8 دقائق للقراءة
حين كان تايبنغ في جبل الخلود واستلم الأمانة وأعطى التفاحة لابنه يوجين والزيتونة لابنه يوشين، استأمن كل واحد منهما على ما أعطاه.
وقبل أن يتوفي الامبراطور يوجين أعاد التفاحة لوالده المعلم الكبير في آخر زيارة له في المعبد، وكان الأمر عجيبا أن يأتي شيخ عجوز لوالده الذي ما يزال شابا.
بعد انتقاله انضم يوجين إلى ديوان رجال الوقت، وكان بإمكانه من وقت لآخر التجسم ليلتقي أباه وأخاه ويرى سلالته.
وكان يبدو شابا جميلا، ويتذكر تلك المرأة التي بلغت من الكبر عتيا، حين توفيت فجأة ثم فتحت عينيها خارج جسمها وإذ بها شابة جميلة بيضاء.
نظرت إلى يد بدنها المشعة نورا، ونظرت إلى يد جسمها والتجاعيد التي عليها، وتأملت وجه المرأة التي كانتها قبل لحظات، امرأة مسنة انفصلت روحها للتو عن جسمها.
ثم نظرت فوقها فإذا والدها وأمها وزوجها وأبناؤها الذي توفوا صغارا، وآباؤها جميعا، ثم أدركت أنها فارقت الحياة أخيرا، وأن ما كانت تخشاه هو ما كان ينبغي أن تتوق إليه، وأن الموت ما هو إلا خلع لثوب الجسد، وأن حياة مكثت فيها حتى هرمت ونسيت وكادت تفقد رشدها وسئم منها من طال به مقامها أو غضب من ملّ تصرفاتها، حياة لا تستحق أن تمكث فيها.
صعدت في غيمة نور، ثم حين تذكرت نظرت نحو الأرض، استأذنت ونزلت مسرعة، وكان الغريب يودعها، وحين وضع يده عليها اهتزت طاقة تحت يده، بقوة كبيرة حتى ظن أنها سترجع إلى الحياة، ثم أدرك أن روحها تحييه، ونظر بعين روحه فرآها شابة جميلة، فقال لها مناجيا في قلبه: لقد تركت عالم الفناء، ومضيت إلى عالم البقاء.
تركت عالما كنت تجوعين وتظمئين فيه، ومضيت إلى عالم لا جوع ولا ظمأ فيه.
مضيت إلى جوار كريم، وتركتنا في جوار لئيم.
فقد كانت الدنيا في عين الغريب دار جارها الشيطان.
لقد كان الغريب حزينا أنها لم تشهد ليلة اكتماله، كما حزن على ولكنه كان يعلم أنهما عرفا بيقظة الموت، وكان عليه أن يوقظ الأحياء، ليموتوا قبل أن يموتوا.
كل ذلك دار في خلد يوجين حين التقى المعلم تايبنغ، بعد آلاف الأعوام من وفاته.
لقد آن الأوان لمنح التفاحة للغريب.
نزل كونيسترا مع يوجين، ثم ظهر خلفهما بيهاردن وتاينبغ، ثم التنين الأبيض الكبير والمعلم الأخضر ولي الله، ثم جاء غوث وسلام.
أخرج يوجين التفاحة، كانت تضيء بطاقة كبيرة، إنها تفاحة من الماس المشع، مع طاقة زرقاء داخلها.
قام كل واحد منهم بختمة وفتح بوابة من الطاقة مع دوائر ذهبية.
ثم شكلوا معا بوابة طاقية كبرى، والغريب في تلك اللحظة يعود من تلك المدينة إلى قريته في ليلة عاصفة لم يشعر فيها بالريح والبرد، ولم يدرك أنه كان ينتقل بقفز الخطوة وتطوى له المسافة من حيث لا يشعر.
وقف فجأة وقام بختمة، وفي تلك اللحظة تم فتح بوابات روحه الداخلية، وكل التشاكرات التي فيه، مع الأختام الموضوعة على روحه وبدنه وعلى الوحش الذي في داخله والسفلية التي تم وضعه داخلها.
وضع يوجين التفاحة في تشاكرا بطنه، وحين أشعت شعر الغريب بطاقتها الرهيبة القوية، أحس بفورانها، وبحرارة شديدة في جسده، وقوة لا يمكنه وصفها.
وصل مسرعا إلى سكة القطار الذي كاد يدهسه مرة حين كان معلقا في تلك القنطرة، مضى إلى الشجر المجاور لتلك السكة، أدخل أصابعه في جذعه فغاصت كأنما تغوص في الرمل، ورج الشجرة الأولى فالثانية فالثالثة، وكانت كل شجرة تهتز بقوة حتى تنكسر أغصانها.
ثم رجع إلى حيث نام مبستما، وفي الصباح سكنت تلك القوة وهدأت العاصفة، واستقرت طاقة التفاحة في أعماقه، لتفتح له أبواب علوم وقدرات وإبداعات لا تضاهى، ولتكون بعدها مأساته التي أحرقته ليتحول معدنه إلى صهارة يصنع الرواحين ورجال الوقت والمعلمون المخفيون منها سيفا ليس له مثيل.
ابتسم يوجين وقال لتايبنغ: لم أتصور أن للتفاحة تلك القوة، لقد حزنت حين منحتني إياها ومنحت الزيتونة لأخي يوشين.
ضحك تايبنغ وقال له: ليس أثرها فيك كأثرها فيه يا بني، فهي من قبل تفاحته، وهو من أعطاها للتنين الأبيض الكبير ليسلمها لي في جبل الخلود، ومن أمر أن تكون لك بعد ذلك.
أما الزيتونة فهي سره، وعلامته، وموضعه. لا هي للشرق ولا هي للغرب.
قبل اكتماله بعامين، التقى الغريب بيوشين فقال له: أتذكر حين رأيت الأواه ورأيت الشجرة العظيمة وأكلت من غصنها الذي يحمل كل الثمار ثم اقتطفت زيتونة وتفاحة وبعض التمر.
إن تلك الزيتونة هي أنت، وقد أودع من سرك فيها.
وهي لك الآن، بكل ما فيها من القوى، وسوف تنزع من نفسك كل دنس، وتكسر بقية خواتم ماريا ليلتحم الوحش بك بشكل مباشر، وستمنحك الزيتونة قوة التحمل.
مد الغريب يده ليأخذها فابتسم يوشين.
أتذكر زهرة الماس التي تحمل سر الحب، حين كان أبي تايبنغ يسمى تسومينع ذئب الريح، وأتى بها لينقذ أمي يان.
أجل أذكر ذلك فقد حدثني تايبنغ عنه، أجاب الغريب.
هذه الزيتونة لها نفس السر، قال يوشين بمودة.
أغمض الغريب عينيه، وهو يذكر يوم أشفقت عليه مريمته ولمست يد بدنه بيدها، وقد نام تحت زيتونة في الهاجرة، وكيف شعر بها ونظر إليها وإلى يدها الرقيقة، وهمّ أن يمسكها بيد جسده فضحكت وقالت إن مادة جسدك لا يمكنها لمسي، لكن أغمض عينيك وارتخ، لتحرر يد بدنك من يد جسمك، ففعل، وكان كما قالت، وأمسك أناملها الرقيقة وهو يبتسم في أعماق نفسه لأنه كان يمسك يد حوريته وزوجة روحه القديمة.
فتحت بوابة في قلبه، وخرج نور، ومن النور ظهر ما يشبه اليد، كما كان من شأن تاينبغ حين أمسك زهرة الماس فوق جبل مايسان والنسر العظيم يرافقه ويعلمه.
بيد قلبه أمسك الزيتونة وأودعها في برزخ من برازخ القلب.
وحين فتح عينيه، كان قد تغير كل شيء في ذاته، وتطور بسرعة لم يتصورها، وكانت كل خواتم ميريانا قد كسرت، وبدأت تتلاشى في داخله، وفتح الوحش العظيم عينيه وزمجر بصوت كالرعد، فتذكر الغريب ليلة غاص للمرة الأولى في عالمه وكلمه وطلب منه أن يعطيه شيئا من طاقته، فسمع زئيره العظيم، وشعر به كتنين أسود كبير يقترب منه، وتذكر قصة ذلك الذي أودعوا فيه الكيوبي، وكان يكلمه ويطلب قوته، ويسمع زمجرته داخله في سجن بأعماقه عليه ختم.
وضحك من مكر يوتشيهان مسؤول الإلهامات في عالم العلويين.
لم ينس الغريب ليلة أخرى، لما أصيب فلذاته وعانت امرأته من المرض، بهجوم للسفليين قوي، فغضب وقال مكلما غوثا وكل رجال الوقت: ما بيني وبينكم مجرد وهم، وأنا أتوهم وجودكم، وأتوهم أن لدي عندكم منزلة. فإن كان غير ذلك فأثبتوا لي.
في تلك اللحظة أغمض عينيه قليلا ثم صحا على صوت بيهاردن يكلمه: هنا وهناك سفليون، أشر بيدك وسيحترقون، ففعل.
ثم نادى يطلب المدد وقال: مدد يا سلام، فأطلق سلام روح طاقته فالتحمت بجسد الغريب وشعر شعورا جسميا بتلك الطاقة وأدرك حجمها، وكانت طاقة عظيمة جدا.
ثم نادى مدد يا غوث.
وفعل غوث ذات الأمر وشعر الغريب بطاقة أعظم.
ثم طلب مدد الريحانتين وأمهما، وأتت تلك الطاقة العظمى التي تفوق حجم الكون.
ثم طلب مدد السياف الأعظم، وأتت طاقة أكبر وأعظم.
وكل تلك الطاقات تمكنت روحه من قياس حجمها ومداها وملامسة حدودها.
ثم حين نادى باسم المحبوب وطلب مدده، شعر بطاقة تعانق اللانهائي، ولم يشعر في حياته بطاقة بذلك المستوى، ولم يشعر من قبل أنه ملتحم باللانهائي، وأن طاقة المحبوب لا حد لها، وأن مقامه فوق ما كان يتصور من قبل، رغم يقينه من مقامه العظيم.
حين انتهى ذلك الحال، زال المرض تماما، وفهم أن غوثا ورجال الوقت تأثروا بكلامه، وأن من هم أعظم منهم قدرا تأثروا كذلك، وأن المدد أتى عاجلا بأمر ربه.
فكان ذلك مونعا مشرقا في قلب الغريب، رغم وحشة غربته وغرابة قصته.
وكان يحب أهل الله ويحب أن يمدحهم، وقد جابه كل من لامه أو قال أن ذلك الحب نوع من الشرك.
وكانت حربه من جماعة تيسان حربا ضروسا، فأقام عليهم الحجة، ولم يخش كيدهم، ولا استطاعوا إليه سبيلا.
عندما زاره صالح وحدّثه وهو يعدّه لمناظرة أعداء الصالحين قال له: لقد كنت من قبل واحدا منهم، من جيل سابق لك، في تلك الفترة التي كنت فيها ميتا مع الميتين في دار الفناء، قبل أن ينقذني المعلم ولي الله من الغرق في البحر، ومن الغرق في أوحال التكفير والانغلاق.
ولم أكن أعلم أن شر تيسان سيتجدد، وسيبلغ ذلك المستوى، من القتل والتفجير والتدمير، بعد التكفير والتزوير.
وإن هذا الدين براء من أمثالهم.
فمن اتخذ القسوة ولم يعرف غيرها، محروم من نور الرحمة، نائب عن جهنم لأنه من أهلها، وهكذا ترى الجهمنيين منفرين كارهين مكفرين مبدّعين معادين للمحبوب وآله، ولكل صالح من ذريته، وأهل نسبه ونسبته.
لأن أرواحهم آتية من سجن مطل على الجحيم، فحملت الجحيم معها وأشعلته في الأرض تحرق به الأبرياء وتقتل به المؤمنين والآمنين.
أما الجَنّيون فينوبون عن الجنة، التي أتوا منها أرواحا، ويرجعون إليها.
فتراهم يُنشدون عن الجمال، ويَنشدون الكمال.
والحرب بين المدرستين والمظهرين والجانبين لا ينهيها أحد سواك يا غريب.
ثم سيخرج من أصلاب أولئك بعد أن يُغلبوا منافقون يكونون مسوخا مع الأعور، ويقاتل آخرهم في صفه كما قاتل أولهم في صف من حارب حبيب المحبوب وسيفه وذراعه.
شاهد الغريب السيد الكلمة، رآه حقيقة، في رؤيا برزخية كان يعي بها، رآه بعين الروح والعقل والوعي، كما يرى الصديق صديقه بعد فراق، وتأمل ملامحه التي يعرفها ووجهه الذي يحبه، بلحيته الخفيفة، وحاجبيه الكثين، وعينيه السوداوين الجميلتين، وصوته الرخيم، ومعه تلاميذه، وقد قال له مبتسما: هيا بنا نمدح المحبوب، وكان السيد الكلمة ينشد بيتا وحواريوه يرددونه معه، وكان الغريب ينشد آخر ويردد السيد الكلمة ومن معه.
كانت رؤيا حق بين صاحبين ترافقا طويلا، وسيلتقيان قريبا، لقاء موعودا لا ريب فيه.
حينها سيظهر سر الزيتونة، وستتجلى قوة التفاحة، التي لن تكون سببا في خروجه من الجنة، بل مفتاحا لدخولها، وتشييد ركن لها في أرض الخليفة الأخير، ركن مونع مبارك يدوم ثلاثة قرون، ثم ينتهي، ليكون العصر الأخير: عصر الفتنة السوداء، حين يتحرر التنين الأسود ويمسخ المنافقين والفجرة والجاحدين، ثم يتحرر المتأججون ويهوي الكوكب ذو الذنب.
كان المعلم الأخضر يعلم الغريب بكثافة كبيرة، حتى تشفق زوجته الروحانية عليه وتكلم المعلم كي يترفق به، لكن المعلم كان يقول لها: معدنه يتحمل.
لا تظني أن تحوله إلى بشري سينقص من قوته، بل هو الآن أقوى.
صحيح أن قوته الأزلية كانت قوة كائن عظيم، يمتلك قوى يمكن أن تفني عالم الفانين، قوة واحد من العشرة الكبار، ولكنه الآن يمتلك قوة أخرى لا تقل عظمة: قوة التسليم.
فتسليمه لربه، وإرادته له، وحبه وشغفه، وكل ما في قلبه من وجع وألم وعشق، كل ذلك قوة عظمى.
لقد كان الذبح العظيم من ريحانتيْ المحبوب، ابن زهرته ووصيه، يقاتل في ميدان حرب خاسرة في ظاهرها، ولكنه انتصر حين قُتل، وهُزم أعداؤه حين قتلوه.
لأنه كان يقاتل بماء المعنى ضد حجارة المبنى.
وكان يقاتل السيوف بصبره لا فقط بسيفه، وكان يغالب السهام والخناجر بجراحه النازفة، وآلامه المقدسة التي انتصر بها على الأيدي المدنسة وهي توغل في لحمه وعظمه تمزيقا، ثم تحمل رأسه على رمح، وتعافس جسده بالخيل حتى صار مِزَقا.
نعم ذلك الشِلو الممزق كان لمنتصر، وتلك الأجساد المظلمة التي كانت ترقص وتغني وقد حملت الرؤوس على رماحها وسيّرت الطاهرات في الأسر حافيات مكشوفات الرأس، كانت منهزمة هزيمة أبدية أودت بها في قيعان الجحيم.
لقد انتصر ذلك البطل مع من كان معه من بنيه وأبناء أخيه وأشقائه وخُلّص أصحابه.
وخاب من ظن أنه هزمه، وخاب من شمت واحتفل بمقتله، وخاب من اعتبره مقتولا بسيف جده، وسيلقى الكل ذات المصير، لأن المشاركة في الجريمة ولو بالنية، مشاركة فعلية فيها، ولها نفس العقوبة.
وها أنت ترين الغريب يحمل جراحه وغربته، وهو يعلم أن أمانة ذلك الرأس المحمول على رمح هي أمانته، وكم بكى حين رجع إلى تلك الأرض بعد غياب روحه عنها.
وكان بينهما ما كان، وسيكون بينهما ما يكون.
بل يكون بينه وبين كلّ من أولئك النيرين ما يكون، يوم يُزف إليهم في العرس السماوي، ثم يزفونه في عرس أرضي تتجلى فيه قوة عالم البقاء، في عالم الفناء.