3 دقائق للقراءة
حين لا يمكن للقلب ان يتنفس…تختنق الكلمات.
حيث يدفن الحب..ينبت جليد الحياة…ويتسرب الموت كأفعى مبصرة في ليل أعمى!!!
قال لها: أحببت ان انظر في عينيك مليا..علني أرى وجهي مختلفا..او عسى ترينني كما اراك…
كانت الغربة قاتلة…وكان الوطن غريبا…الشارع الذي لا ينتهي..والشاعر الذي لا ينثني…والرغبة المحمومة في العشق والشعر والفراش..
تذكر أنه لم ينم منذ يومين..لم يغمض له جفن…فراش…أو فَراش..راى سريرا يطير…حاول اللحاق به..طار قليلا..فجأة..وجد الأرض تنزل من تحته بسرعة..صارت بعيدة جدا…كان الوادي عميقا سحيقا….صرخ….والرغبة في العشق والشارع…قال لها…وعيناها قط أسود…مخالبه في عينيه..دم ينبعث من نظراته…ووجهه مختلف جدا..صوت ينبعث بالقرب منه..قطرات كأنها ماء…والبرد يشتد أكثر..هنالك….حيث يدفن الحب…وينمو الجليد….
*******
اسمه (غريب)..وحين أصبخ الناس ينادونه بذلك الاسم الغريب: شاعر…ازدادت غربته…
في أحد الأيام استيقظ باكرا…أمسك القلم وخط به على الورقة:
لأني أردت الحياة كثيرا
أراد لي الموت عمرا قصيرا..
لأني رضيت….
ثم توقف عن الكتابة…
شطب كلماته تلك جزئيا..بخطين عريضين..ثم كتب:
لأني أردت الحياة قليلا…
أراد لي الموت عمرا طويلا..
لأني رضيت…
بماذا رضيت؟؟؟؟
ظل يسأل نفسه ما الذي يرضيه…لم يكن في حياته شيء يجعل العمر القصير مختلفا عن الطويل…المديد…الممتد….لا فرق البتة…وهو لم يرد الحياة كثيرا ولا قليلا..أراد فقط في ذلك اليوم أن يكتب..لكنه لم يجد ما يرضيه..لأنه لم يجد ما يغضبه..فهو غريب..ابن القرية النائية…درس وتعلم…وهو الان يستعد للسفر إلى تلك المدينة لإكمال الدراسة…حياته بسيطة جدا…لكنها لم تكن تعني له الكثير…بقدر ما كان يهمه أن يشعر بقيمتها..
*******
منذ أن تعرف إليها صار لحياته معنى…كان يحب أن يعيش طويلا..يغضب لكل لحظة من لحظات بعدها..ويرضى منها بالقليل…يتنفس عطرها…ويختنق حين لا تبتسم….
قيل أن غريب ابن غريب…غربي الفكر..فهو يعشق ويجاهر بعشقه…
قيل أن غريب ابن غريبة..بلا وطن…لأنه غربة تمشي على ألف جرح…
قيل أن غريب ابن الأرض والمطر…اختفى..بعد آخر مظاهرة..
يوم وصل إلي الجامعة…كان يحس بغربة رائعة..غربة الاختلاف…وبرغبة جامحة..في التعرف على اكثر عدد ممكن من الطلبة…يحاورهم..يقرا لهم قصائده التي لم يقراها على احد سواه من قبل….
تعرف عليها مصادفة…مشت أمامه وشعرها يشاغب كل من يمر بجانبها…عطرها دمر الأرواح وتوغل فيها…وضحكتها أجبرت الشمس على البكاء…
أحبته منذ اللحظة الاولى..لم تكلمه..استرقت السمع لقصائده..راق لها..اعجبها…رغبت في أن تكون ملكة قصائده…تلك القطة المدللة…كانت تحب أن تصيب العالم بالجنون..وتحب اكثر…أن تجن…
مجنونة “غريب”..كتبت على كراس لها….ومرت ذلك اليوم أمامه..حاولت أن ترى بشعرها كيف تعثر خلفها..كيف عبث به سحرها..وفتك به عطرها…وقضى عليه شعرها…
في المكتبة جلس بجانبها متظاهرا بقراءة ديوان شعر…سألته عن الساعة..لم يكن في يده سوى الحيرة…نظرت إلى ساعتها…قالت أنها مصابة بالدوار..وأنها تحسب الزمن خطأ دائما..قال لها: ربما أنها محقة..فسنة مع الحبيب تعتبر ثانية..وثانية في بعده..كأنها سنة..ومكث يشرح لها الفرق بين الزمن العشقي والزمن الشوقي…العشق والشوق ويده تلمس يده وتيار يسري بينهما..الشَّعر والشِّعر..ونظراته تلتقي بنظراتها عيناه تهمس لعينيها..وقصة حب ولدت من رحم الجبروت..
حب جبار جمعه بها…حاول أن يذكر اسمها..لم يستطع…نظر إلى يده..لم يبصرها..صدى ضحكتها…عطرها وعطن المكان…لم يستطع التنفس…قال لها: دعيني أنظر إلى عينيك..كتب لها قبل الوداع: حيث يموت الحب…تلك الرسالة أوصلها إليها..اهلها رفضوه…أو ربما أهله رفضوه…وهي لم تعد كما كانت..انشقت الارض تحته…كان في مظاهرة…صرخ: يسقط الطا…..ظل يبحث عن بقية الجملة: يسقط الطا…ووووس….يسقط الطا…بور…يسقط..الطا…ولة..
على الطاولة في المكتبة جلس معها..حدثها عن الطاووس…جميل جدا..لكنه حين ينظر إلى ساقيه يبكي لبشاعتها..إنه هو…جميل جدا..ريشه قصائده وحبه..لكن ساقاه الفقر والغربة….وفي الطابور وقف في المطعم الجامعي….كانت المرة الأولى في حياتها..رأت بشرا مختلفين..حاولت أن تأكل من ذلك الطعام..ثم اكتفت بالنظر إليه…
قيل أن غريب اختفى منذ سنة…لم يره أحد..جاءت تلك الفتاة إلى بيتهم..كانت ثرية جدا..قالت لأمه…ابنك بطل…اختفى بعد مظاهرة ضد النظام…قالت أمه: ابني يحب النظام الكثيرا..انه منظم جدا في كل شيء..ابتسمت شيماء رغم حزنها: أعني ضد الجاكم…ضد السياسة..ضد القمع والظلم..كانت مظاهرة سلمية..وكان قائدا بالفطرة..لكنهم أخذوه…منذ أسبوعين…
سنة مرت…قال الجلاد للسجان..أتظنه بعد كل التعذيب والتخدير سيذكر حتى اسمه..لقد وضعنا بجانه آنية يقطر فيها الماء..قطرة تلو الأخرى..وكم خدرناه…أرأيت مصير من يظن أنه عبقري..السيد الرئيس أوصى بالحزم….وبكل حزم ضربناهم..قال طلبة…
سمع هتافا…”الشعب يريد إسقاط النظام”..فتح عينيه…لم يبصر شيئا…
تعالت الهتافات….صوت رصاص…ظلام وبعض الضوء….يد تفتح الباب: أهلكهم الله ماذا فعلوا به…فر الطاغية…ورجع الوطن..والان سيتحرر غريب…
أيام في المشفى قضتها بلا نوم..تضع يدها على يده..قال الطبيب أنهم عذبوه وحاولوا قتله..ثم عذبوه وخدروه وحاولوا إصابته بالجنون…حقنوه بالمخدرات مرارا…لكنه سوف ينجو…
كان نحيلا جدا..لكنه هو…بكل روعة روحه..بكل جمال قلبه..بكل شموخ جسده….
حين تزوجها..لم يكن يتصور أن تلك الفتاة المترفة غنية لتلك الدرجة..بالحب..وفقيرة لتلك الدرجة..للحب..لذلك أخذ منها بلا حساب..وأعطاها الحب بلا حساب….
زرع في الحقل أشجار زيتون..وكانت معه…زرع في الحديقة ورودا وأشجار أخرى..كانت برفقته…وحين مضى إلى المدينة معها…كان يدرك أن دم الشهداء أمانه…وأن الوطن يحتاج إلى الأوفياء..لم يعد غريب غريبا…صار لديه وطن..صار وطنا لدى وطنه…
غريب أنجب ولدا..سماه: محمد….
الرواضي
07/03/2011 9:52:50 م