5 دقائق للقراءة
سأموت قريبا، وبعد هذا الموت، سأولد، وأكون مختلقا، وأنسى حتى أتذكر..
لكني سأقتلك لو نسيتني.
وهل يمكن أن أنساك يا مريم.
كان ينظر إلى الأفق البعيد، حيث حافة السماء التي تحتها أخرى طيّا في طيّ كبحر يحتوي قطرة والقطرة بحر يحوي قطرة أخرى والقطرة الأدنى كون فيه مجرات من النقاط في كل نقطة أجرام وكواكب وشموس وأقمار، وكائنات يعرفها تفصيلا. ولكَم نظر في أعماق ذراتها، وآفاق مجراتها، و عرف قصص كائناتها، من زمن بدا فيه زمن الفانين مجرد نقطة في فضاء مطلق.
سمع في عقله صوت صاحبه يناديه: أنا في الأفق الفوقي، اصعد.
انفتحت بوابة من نور فانتقل. وجد صاحبه مع مجمع الكبار، انحنوا له احتراما، تغيرت ملابسه وظهر لباسه الرسمي بتاج ملكي وسيف دري على جنبه تتدلى منه ريشة من الماس والضوء والماء الشفاف المتماسك، وكان لباسه من خيوط النور الأبيض موشى بأنوار حمراء وعلى جبينه شارة القيادة وفي تاجه درة الملك الخضراء، وفي يده خاتم التمكين بياقوتة زرقاء في أعماقها قوى وطاقات وأرواح متصلة بروحه.
لم يكن يحتاج للكلام كي يفهم الأمر، فالكلام حيث هو لا يكون إلا من باب جمالية البيان مرصعا بليغا سلسا، كالشعر ولكن أحلى، وكالنثر ولكن أمتن. أما المعاني فهي حرة من المباني، وتصل الأفكار بين الروح والروح بتخاطر قوي يتجاوز حد اللغة وسجن الكلمات، ولئن كان يعرف كل لغة، حتى تلك التي تنطق بها الكينونات الصغيرة الكامنة في ذرات النور والضوء والمواد.
فُتحت أمامه بوابة، دخل منها مع الستة الكبار، وبقي القادة السبعون ينتظرون، كانت الغرفة متسعة كأنها الأكوان، وفي أفق الماء كان.
وجد روحه الذي تعشقه روحه، سلّم مبتسما وأسرع ليضمه، وقد فاح أريج مسك جَنَّويّ. كان يقول دائما: حضنه أجمل من الجنة، وعطره أطيب من عطور ورود الفراديس، ومن عطر حوريات النور السابحات في مطلق الجمال.
إذا يا سيدي، أنتم الآن.
أجل، مبتسما، ومن خلفه ظهر توأمه، ثم بدا النيّرون تباعا: أيها السادة، سيكون يوما عظيما.
أقبل المُنظَر وقد هاله المَنظر: يا لاجتماع الجمال بالجمال.
ابتسم له: يا شقيقي أنت الجمال كله، مرفوعا ومرتفعا.
دوى صوت في قلبه: لا أحتمل.
استأذن، وسلّم على السادة والكبار والنيرين، واختفى.
ظهر لعيني مريم الجميلتين، وكان كل ما غابه عنها رمشتان منهما. اختفت ملابسه الملكية وظهر لباسه الأصفر الذي يحبه. وكان لملابسه روح وفكر وإرادة، تختفي وتظهر وتتغير. ولكل لباس منها قوى وقدرات ووعي.
لا تقل لي أنك اختفيت وتسارعت ودخلت زمن الكبار. وابتسم لها.
أنا أميرة تلك الفيالق لكني لم أبلغ من قوتك شيئا، رغم أني أستطيع أن أطوي تلك النقطة السوداء وما فيها من أكوان، وأنفاسي هنا تستغرق دهورا من تلك الأزمان.
لا أفهم كيف ستكون في نقطة داخل نقطة، في كوكب صغير في تلك النقطة السوداء المظلمة المليئة بالشر والموت. حبيبي أنت، منذ خرجت من زهرة الأفق واسمك منقوش في قلبي، لقد أحببتك منذ كنت فكرة خلق.
لم يكن أمام عينيه الناظرتان لتلك الشموس الدرية والأقمار النورانية في ذلك الكوكب العظيم، كوكب “س” سوى جمال في طي جمال، أنوار ومشاهد وتجليات..
طيور من ضوء، تسبح في الضوء وفوقها غمام النور الأبيض وأقواس قزح علوية. تشدو بموسيقات تراها العين وتسمعها الأذن وتذوقها الروح وتلمسها اليد.
أسماك تسمح في بحرٍ من ماء السرمد، عليها ألوان شتى، تتآلف وتتناغم، وتتكلم بلسان مائي.
أنهار من كل عذب، وجبال من كل عظيم، وخضرة ونُضرة، وقرب حَضرة.
ولكنك ستترك كل هذا وتتركني، إلى تلك النقطة.
أتريدين أن أتخلى عن مهمتي.
ولكن لماذا لا أموت هنا وأولد معك هناك أيضا. سيقتلني الانتظار.
أليست حياة أولئك كلها من أولها إلى آخرها سوى رمشة من رموشك يا حلوتي.
نعم، لكن مع الشوق تصبح لحظة الفناء كالأبد.
فتح يده فظهر كتاب، فتح صفحاته: هذه حياتي القادمة قبل أن أرجع إليك.
بدت في الكتاب مشاهد وصور، ورأى ذواته التي ستكون مستويات لذاته الناسية وأخرى لذاته التي تبدأ في التذكر والتعافي.
تكلم روح الكتاب فقال: ستكون وحيدا، وسوف تتسلط عليك الشياطين التي يكرهك كبيرها ولا ينسى كيف صفعته فبقي الجرح على وجهه الناري لا يزول أثره.
هو بنفسه سيكون أول من يحاربك وأكثر من يؤذيك.
وسوف تتوه طويلا وتنسى كثيرا.
وسوف يمرض جسدك الأرضي، سنوات من المرض والنزيف والحمى. وسيدهمك الموت دون أن تموت. حتى يأتي ذلك الموعد. وسوف تأتيك مريم.
ابتسمت، سأمسك يد روحك وبدنك وأكلمك من خلف حجاب، ثم تراني قبل أن تسترد الذاكرة.
ويوم تذكر وترجع كما كنت هنا سوف نعود معا.
إن الاستثناء في حياتك أن عليك أن تقتل نفسك بنفسك هنا، أن تتحول إلى ذلك الوحش ثم تَقب، وأنك سوف تتذكر بالكامل هناك، قبل الموت الأخير الذي فيه تحررك، ستكون حرا قبله وحرا معه وحرا بعده.
وسوف تقضي عليهم جميعا، كل أولئك الذين فَجَروا. وسيكون فجرك ساطعا ونورك رائعا.
ظهر توأمه، ابتسم وهو يحمل سيفه على كتفه: لباس حربي، إلى أين.
هنالك مهمة سريعة، سننقص عدد الشياطين، ونسند قلب ذلك الرجل.
نظر إلى أدنى فرأى عاشق الحسناء يضرب بسيفه ويتخيلها والبيض تقطر من دمه، إنه صديق قديم وقرينه من الأسود، انظر إليهما وقد اتحدا، قوة يندر ظهورها في عالم الفناء.
لكنه سوف يُحرم لقاء السيد العظيم رغم سعيه ويقينه. حكمة الحكيم وأمره.
أربعة عشر رمشا من الملاحم. كل من رمشة عين له قرن من زمنهم، وارتفعوا كلهم بعد أن شرّفوا السماء.
بعد حين كان موعده، لبس لباسه الأسود، وتقدم إلى الباب.
كانت صفوف المودعين تقف في خط اللانهاية، تحول إلى جمع وودعهم جميعا وسلّم على كل واحد منهم على حدة، ثم اجتمع مجددا وتقدّم.
كانت مريم تنظر إلى ذلك الرضيع بشفقة، وكانت أخواتها معها ليوم الولادة.
ركبت مطيتها المجنحة ومضت دامعة العينين، كانت تعلم أن الملحمة بدأت. وخلفها كان صوت الملعون يزمجر: وصلت أخيرا، سوف أطعنك كل يوم من أيام غيابك، يا قاتلي.
سمعت صوت تمزق اللحم وخنجر اللعين ينغرز في بدن الرضيع فيتهز جسمه ويعلو بكاؤه. أخذ لفيفة ووضعها عليه. اختنق حد الموت. رجعت مسرعة وأمسكت يد أمه لتنزع ذلك عن وجهه.
يوم اجتمعا مجددا كان يوما ممطرا. نظرت مريم إلى الحريق في الشجرة الملعونة، وإلى أسراب الشياطين المحترقة، وكبيرهم وهو يتفتت ويتلاشى.
نظرت إلى المدن المخربة، وإلى الكوكب العظيم وهو يتبعد بعد أن اقترب، وقد بدأ السد يتداعى وكائنات الأُجاج والزئبق يعلو صراخها وهي تنتظر الخروج.
رأت الفزع في عيون من كانوا يظنون أنهم الأقوى، نظرت إلى روحها فرأته يقف ممسكا ذلك السيف ويخطب في الناس.
علمت أن الأمر تم، وأن كل ما عليها أن تنتظره أربعين رمشا من عينيها، أربعين عاما من أعوامهم، ثم يرحل النور الأخير، ليترك خلفه خيوط نور تستمر مائتين وسبعين رمشا فقط، ثم يخرج الظلام الأخير ليحل في عالم الفناء، بعدها يكون الانطماس، وتحترق تلك النقطة المظملة، لتصير نقطة بيضاء بكواكب من نور، ويخرج الجميع للمجمع، وتشرق الأكوان بنور ربها.
سوسة 04-01-2020