4 دقائق للقراءة
في غرفته الصغيرة المطلة على البحر، جلس حكيم يتأمل الأمواج التي تأتي محملة بالشوق لتنكسر على الشاطئ بسعادة غامرة، وقد تأتي بها العواصف فيتملكها الغضب وتعلو وتحطم وتغرق وتكسّر، ثم ما تفتأ ترجع لهدوئها وانكسارها.
فهي كقلوب العارفين، هادئة منكسرة لربها، فإذا غضبت لله غضب معها كل شيء، ولم يقف في وجهها شيء.
تذكر حياته كلها، تلك السنين التي انقضت ومضت، حتى لم يبق منها إلى شيء من عبق الذكرى، فمنذ ثمانين عام كان في تلك السفينة وعانقه الغرق، ثم أمضى ثمانية أعوام مع المعلم الأعظم، وزار جبل التنين وتلقى معارف في فنون الدفاع وفلسفتها لم تخطر له ببال، وهو الذي طاف شرق الأرض وغربها يبحث عن الفلسفة والحكمة والأجوبة التي تشفي غليل أسئلته، ولم يكن يعلم أن كل ذلك كان يبحث عنه بين حطام السفينة والبشر المغرَقين.
لقد أصبح الحكيم الأعظم وأتاه الباحثون عن المعرفة من أرجاء الدنيا، وورث كل ما كان لرجال الوقت الذين كانوا معه: المسجد الجامع الذي كان يخطب فيه صالح، والتكية التي كان يشرف عليها مريد، والمدارس التي أسسها سرحان ومؤمن، وحتى تلك التي بناها العاشق والشاعر والسكران في المدينة الكبيرة خلف المحيط.
هو الآن قد تجاوز المئة، وزوّج آخر أحفاده، وعنده من المال والكنوز ما يجعل كل سلاطين الأرض متسولين أمامه، لكنه يشعر بوحشة وغربة كبيرة، وترك القصر الذي وهبه له ولي الله في الأرض التي ولد فيها ورجع مظفرا واستقبله سلطانها وأهلها ورأى الفخر في عيني والديه، وانحنى له أستاذه القديم مع عدد من كبار العلماء تقديرا لحكمته المبهرة وفلسفته التي مزجت بين العقل والإشراق والكشوفات والمنطق، ترك كل ذلك وجلس في غرفة صغيرة كانت لمريد من قبل، وكان يعتكف فيها قبل أن تحمله السفينة إلى جزيرة فيها جبل وولي.
لقد عرف أن الدنيا دار فناء وليست بدار بقاء، ولم يكن من المُنظرين حتى يسري الزمن حوله ولا يسري عليه، بل سرى عليه فغير ملامحه، رغم أنه لم يسلبه قوته لأنها قوة من عالم البقاء
لا تطالها يد الفناء.
لقد كان مهيبا بلباسه الخشن الذي اتخذه من الصوف، وبلحيته الكثة الطويلة البيضاء التي كان يمازحها قائلا لها: تذكرينني بحبيبي صالح حين كان سلفوتا وأحرق المعلم لحيته، لكنك لن تحترقي بتلك النار، بل أنا وأنت ستصهرنا نار الاشتياق.
لقد اشتاق إلى إخوته جميعا، إلى سرحان الذي بكى بحرقة حين ضم صالحا منذ عشرة أعوام وهو يحتضر ويقول له: لا باقي إلا الباقي، والملتقى في دار البقاء.
وبعد عامين من وفاته، توفي سكران ذات ليلة ذكر وسكر، رحل سكرانا كما ينبغي له، ليلقى ربه مبتسما، ويشرب من خمور القدس، ويجلس في مجالس الأنس، كما كان يحدث تلاميذه السكارى هياما بالجميل.
وبعد خمسة أعوام ترجل الشاعر عن صهوة الفصاحة والبيان، ليمضي إلى المحبوب مشتاقا، وهو الذي جعل كل شعره أواخر حياته في مدح الحضرة النبوية، ومدح الآل الكرام، وذكر الصالحين أهل الحي، ورجال الواحد الحي.
ولم يتحمل العاشق فراقه فلحق به بعد ثلاثة أشهر، ليترك حرقة في قلوب العشاق، ونارا تصهر أكباد أهل الاشتياق.
مؤمن ومريد توفيا في يوم واحد إثر صلاة الفجر في يوم الجمعة من شهر الصيام وهما يذكران الله في التكية، وقد كانا يناجيان الله ويطلبان اللقاء، وكان انتقالهما بعد عام واحد من انتقال العاشق.
رحلوا واحدا تلو الآخر، راضين مرضيين، وبكت الممالك كلها عليهم، وبكتهم السماء والأرض، وحضر ولي الله مع المعلمين الكبار من رواحين ونورانيين وتنانين لوداع أجسادهم، واستقبال أرواحهم، وسار خلف جنازاتهم الآلاف، وصار قبر كل واحد منهم مزارا، ورآهم في رؤاه مرارا، وكانوا في ملابس من استبرق، خضر وبيض، يتلألؤون كأنهم الجمان.
سرحان حطمه رحيل أخيه، وفراق بقية إخوته، وصار كثير الشرود كأنما رجع إليه الجنون، ولكن ذلك لم يشغله عن القيام بواجبه وأداء مهماته كلها، مع كثرة تلاميذه ومريديه وما ترك له رجال الوقت الراحلون.
قال لحكيم ليلة: أنت آخرنا رحيلا، لقد رأيت الرؤيا البارحة وعرفت من فم المعلم، وقد غاب عن عين حسي ثلاثة أعوام، ولكنه لم يغب عن عين قلبي ساعة.
سأترك لك كل شيء، وفي الأوان المحدد ستعرف رجال الوقت الذين سيحلون مكاننا، إلا صالح فخليفته معلوم.
ريحان سترحل بعدك، لذلك أوصها، وهي ستعرف في الموعد من تحل مكانها في لواء الصدِّيقات.
فلا يرحل منا أحد إلا وحل مكانه آخر، كابرا عن كابر من حضرة المحبوب ووصيه وآله إلى حضرة الموعود الغريب والخلفاء من بعده.
قبل عام فقط رحل المجنون، الذي جُنت به الدنيا وجُنَّ بالآخرة، حبا في القرب من ربه، وشوقا للقاء حِبِّه.
وها هو حكيم يجلس في تلك الغرفة المطلة على البحر، يراقب الأمواج تظهر وتختفي، تعلو وتنكسر، وتحركها رياح القدرة في ذلك البحر الواسع الشاسع الممتد المتلألئ الأزرق المهيب.
إن رجال الوقت كأمواج البحر، هم تجلي بحر القدرة والعزة والكبرياء، تجل من تجليات الحضرة، ولا ينكسر منهم ولي انكسار الفناء، إلا ويظهر لهم ولي.
تنهد ومسح الدمع من عينيه، وفجأة سطع ضوء كبير، وفتحت بوابة نور في الجدار أمامه، وظهر ولي الله وبجانبه توأمه صاحب القرنين، ثم تقدم الروح القديم، الغريب الموعود، وخلفه ظهر القائد بيهاردن، قائد الرواحين، والعظيم مهينديارا والفاضل كونيسترا، ومن خلفهم ظهر المعلم تايبنغ وتلاميذه، والسيد الكلمة وفيلق المنظرين، ثم ظهر الأمين والستة الكبار، وانحنوا جميعا لنور ساطع وهم يقولون: صلاة النور الموهوب، على حضرة المحبوب.
نظر حكيم إلى الوجه الأنور، وإلى الابتسامة التي تذهل لها الجنة وحورها، وإلى عينين فيهما لطف الله وأنسه ورحمته، ومن خلفه ظهر السياف الأعظم والريحانتان، ومجمع الآل والمختارين، ثم ظهرت صفوف من النورانيين تمتد صعودا إلى فوق الفوق، وظهر أمامه مباشرة العظيم مايونداريل صاحب الآجال.
ثم تقدم سرحان ومؤمن ومريد وصالح وعاشق وشاعر وسكران، ومعهم غوث ورافع وعطاب وسلام وراسيليان وقطب ومعين وسامق وجميل وشعبان وروميان، مع بقية رجال الديوان المنتقلين والذين لم يولدوا بعد.
وكانوا جميعا يبتسمون إليه بمحبة وعليهم حلل السرور، وأثواب النور والحبور، ومن خلفهم بدت الجنة وقصورها، ونعيمها وحورها.
قال له ولي الله: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلينا، وادخلي فينا، لندخل بك على حضرته، ونُدخلك جنته.
ابتسم حكيم وردد: لا باقي إلا الباقي، الله حي، ومحبوه بعد الموت أحياء.
ظهرت فراشات في الغرفة، ولمع ضوء أزرق مشع غادر تلك النافذة الصغيرة، ليراه كل سكان المدينة، وحتى الزوارق في البحر، واجتمعت النوارس والطيور، وتقافز السمك واقترب الغيم، ونادى مناد من عالم الغيب: الله أكبر، الله أكبر.
رحل اليوم آخر رجال الوقت في زمانكم، وكلكم بعده راحلون.
ولا باقي إلا الباقي.