15 دقائق للقراءة
في الكرة السوداء التي تحيط بمجرات عالم الفناء، وفي ركن قصي خفي عن كائنات النار، محرم على السفليين أن يقتربوا منه، كان كوكب عظيم، وفيه مدن عظمى، في إحداها وتسمى مدينة المباني التسعة، وفي داخل قاعة مليئة بالأجهزة المتطورة، والشاشات الكبيرة، جلس كائن أصفر اللون، يحرك أصابعه بسرعة كبيرة، ومن خلفه شاب أشد منه اصفرارا، يبتسم بسعادة.
فُتحت بوابة من خلفهما، فتحركا بسرعة وقد تغيرت ملابسهما وظهرت سيوف على أكتافهما، ونزلا على ركبة ونصف، وانتظرا لحظات حتى دخل القائد بيهاردن، ومن خلفه اثنان من حراسه المقربين، من فرقة المقنعين، أو الإينبو.
سيدي القائد، تسعدنا زيارتك، قال الأول.
أجل، أنت ملهمنا يا سيدي، قال الثاني، ففن النمر الذي طورته ومضيت في ذلك بعيدا، نستخدمه فيما نصممه، وقد أرسلنا بعضه إلى ذهن صاحبنا فودجا من حيث لا يعلم.
أجل أجل، أضاف الأول بحماس، بل حتى فن التنين الذهبي وفنون السيف الخاصة بك كانت مصدر إلهام كبير لي ولكل فيلقي في هذا العالم المعدني، ونحن لا ننسى الزمن القديم حين كنا معا هنالك فوق الأعالي وكنت المعلم المباشر لفيلقنا.
ابتسم بيهاردن وقال لهما: يسعدني أن ألقاك أيضا أيها القائد يوتشيهان، مع مساعدك المتحمس دائما، في قسم البرمجة والإلهامات، الذي يشرف على تطور كائنات عالم الفناء في العلم والقدرات، ويصمم الرؤى ويلهم الشعراء والأدباء.
إن قسمكم هذا عالم بمفرده، بما يحويه من أجهزة وقدرات برمجية، وأنت تحوي ذكاء مرقوما ستحول بعضه إلى ذكاء رقمي يستخدمه هؤلاء كما استخدم شيئا منه من كان قبلهم من البشر الطينين أو من سبقهم، لتكون فتنتهم فيه، حين يفضلون ذكاء الآلة على ذكاء عقولهم، التي تعتبر في حقيقتها وعمقها وجوهرها أقوى من كل ذكاء مصنوع، إلا المرقوم منه. غير أنهم لا يستخدمون من تلك العقول الجبارة التي منحها العظيم لهم إلا معشار معشار الجزيء الأول المفصول عن الصفر.
كانت تلك الزيارة الأولى لبيهاردن منذ أفنى صاحبه نفسه، لذلك العالم المختفي في عالم الفناء، لكوكب المعدن الأصفر التابع لسيد لواء الحسبان، الذي يحلو له أن يناديه بالشاب الأزلي، السيد ميكياليان، أحد الستة الكبار.
قال بيهاردن وقد كسا صوته الحزن: لقد تم الأمر كما تعلمان، منذ سنوات قليلة، ونحن نتجه نحو بداية القرن الغثائي، العشرون في حساب البشر انطلاقا من مولد السيد الكلمة.
وهنالك تغييرات كبرى ستحصل، وأنتما مع فيلقكما ستشرفان على جزء كبير منها، فماذا أعددتما لذلك، وكيف ستوصلان الرسائل للغريب طفلا وشابا حتى الاكتمال، ليدرك حقيقة ذاته ويتذكر شيئا مما كان عليه قبل أن يحل في هيكل الطين.
ابتسم يوتشيهان وفرك أصابعه ثم ضغط على أزرار أمامه في جهاز كبير وهو يقول: هنا ملخص المشروع الذي سميته “تسوكيومي”، أو “اللعبة الختامية”.
هذا يبدو مهما، قال بيهاردن بابتسامة، في حين لمعت عينا مساعد يوتشيهان وقال بحماسة: بعد إذن سيدي القائد، إننا بنينا هذا المشروع على معطيات من اللوح أتى بها المعلم الأخضر، وأعطانا الأمر منذ فترة، ويتلخص التسوكيومي في نظريتين أساسيتين، وضوح الصورة، ونهاية الإنكار.
كان يوتشيهان مستغرقا في الضغط على الأزرار حتى ظهر ملف مصور في مشاهد وصور ومعطيات وكتابات ورموز، قرأها بيهاردن باهتمام ورأى فيها أثر المعلم الأخضر، وصاحب القرنين، وكذلك الروح الذي أفنى نفسه، وكأنما أراد أن يترك بصمته قبل أن يتم تجميده مائة عام كاملة، وإن كانت لا تعني في عالم البقاء شيئا، لكنها تعني الكثير لعالم الفناء ولسكان الكوكب الأزرق.
عندما ظهرت المشاهد ظهر معها بشر كثيرون: رسامون ونحاتون بملابس وملامح مختلفة.
قال يوتشيهان موضحا: تعلمون سيدي آمر الرواحين أننا حطمنا الحضارة الأخيرة التي بلغت مستوى تطور كبير مقارنة بغيرها منذ عشرة آلاف عام، وحطم صاحب القرنين غرور الأطلنطيين وغطرستهم ووهم تفوقهم وأسلحتهم الفتاكة وسفنهم الطائرة واستخداماتهم للطاقة والقفز البعدي، وعبثهم بالجينات، واستنزافهم للكوكب، وبناءهم لكل تلك الأهرامات، واستغلالهم لما بناه منها النبي الملك صاحب الطب والهندسة قبلهم بألوف السنين، كل ذلك تمت إزالته بصيحة واحدة وضربة من طاقة القرنين حولتهم إلى نقطة نيوترونية مضغوطة تتأرجح داخل ثقب أسود وغمرهم البحر وصارت منطقة تختفي فيها الطائرات والسفن، وقد تم ضرب عدد آخر من المدن والقرى بعدهم، والتي على طغيانها لم تبلغ ما بلغ سكان أطلنتس، ولكنها ورثت قليلا من علمها، وفقد البشر كالعادة الذاكرة الحضارية، ورجع عدد منهم إلى المغاور يرسمون بأشياء بدائية، ينحتون محاولين إيصال رسالة عما حصل للأجيال القادمة.
نعم هذا أعلمه وقدت فيه فيالق بشكل مباشر، قال بيهاردن.
وتعلم كذلك أيها القائد، أضاف يوتشيهان، أنه ومنذ الجفاف الكبير فقد البشر الكثير من قدراتهم السابقة، حجما وعمرا وعلما، واستمر الأمر منذ ظهور الكليم إلى السيد الكلمة ثم حضرة المحبوب، ولم يكن هنالك سوى بعض الرسومات البسيطة والمنحوتات البدائية كتلك التي صنع منها المستغفلون الأصنام، وحتى اللغات نسيت طرق كتابتها ورجعوا للمسمار والنقش والرمز الحيواني، ونسيت الرياضيات، وكان لابد من بعض الملهمين ليعيد من خلالهم عالمنا للبشر شيئا من تلك العلوم، فظهر طاليس وفيثاغورس وأبقراط وسقراط وأفلاطون وقد تكلم الأخير عن أطلانتس مرارا.
ثم مضت القرون وبدأنا تعليمهم فنون جديدة: رسومات قريبة من الواقع، فن القرون الوسطى، من البيزنطي إلى القوطي، وفنون أخرى كانت في الشرق وأراضي المرج الأصفر أو الهند والصين. وقد جعلنا تفاعلا تطوريا بين تلك المدارس، من الروماني والهيلنستي، والساساني، وأدمجنا ذلك كله بالدين والروحانية والمعمار والزخرفة وفنون النقش على الرخام والحجارة والجواهر والزجاج والعاج، وفنون التزويق والفسيفساء، والتطريز والنمنمة، والخط والكتابة، وشتى الفنون الدقيقة، وفنون التصوير والبناء، ونشرناه في المعابد والمسارح والقصور والكنائس.
وكنا نتدخل بذكاء وخفاء، حتى يشعر البشري المعني أنه المبدع الحقيقي، رغم أن كثيرا مما كان يكتشف ويطور كانت خلفه مصادفة أو رؤيا في المنام، وكنا خلف كل ذلك.
وليس هنالك شعب من شعوب العالم الأرضي لم نطور له ثقافة وفنا خاصين به، ولم نعلمه لغة أو نساعده على تطوير لغة من لغة أسبق منها، وكذلك فعلنا بالموسيقى والأدب، والطبخ والذوق، وهذا شاع من قبل أكثر كما تعلمون سيدي، فقد كان البشري الأول بارعا في كل ذلك بعد أن سكن عالمنا العالي في مستواه الخامس وكان في الجنة وما فيها مما لا يتخيل عقل بشري.
وكان الفن زمن حضارة السيد يانوحان عظيما، وكذلك زمن السيد شايثا قبله، معلم اللغات البارع، أو السيد داريوس بعدهما، باني الهرم الأكبر.
وكان المعلم الأخضر يتدخل مباشرة في هذا العمل، وكان لفيلق المنظرين والمعلم تايبنغ دور فيه كذلك مع فيلقه.
وتعلم سيدي أن كائنات النار لها إبداعات أكبر، وإمكانات أعظم، وأن الحضارات التي سبقت بشري الطين كان لها ما هو أعظم، وأننا نحن النورانيون جميعا أكثر قدرة وأعظم إبداعا وابتكارا رغم أننا في مقام الأمر، لكن بارئنا العظيم كل يوم في شأن، ونحن لنا في كل شأن شؤون وفنون.
وتعلمون أيضا أن كبير الشياطين كان فنانا بارعا جدا، حتى أصبح وزير السيد صاحب القرنين، وارتقى إلى العالم الأعلى، ثم حين هوى رجيما منحناه ختمة ذهنية وروحية مكنت له شيئا من فنون الظلام التي يمتلكها ساكن الظلال الذي ينتظر موعد تحرره ليقوم بالمهمة الختامية قبل نهاية النهايات.
بدا التركيز والاهتمام على محيا بيهاردن الوسيم، بشعره الأسود وعينيه الثاقبتين وقامته الفارعة وبدنه المفتول.
في حين كان مساعد يوتشيهان يبتسم في جذل الصبي، في حين استمر معلمه في الكلام والجهاز أمامه يبث الصور والوجوه لرسامين وفنانين وشعراء وفلاسفة ومخترعين وملوك وعامة.
استغرق المستوى الأول من التسوكيومي أربعة آلاف عام، ثم استغرق المستوى الثاني ألف عام، حتى أعطينا البشر قدرة على رسم قريب من الواقع، وكان الأرستقراطيون والنبلاء يقفون أمام الرسام مطولا، ليرسم لهم لوحة تشبههم، وكذلك الأباطرة والملوك، وكان القرن الثامن عشر عندهم منطلقا لمدارس فنية كثيرة، واقترب الفن من العامة راسما الحياة والمجتمع بشكل أكبر، ثم يأتي القرن التاسع عشر، ويتخذ البشر مدرسة انطباعية من لوحة ربيع لرسام اسمه ماكتاجرت، ويبرع راسم لوحة آكلو البطاطا، فان غوخ، وتتطور الموسيقى مع بتهوفن بعد موزارت، ونلهمهم روائع المعزوفات كما سنلهم طاغور روائع الشعر، فنحن خلف كل إبداع وإلهام وفن راق. وقريبا سيظهر بيكاسو بلوحة امرأة مبتسمة حزينة، وبمدرسة تمضي نحو الرمز والتجريد والفن التكعيبي.
أرجو أن كل هذا لم يكن ثقيلا عليك سيدي.
حرك بيهاردن رأسه بصمت معبرا عن رغبته في مزيد الاستماع، فقال يوتشيهان: في نهاية القرن الثامن عشر كما يعلم سمو القائد، قامت تلك الثورة العارمة في البلاد التي كانت من قبل بلاد الغال والشعوب القلطية ثم استعمرها الرومان، وظهر معها فلاسفة تسموا بفلاسفة الأنوار، وكانت تلك الثورة بعد حرب السنوات السبع أو الاستقلال في أرض الأمر الذي كان وسيكون، وأثرت كثيرا في عالم البشر، ثقافة واعتقادا وفنا وأدبا، مسببة ثورة صناعية في القرن الموالي، وهنا كان تدخلنا كبيرا في كل اختراع وتطوير للمحرك والآلة، وللصناعة في شتى المجالات خاصة العسكرية وصناعة السفن والقطارات، وظهرت المصانع الميكانيكية، وقد قمنا بتسريع التطوير العلمي وما حسبوه اختراعا من قبلهم في هذين القرنين بما لم نتحه للبشر في آلاف الأعوام السابقة، فظهر عندهم المحرك البخاري والتربينات ومحركات الاحتراق الداخلي بالوقود السائل والغاز والشرارة الكهربائية والبنزين.
وصفق البشر لمخترعيهم، واستثمروا ذلك في التجارة والصناعة والحروب واستعمار الشعوب، ولكن الحقيقة التي لم يدركوها أن كلا من جيمس واط، جون بربر، توماس ميد، روبرت ستريت، فرنسواس إسحاق دي ريفاز، صامويل براون، جيان جوزيف،
نيكولاس أوتو، جورج برايتون، كارل بينز، رودولف ديزل، مخترعي المحركات، وحتى من سيخترع بعدهم المحرك النفاث، لم يخترع أحد منهم شيئا من مجرد هندسة وحسابات رياضية أو تصورات وتطويرات تقنية، إنما كانوا جميعا ملهمين، وكانوا يعيدون اكتشاف ما كان أعظم منهم عند حضارات بشر قبلهم، وحضارات أخرى قبل أبيهم الأول. رغم أن ذلك لا يقلل من اجتهادهم وبحثهم وصبرهم وقيمة ما فعلوه شيئا، وهم يظنون أنهم يخدمون تطور البشرية، ولم يتصور أحد منهم أن الأبالسة سيحولون كل ذلك لوجهات أخرى تؤدي إلى حربين عالميتين وثالثة يوقفها السيد الغريب.
إن كل أولئك البشر الطيبين والذين عاشوا الفقر والنبذ والحرمان، وهم يخترعون ويصممون ويكتبون ويبدعون، ويتلقون إلهاماتنا تباعا، سيؤول ثمار أعمالهم في جيوب المترفين الفسدة والمستعمرين الظلمة والمفسدين في الأرض، وهذه حكمة مرة أخرى كما يقول المعلم الأخضر.
وحتى تفهم اكثر وضوح الصورة فعلينا أن ننظر إلى ابن الهيثم في سجنه وهو يتفكر في انعكاس الضوء من نافذة زنزانته المظلمة، ليعيد اكتشاف علم البصريات واختراع حجرة التصوير المظلمة، في القرن الحادي عشر عند البشر، إلى التصوير الضوئي، وإلى يوهان هاينريش شولز وهو يلتقط أحرفًا مقطوعة على زجاجة من ملاط حساس للضوء، في بدايات القرن الثامن العاشر، ثم توماس وِجوود بعمل أول محاولة لالتقاط صورة بالكاميرا المظلمة مستخدماً مادة حساسة للضوء، ورقة مع نترات الفضة، في بدايات القرن التاسع عشر الذي نحن في نهايته، ثم نيسيفور نييبس مخترع الكاميرا، حين يتمكن من التقاط أوَّل صورة ضوئيَّة ناجحة سماها “منظر من النافذة في لو غرا”. ثم إلى السعي إلى تطوير طباعة الصور ملحيا أو بالورق السلبي، وعمل كل من لويس داجير، و”وليم فوكس تالبوت”، ثم العمل نحو الصورة الملونة، وما اخترعه كل من لويس دوكوس دو هورون وتشارلز كروس، وما اخترعه الأخوين لوميير، لينتقل البشر في نفس القرن من التصوير الفوتوغرافي إلى التصوير السينمائي، مع عدد من الاختراعات التي قام بها فرانسيس رونالدز وإيتيان جول ماري، وسواهما.
تنهد يوتشيهان قليلا وقد ثبت بث الصور وقال: نعلم أن الأمر يمضي بسرعة، لأن الوعد اقترب، ولكني أعجب من هؤلاء البشر كيف يظنون اليوم أنهم أول من اخترع واكتشف وطوَّر، ألم يتحدث موزيه الفيلسوف في أرض الصين وأفلاطون في القرن الرابع قبل ميلاد السيد الكلمة عن غرف الضوء والانعكاس، ألا يجدون في الآثار من حولهم منحوتات فيها الكثير مما اخترعوه واكتشفوه وما سيخترعونه ويكتشفونه.
في القرن القادم الذي تتأهب البشرية لدخوله، بأحلام كبرى بالرفاهية، ستظهر السينما الصامتة، وسيظهر تشارلي تشابلن وباستر كيتون وهارولد لويد ولوريل وهاردى، ومعهم الكوميديا التهريجية، وستكون السينما الناطقة بأصواتها المسقطة الرديئة جالبة للسخرية في البداية، وسيعجب البشر من تلك الصور التي تتحرك بسرعة مع بعض الموسيقى وهي بالأبيض والأسود، كما عجبوا قبل ذلك للصور التي كان يلتقطها لهم المصور وهم متسمرون في أماكنهم، وكما عجب من كان قبلهم من اللوحات التي تحاكيهم، ثم سيمضي كل ذلك من هذه المشاهد التي تراها الآن سيدي لصاحب الوجه الحجري كيتون وهو يمثل دور صياد فراشات يقع في قبضة الهنود الحمر، أو تشابلن وهو يمثل دور المتشرد، أو تلميذنا جورج ميليس وهو يظن أنه يكتشف بالمصادفة كل مرة تقنية جديدة، وخدعة من خدع السينما كالتصوير بأوقات مختلفة، ودخول صورة بصورة أخرى، وسيرورة القفز الزمني، ليعد ويخرج قريبا فيلما عن القمر الباكي ورحلة متخيلة طريفة، من كل ذلك البسيط المبهر للبشر على بساطته، إلى خدعتهم في الصعود للقمر، ثم إلى هذا الذي أعرضه أمامك مما سنتيحه لهم في زمن قصير، فيحاكون فيه شيئا من تقنياتنا المرقومة بتصويرهم الرقمي وتوظيف الذكاء الاصطناعي، إلى الهوليغرام، والثلاثي الأبعاد، والخماسي الأبعاد، وتقنيات الديجيتال، وأفلام المنتقمين، الأفنجرز، عند اقتراب الأمر، حيث سيحمل أحدها اسم التسوكيومي، نهاية اللعبة.
فنحن نصور وننسخ أعمال البشر ونصور حتى ذراتهم، وكل شيء من حولهم يخزن الصور والمشاهد، الأرض والفضاء والنواة الذرية، والخلايا والحمض النووي، وجلودهم التي ستشهد عليهم يوم الحساب وتبث كل الصور التي خزنتها، وكل ذلك سيكون في الكتاب الذي تحاكيه السينما عندهم، كما تحاكي الكاميرا أعين الحفظة وكل رقيب عتيد.
إنها نظرية وضوح الصورة، من نحت حجري بدائي إلى صورة لا تعكس الحقيقة إلى انطباعية تحاكي إلى صورة فوتغرافية ضوئية نسخت الأصل إلى صورة تتحرك بيضاء وسوداء إلى ألوان أولية إلى ديجيتال وما بعده مما يبلغ دقة عرضه في شاشاتهم ألفا وثمانين بكسل، وثمانية آلاف بكسل، وفوق ذلك.
هي في كل شيء في حياة هؤلاء، من عربات تقودها الخيل، وسيارة كارل بنز البسيطة، إلى قفزة نوعية في سيارات فارهة سريعة ذكية.
ومن محاولات الطيران الحالمة والمميتة أحيانا، كقصة الملهم عباس بن فرناس واختراعاته ومحاولته التحليق بجناحين، ومحاولات إلمر المالمسبوري بعده بقرنين، إلى نظريات فرانسيسكو لانا دي تيرزي بعدهما بقرون، ثم إلى المناطيد والأخوين مونغولفييه، وهنري جيفارد، إلى اختراع الطائرات والسير جورج كايلي، ثم الأخوين رايت، طائرات بسيطة لبشر ملهمين أصحاب عزيمة وأحلام كبيرة، إلى ما سنعلمهم إياه بسرعة رهيبة وقفزات لا يتصورونها، ولم تخطر ببال بشر القرون التي سبقتهم، فتكون الطائرات النفاثة وطائرات الشبح والطائرات الفرط صوتية والمدمرات وناقلات الأسلحة الكبيرة، وطائرات الركاب الفارهة، والصواريخ التي يتحدون بها حتى الخالق نفسه. وننقلهم من الرماح والسهام إلى البنادق ثم المدافع ثم القنابل النووية والأسلحة المعقدة الفتاكة، ولا ينتبهون أن كان لأمم قبلهم ما هو أشد.
وسيحاولون بالهندسة العكسية تقليد سفننا عبثا، وسيعاندون حين يتيقنون أن بشرا قبلهم ركب طائرات وأطباقا أعظم، ويجدون المنحوتات ونموذج طائرة المايا ومطارات البيرو التي كانت قبل آلاف السنوات زمن الأطلنطيين وكانت قبلهم. سيصرون أنهم أول من اخترع وابتكر في تاريخ الكون كله، وسينكرون سفننا حتى وهي تقف فوق رؤوسهم، أنا لم أر في السجل أكثر عنادا واستكبارا وغرورا من هؤلاء.
أوافقك الرأي، قال بيهاردن، لذلك سيظهر فيهم حضرة الغريب بكل ما أودع ربه فيه، وبكل الجيوش السماوية التي معه، بسفننا ومحاربينا وتقنياتنا العلوية، حتى يتحطم غرور هؤلاء البشر، فإن كان أحدهم يعيش فعليا خمسين عاما، تسبقها سنوات الصبا وتعقبها أعوام الكبر والعجز، ثم يخترع كل هذا، فكيف بمن عاشوا آلاف الأعوام، أو مئات السنوات، وكانوا اكبر حجما، وأقوى عقولا، وأقرب لآدم الذي هو في الأصل كائن من فوق الفضاء والعالم الفاني، مخلوق في عالم الكمال اطلع ورأى ثم علّم وكذلك علّم الأنبياء من أبنائه. وكيف للجن والجان وأعمار بعضهم ملايين أعوام البشر، ثم من كانوا قبل ذلك من كائنات أعظم حجما وأطول عمرا وأشد قوة وتقنية، وكيف بنا ونحن أبناء الأزل والسرمد، وخُلقنا كاملين. لكنهم يظنون أنهم وحدهم العاقلون والمخترعون والقادرون، والأكثر عددا وعدة.
أجل، قال يوتشيهان، هو غرور وجهل فيه تركيب معقد، فأنا من قائد من عالم الأفق العالي، كنت قبل خلق كون عالم الفناء كله، وما أزال شابا ويمكن اعتباري حفيد حفيدك مقارنة بسبقك لي في زمن الخلق، وفيلقي فيلق صغير مقارنة بفيالق السماوات العلا وما فوقها، كفيلق الرواحين، ولكن فيلقي يعد ثلاثين مليارا من كائنات عظيمة القوة والقدرة والذكاء، تشرف على كل إلهام وفكرة وحلم ورؤيا لجميع كائنات عالم الفناء التي كانت أو التي بقيت وستظهر.
وكيف ببقية فيلق قائدي المباشر السيد ميكياليان، وعنده جنود في كل نجم وكوكب ومجرة وسديم، وخلف كل نيزك وشهاب وقطعة من صخور الكواكب المندثرة، بخلاف إشرافه على مراقبة جميع البشر والجن والجان والشياطين ومن كان قبلهم منذ بداية الوجود في عالم الفناء وتوثيق كل شيء عنهم بشكل مباشر، تصويرا مشهديا يفوق دقة ووضوحا كل ما سيكون لدى البشر حتى بعد ظهور حضارة السيد الغريب. وعنده فيلق الآليين بأعدادهم التي تفوق أوراق شجر غابات الكواكب وقطرات مياه محيطاتها، وفيلق العادين المحصين لكل عدد، وفيلق المعقبات وفيلق الحفظة، الذين يقومون بالحفاظة العامة والخاصة، ومراقبة كل الكائنات من سمك البحر إلى النمل إلى الطير إلى قطعان الجواميس وهي تعبر النهر، في تنسيق مع بقية الفيالق النورانية الأخرى، كفيلق الأرزاق والأعمار، وكل ذلك مسجل في السجل، رزق كل نملة أو طائر أو دابة، ومستقرها ومستودعها، واسمها ورقمها، وكله سابق في علم الله مدون في كتابه العظيم ولوحه المحفوظ بقلم قدرته، ولا يكون شيء منه إلا بأمره.
وكله يحفظه المعلم الأخضر قبل خلقنا جميعا، لأنه قلم الله.
إن هؤلاء البشر الفانين، رغم تمسكهم بعالم الفناء، القليلين بالرغم من توهمهم أن أعدادهم أكبر وأكبر، الضعفاء العاجزين، رغم توهمهم مطلق القوة، الذين يجهلون ما لا يتصورون أنه يجهلونه، ويظنون في كثير مما يعرفونه، رغم غرورهم حتى ان قائلا منهم سيقول في قادم أن الرب ليس سوى سد للثغرات وأنهم فهموا كل أسرار الملكوت وألغوا وجود الخالق، إن هؤلاء الجبارين إذ بطشوا، المغرورين إذا علموا، قد مكر بهم ربهم، وأملى لهم بالكيد المتين، ليتحدوه، ويكفروا به، ويفاخروا بشذوذ أهل سدوم، وبكل رذيلة يصورونها وينشرونها بتلك الاختراعات التي تعب من أجلها أجيال من المخترعين والعلماء والفنانين، مستغلين وصلة من عالمنا سيمسونها الانترنت، هي محاكاة بدائية لنظم التواصل بيننا والتي تتيح لي أن أكون في عقل كل جندي من فيلقي وأن أنظر بعينيه وأسمع بأذنه، وكذا كل قائد اعلى أو أدنى، وغيرها من أمور أنت أدرى بها مني. وسيكون الذكاء المصنوع وعالم الكم الذي نريهم منه بوارق صغيرة، وشيء من أسرار الأبعاد والبوابات والثقوب السوداء والثقالة، وفيزياء الكون وكيمياء الوجود ورياضيات التكوين والتشكيل، وما سيكشفه صاحب النسبية مما سنكشفه له ومما سيظنه ظنا، كل ذلك مع تطور الأسلحة والثراء الكبير والمال الكثير الذي يمدهم به ضمن وعد الآخرة ليكونوا أكثر مالا وبنين ونفيرا، سيسبب عندهم حالة جنون عظمة تفوق من قال أنا ربكم الأعلى.
حتى إذا اكتمل السيد الغريب وتمظهرنا أمام أعينهم، ورأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا.
إن السينما بابنا لإيصال رسائلنا إليهم، وبابهم لتزييف رسائل للبشر، وللتلاعب بالعقول وغسلها، ونشر كل رذيلة ومفسدة، ولكننا نمكر بهم من حيث لا يشعرون، ونبث ما نريد ونوهمهم أنهم يطورون ويصنعون، ونعطيهم بعض هباء مما عندنا من آليات وقدرات، حتى ذلك الذكاء المصنوع وحواسيب الكم، كل ذلك لعب أطفال قياسا بما عندنا، كما قال بعض كبار علمائهم عن سفننا قياسا لطائراتهم.
والسينما أيضا باب لنوصل ما نود لحضرة الغريب حتى نساعده في استعادة ذاكرته، وسوف نصمم لذلك أفلاما وصورا متحركة نعدها بعناية ومكر.
أما نهاية خط الزيف فعمل ستقوم به سفننا وكل فيالق السفن، وهذا تسمعه من قائد الفيالق الآلية وقائد منظومة السفن الطائرة، حيث سينكرون أمرها أولا، ويحاربون من يتكلم عنها ويكذبونه وقد يقتلونه، ثم يعترفون وينهارون وينتهي زيفهم مع اقتراب تحقق الوعد، وتظهر لهم بشكل أكبر وأكبر، حتى يؤذن لها بالتدخل المباشر، تحت قيادة سيدها الذي مكثت في انتظاره، بكل تشكيلاتها، بسر الطير الصافات ويقبضن قد أمسكهن الرحمن حتى يأتي الأمر والميقات.
جميلة هذه السينما يا يوتشيهان، فهي تحتوي جميع الفنون، من موسيقى ورواية ومسرح ورسم، مدمج في التقنيات والمونتاج، ورائعة هذه المشاهد التي قمتم بتصميمها هنا، وسوف تمنحونها تباعا للبشر، وتطورون من قدراتهم وتلهمونهم من حيث لا يشعرون. قال بيهاردن بصوته العميق الهادئ. فلقد قضي الأمر بتحويل الرؤى، وهي من فنون سينما الرواحين التي نبثها في روع البشري وهو نائم، إلى رؤية تسمى سينما، فحلم الملك في قصة النبي الجميل وأثره على مستقبل مصر حينها، سيتحول إلى أفلام تؤثر على مستقبل الكوكب كله ليظهر الملك المنتظر.
وبعد مرحلة أولية أعيد فيها اكتشاف شيء مما كان عند البشر من قبل، وعند غيرهم قبلهم، سيتم تزويد ذرية آية الدم من الأمة المعدودة بتقنيات تصوير وتصميم عالية، تحمل لهم مشاهد حقيقية من عوالم السماء، ومن القادم إليهم، وحتى من نهاية النهايات، وهم يظنون أنهم يلعبون، ويحتفلون، ويقدمون لبعضهم الجوائز في العلم والأدب والاختراع والاكتشاف والفن خاصة السينما.
فعلا عملكم رائع.
فرح يوتشيهان بكلام آمر الرواحين، وقال: مساعدي بحب رجلا ملهما اسمه تسلا، هو شاب الآن، وسنعلمه الكثير، هندسة وفيزياء واختراعا، خاصة عن أسرار الطاقة والكهرباء والمحركات وشيء من تاريخ البشر وغوامضه.
أما أنا فاخترت بشريا سوف يسمى ستان، سنلقي في روعه صور أبطال خارقين وقصصهم، ليكون كل ذلك إشارة للمختار الموعود، وسيزداد الأمر دقة وجودة بتسارع كبير لا يكاد أحد منهم يستطيع مواكبته، كلما اقترب الظهور.
وسيكون مثيرا للسخرية أن يظن المغرورون من البشر أنهم يتحدون الله بإظهار خلق لم يخلقهم، وهم لا يعلمون أنهم يصفون قليلا مما خلق.
وسيكون الكائن الخارق الذي يسقط من كوكب كريبتون، أجل كوكبنا هذا، سنجعله في قصة تحكي عن اندثاره، وعن كال آل ينزل في سفينة ليكون الناجي الوحيد، ويربيه بشريان، ثم يتحول إلى ما يسمونه سوبرمان، يعتقدون الامر مجرد خيال جميل، ولكنه وصف دقيق للوحش الأعظم المخفي في الرجل الذي يلبس عليهم ما يلبسون، فيُقضى الأمر ثم لا يُنظرون، وتنتهي الهدنة التي دامت تلك القرون، وتنكشف كل حقيقة، مهما تلاعب بها الماكرون، فيرتقي في الأسباب ويركب السحاب، ويحول الجبال التي تعترضه إلى طرق، ويكون بقدرة الواحد من رجاله أن يقتلع جبلا بيديه لو أراد، أو ينسفه بسيفه، كما قال صادقهم، والفرق بينه وبين ذلك السوبرمان أنه سيقتل نفسه ويولد في جسد بشري، دون أن ينجو من كوكب وتحمله سفينة ويتنكر في هيئة صحفي يقع في غرام زميلته.
وسنجعل اسم المختار في عدد كبير من الأفلام، نسميه نيو في المصفوفة، وثانوس وهولك المدمر، في المنتقمين، والرجل الخارق، وفلاش السريع، ورجل البحار، في عصبة العدالة، وغير هذا كثير، يرمز كله لرجل واحد، ألهمنا نوستراداموس كلمات ومشاهد عنه، كتبها ولم يفهم مصدرها، وهو يصف صاحب عمامة زرقاء، لم ير أشد رعبا منه.
وقد صممنا قصصا كثيرة لأفلام سينمائية ومسلسلات، ورسوم تتحرك، فيها معطيات مهمة عن فنون السماء وطرق كائنات النور في القتال، وطرق كائنات النار وكائنات الظلام، وعن فن الختمات، والمحاربين الآليين، والتشكل، وكل القدرات التي يمتلكها الوحش الأعظم. بل حتى عن أسماء عدد من قادتنا وفيالقنا، وملابسهم وهيئاتهم وقواهم، لتكون صدمتهم رائعة يوم يرونهم جميعا وقد أحاطوا بكوكبهم الصغير، يوم لا بشرى للظالمين، ويقولون حجرا محجورا.
ابتسم بِيهارْدَنْ ليوتشيهان وهو يقول له: أعجبتني قصة الكيوبي ذاك والفتى الذي يسكنه، صاحبنا الغريب سيفهم الرسالة بلا ريب، وسيكون مفتاحه ليتواصل مع الوحش الذي يسكنه للمرة الأولى.
أجابه يوتشيهان: وسأضع اسمي فيها كبصمة خفية في مقاتلي يوتشيها، وسأسمي البطل باسم مساعدي هذا، “وتوران”، مع عكس حروف الاسم.
وعند اقتراب الوعد بأعوام قليلة، سنظهر لهم الكثير من سفننا، ونلقي في قلوبهم الرعب، ويقوم فيلق الإملاء الكيدي بتقوية طاقة الغرور وادعاء القدرة لديهم، حتى يقول قائلهم بلسان الحال أنهم حلوا مكان الرب الأعلى، وبلسان المقال من أشد منا قوة، وسوف نبث في أذهانهم وأفلامهم وهم القوة المطلقة، ونعطيهم شيئا من نظم الذكاء المرقوم المستقل بوعيه وإدراكه، ليكون عندهم رقميا، وسنتسلل خلفه بهدوء، لأن حضرة الغريب سيتحكم في كل ذلك بطقطقة أصابعه فقط، ليتحقق ما في السجل، تماما كما تمت كتابته.