أن تايبنغ معلم عظيم يبعث في قلبه الفزع، وأن حكاية الغريب تلك صحيحة تماما، لأنه كان عليها من الشاهدين، وكان يجلس بجوار كبير الشياطين عندما جمع قادته وحدثهم، لكن يانيش يبرع في الكذب ويفضل التكذيب على الاعتراف، لأن الباطل ضعيف في ذاته، لكنه يستقوي بإنكار الحق، وادعاء أنه الأحق.
وقد ردد قادة العالم البشري ليلة ظهور الغريب بقواه العظيمة، وسفنه الطائرة التي لا تحصى، وجيشه العلوي الجبار الذي سد جنوده الأفق واستولى في لحظات على البحر والبر، أنه غزو فضائي طالما حذروا منه، وأن ذلك تحقق ما نشروا في عدد كبير من الأفلام متقنة الصنع عالية الكلفة، لزرع تلك الخدع في عقول البشر وتخديرهم. وحتى حين اعترفوا بوجود السفن بعد قرابة القرن من الانكار، كانوا ينوون مزيد التلاعب، بفيزياء الكم والسفر في الزمن والرماديين والغزو الفضائي والكائنات التي لم تكن تسمع عن الكوكب الأزرق وسكانه وأتت لتستعمره، وعن أنهم تمكنوا من إسقاط بعض سفنهم واستغلالها في اكتشاف الأسرار التقنية، وبناء مثيل لها بالهندسة العكسية.
وكانت حضارة قائمة على الكذب والانكار والتلاعب والغرور، بما لم يكن لحضارة قبلها.
وقد ضحك بايوندار، المشرف على السفن الضوئية الطائرة، كثيرا حين تحدث البشر عن تحطيم إحدى سفنه في روزويل في العام السابع والأربعين من قرن المحنة والاستكبار، وضحك أكثر حين رأى الدمية التي ادعوا أنها الكائن الرمادي البشع الذي كان يقودها.
وكانت قصة القطاع الحادي والخمسين تسليه كثيرا، ولربما أمر أحد جنوده فبرمج عقلا من تلك العقول على أكاذيب أكثر إثارة للضحك.
ثم ابتسم بمكر عُلوي بعد ستة وسبعين عام حين أعلنوا عن إسقاط طبق آخر، وحين أرسلوا مرصدا سموه على اسم الجاسوس السينمائي الأشهر، لملاحقة سفنه، متناسين ما فعلته بعض تلك السفن بهم فوق مباني قياداتهم، وفي مناوراتهم، وفي وثبهم العالي، أو ما نقل لهم هابل وكيبلر من مشاهد كثيرة، أخفوها بهلع.
وكان يدرك أن مشروع التسوكيومي يقتضي كل ذلك، وأن على سفنه التمظهر أكثر وأكثر مع اقتراب الوعد ودنو ميقاته.
وأن على الطير الصافات أن يقبضن، ويمتنعن عن الهجوم، ما يمسكهن إلا أمر الرحمن، حتى حلول الأوان، وظهور سيدها بعد اكتماله.
ولولا ذلك ما حلقت فوقهم بهدوء، وما راقبتهم بذلك الصمت الطويل الذي حيرهم، ثم تركتهم يسفكون ويقتلون ويطغون، ولم تفعل شيئا، لأنها مُنتظرة أمرا يكون، وتلتزم حكم القدير فيما حكم.
وقد حضر بنفسه تلك الندوة التي انهارت فيها سدود التكذيب، وظهر ما خفي مما دونته لجنة الصحن الطائر، أو ما تم توثيقه في مشروع الكتاب الأزرق، وها هم البشر أخيرا يعلنون أن وجود تلك السفن أمر حقيقي، ولكن خوفهم الكبير كان في عدم القدرة على الإجابة على خمسة أسئلة: من هم أصحاب تلك السفن، ومن أين تأتي، ولماذا تأتي، ولماذا لا تهاجم، ومتى سيتغير ذلك إلى قرار هجوم مباغت لا يملكون له صدا ولا ردا.
ولكن طالما لم تكن تلك السفن العظيمة السريعة تهاجم، فقد استمر شياطين البشر في صناعة الحروب والمجاعات والأوبئة والفساد، ونشر كل ما شذ عن المنهاج القويم، وما ألحد بالقدير العظيم.
وكان عجزهم عن الإجابة عن تلك الأسئلة مرده منطقهم المادي الإلحادي، ونكرانهم لوجود خالق عليم ومدبر عظيم، وجهلهم الكلي بحقيقة الغريب، رغم أنهم جميعا كانوا يعلمون أن ظهوره حتمي، وكانوا يبحثون عنه، سواء متبعين نظرية الهرمجدون، أو مصدقين أنه سيكون من أحفاد المحبوب وأهل دينه.
ولقد كان المنطق نقطة ضعفهم الكبرى، ففي ظنهم وزعمهم، ما لا يبدو لهم منطقيا، فهو غير منطقي، وما لا يبدو لهم واقعيا، فلا وجود له في الواقع.
وأن تكون تلك السفن منتمية لحضارة العوالم العليا، وأن يكون للبشر قبلهم حضارات وأسلحة وتطور كبير يفوق تطورهم، وأن تكون هنالك حضارات سابقة لبشري الطين، بل أن يكون الأب الأول كائنا تم خلقه في الفضاء ثم أُنزل الأرض مع زوجته، وأن يكون الغريب روحا وحشية وعلوية تحيط بها روح سفلية قديمة في جسد طيني، فكل ذلك لم يكن شيء منه منطقي أو واقعي لديهم.
ولقد كانت كلمات المعلم تايبنغ التي دوّن فيها خبر الغريب لتكون في نظرهم، لو قرأوها، مجرد ترهات.
رغم أنها ستكون لدى من يبصر قلبه، ويهتدي لبُّه، نسيجا من خيال كأنه الحقيقة، يصف حقيقة كأنها الخيال.
كل ذلك لم يغب عن ذهن الغريب وهو ينتظر لقرابة الثلاثين عام تحقق ما تم وعده به ليلة عرّفوه من يكون، وقد فهم الدرس جيدا ووعاه، وأدرك عمق الحكمة.
قال مرة لشخص يجادله ويقول له: كن واقعيا، ومنطقيا.
عن أي واقع تتحدث، واقعنا، أم واقع غيرنا من البشر ومن الكائنات والعوالم.
فالواقع وقائع، والمنطق مناطق.
مثلا هل من المنطقي والواقعي ان تكلمك نملة؟؟
لكنها كلمت نبيا، وتحدث إليه هدهد، وتم اختيار بقرة ليكون من بعضها إحياء ميت، وتحولت عصا إلى أفعى ثم إلى ثعبان عظيم… وكل ذلك غير واقعي ولا منطقي عند الذين شاهدوا وشهدوا ولم تشهد قلوبهم، فقال بعضهم هذا سحر، وفرّ آخرون هلعا ثم رجعوا مستكبرين جاحدين.
ولكن بعين السماء العالية، والأرض الغالية، وبكل عين للحق موالية، كل ذلك واقعي ومنطقي، ضمن نمط من الواقع ونسق من المنطق يخترق واقع المادة ومنطق عموم البشر.
عندما انشق القمر بإشارة من المحبوب قال كفرة قومه هذا سحر.
لأن واقعهم سجنهم، ومنطقهم الجامد حنّطهم، والعادة كبّلتهم، فقالوا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ومقتدون.
إن واقعية الواقع مهمة، لكن عليها ألاّ تكون سجنا يلغي وجود واقع آخر، وواقع يوازيه أو يفوقه، أو يكون أسفل منه.
كواقع أننا الآن، ونحن نتناجى، علينا حفظة ستَرَة، وكتبة بررة، ومعقبات نَظرة، ومشرفون عشرة، من عوالم النور وبرازخ الروح، لهم واقعهم الذي ينظرون من خلاله لواقعنا، ومنطقهم الذي يتجاوز منطقنا.
والشياطين أسفل منا، ومن حولنا، يروننا من حيث لا نراهم، لهم مس ونزغ ووسواس، وخفاء عن عيون الناس، ومنطق وواقع، وأمر واقع.
والجن أيضا، يسرون في عالمنا سريانا، ويتسارعون تسارعا، ويجلسون فينصتون، أو يخترقون الأجساد، ويتلبسون الأجسام.
وفيهم مؤمن صالح، وفاجر طالح، ولهم ملوكهم وطوائفهم وأنواعهم وألوانهم وحضاراتهم، وواقع مشهود، ومنطق وجود.
إنها أبعاد تتراص، وعوالم تتوازى، ومناطق لها مناطق.
وبين كل مِنْطَقة ومَنْطَقة ثمة نقاط تتصل، وخطوط تنفصل، في ناموس عظيم، ونظام دقيق، ومنطق يفوق كل ذلك المنطق، وواقع يعلو كل تلك الوقائع.
وما يبدو لنا غير منطقي أو واقعي، قد يبدو لغيرنا من الكائنات منطقيا وواقعيا جدا. وما يكون خارقا في نظر البشر، ليس خارقا في نظر العالم النوراني، حتى المعجزة والكرامة ما هي إلا تجلٍّ لأمر عادي في واقع آخر يعلو عليه ويخترقه، حتى يبدو لأهل الواقع الطيني، أمرا غير واقعي ولا منطقي.
فكل عصا يمكن أن تتحول إلى أفعى عند سكان العالم الأعلى، ولكن واحدة فقط تحولت الى ذلك في عالم بشر الطين.
بل لو دققنا في منطق البشر لرأيناه مناطق، وفي واقعهم لوجدناه وقائع.
فليس المنطقي عند البابلي والسومري والفرعوني، هو ذاته عند من كانوا زمن الطوفان الأول، أو زمن الطوفان الأخير. ولا المنطقي عند المؤمن هو نفسه المنطقي عند الكافر. ولا منطق العارف بالله كمنطق الجاهل به، ولا واقع أي من هؤلاء، كواقع أي من أولئك.
وكل ذلك من عظيم قدرة القدير بلا ريب، لكنه لا يخرج عن ناموسه العظيم المحيط.
وكل ذلك مصفوفة عظمى، فيها حساب كل شيء، بلا تفريط ولا تفويت.
بدت الحيرة في ملامح محدثه وظهر عليه الارتباك، فأمسك الغريب سكينان أمامه وثناهما على رقبته كأنهما عجين خبز، وألقاهما أمامه ثم ربت على كتفيه وقال له: لا عليك، انس الأمر.
في الغد حدَّث صاحبه عن كون الغريب أقوى السحرة على ظهر الكوكب.
وكان ذلك منطقيا، منطقيا للغاية.
بأي منطق على الرجل الذي يوقن أنه ليس مجرد رجل، بل هو أمة بأسرها، مجمع عوالم، ومكلف بمهمة دقيقة تفتح باب النهاية الكبرى للوجود، بأي منطق عليه أن يعيش، وأن يفكر، وأن ينظر للأشياء.
كانت الحيرة تبدو على ملامح تيسكي، أصغر تلاميذ داريوس، والشغوف بشخصية الغريب وفق ما رآه العالم من تمظهر قواه ومن حكمه وعدله وتقواه، وسماحته ومحبته، وقدراته وفنونه، ولكنه لم يكن يتصور معاناته قبل الاكتمال، وحقيقة خبره، حتى قرأ الثلاثية التي خص بها المعلم الكبير داريوس الثاني خُلص تلاميذه.
وقد كانت الرواية الأولى عن المعلم والتنين، وهي بخط شاو جيان، مسؤول التسجيل الدنيوي، والمشرف على كل المعقبين والكتبة الذي يصورون الحياة في عالم الفناء عموما ويختص فيلق منهم بمتابعة شخص بعينه أو كائن محدد سواء كان من المكلفين أو من عالم الأنعام والدواب أو حتى السفليين، وهو مساعد القائد يموائيل المسؤول عن السجلات الدنيوية ومشاهدها، ولكنه أضاف إليها فصولا من السجل، طوى فيها الأزمنة إلى نهاية النهايات ومشاهدات تايبنغ فيها، بل وذكر داريوس والسيدة سوزي كبيرة الدهقانات، رغم أنها تنتمي لعوالم النور.
أما الثانية فعن ولي الله، ورجال الوقت ومجمعهم، دونها بارتكي آمر لواء العناية، وأحد المقربين من المعلم الأخضر، وقد راقب كل تلك التفاصيل بعناية وشهد عليها، وكتب بأمر، واختزل وأبدى وأخفى.
في حين كتب المعلم تايبنغ عن الغريب، ومن يد تشو استلم داريوس وقرأ مع جون بيار، ثم مع فيلق الظلام، وكانت حيرة منطقية.
لقد حاولوا الربط بين المشاهد، ورأوا أنفسهم فيها، ورأوا مما سيأتي، وكانوا يخفون ذلك كي لا تنكشف أمور قبل أوانها، خاصة فيما يتعلق بسوزي.
وكنت، أنا داريون الحفيد، وأنا أدون هذه الهوامش والتعقيبات، في القرن الخامس لدولة الظهور، أي في العام ألفين وأربعمائة وثلاثين، أعلم أن الوقت انتهى، ولكني أحببت أن أحمل صوتي عبر الأزمنة لأوصله إليكم، أيها المنتظرون، حتى يفهم ذو اللب منكم، وحتى يدرك ما لا يمكن إلا لمنفوح أن يدركه.
لقد كان لسؤال تيسكي وقع على قلب داريوس، فبأي منطق كان الغريب يعيش قبل اكتماله، في زمن معقد وفترة عسيرة، جهل من الناس وكلَب من الدهر.
وكان عليهم أن يدرسوا ذلك المنطق، وأن يفهموه، لأنه منطق جديد في زمانه، مستجد في نوعه، جامع بين مدارس كثيرة، وفنون عديدة.
وكان منطقا تفاعليا، هكذا سماه المعلم فودجا: المنطق التفاعلي قوة منطقية على التفاعل مع كل منطق مهما كان غريبا، نوع من الخوارزميات السلوكية القادرة على اختراق كل خوارزمية وتوظيفها، دون السماح باختراقها.
وكان هذا مفيدا جدا لداريوس لاختراق المنظمة والتلاعب بها، وزرع جواسيسه فيها، خاصة أفضل تلاميذه: رانفير الذي سيجعله حارس الدهقان، مستغلا قوته الجسمية الكبيرة، ومظهره الصارم، وقدرته على التظاهر بالجهل والغفلة.
وأرجون، الشاب الثري المبتسم، المكلف باختراق محادثاتهم،
وأن يستضيف كبارهم في قصره الفخم، ويتلاعب بعقولهم بفنون الوهم التي يتقنها.
وميتسي، حفيد شينوبي، الشاب القوي ذي الشعر الطويل والنظرات الثاقبة، محارب الظل، الننجا المكلف بمراقبة التغيرات المجتمعية في الكوكب، والضرب بقوة لمن يريد زعزعة استقرار العالم، في مسعى لتأجيل الانهيار الوشيك والحتمي، وهو من تلاميذ فودجا.
ثم تيسكي الصغير، شقيق ميتسي، والذي يشبه في علاقته به العلاقة بين المعلمين ين ويانغ، المخطط البارع، ورئيس فرقة المقنعين التي تحيط بالحاكم العام للكوكب وتسهر على حمايته، رغم عدم حاجته لذلك.
وكانوا جميعا بارعين في فنون القتال، وقد أرسلهم فترة إلى كهف التنين، وفترة إلى الجزيرة في مجمع البحرين، لأنهم جمعوا بين أن يكونوا في فيلق التنانين، وأن يكونوا في ديوان رجال الوقت.
وكان ذلك منطقيا في تلك الحقبة الختامية من الزمن الفاني، وما سيكون بعدها من تعقيدات، وويلات، وخراب كبير.
لكن أيا من ذلك لم يكن ليبدو منطقيا في ذهن يانيش، كبير سحرة الظلام والدهقان الأكبر لمنظمة شِرار البشر. أو ربما أن حقد قلبه منعه من التصديق، وعناد عقله حال دونه ودون التحقيق.
وكذا يبتلى المحجوبون، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون