أيتها النفس التي تنام في أعماقي مثل ثعبان الماء، وتتحرك بدهاء كأفعى في الرمل، وينتظر شيطانها أن ينقض علي في لحظة كيد كتمساح إفريقي.
كنت طفلا وكنت تختبئين، بعد أن تمت برمجتك، ووضع فيك الفجور كله، وجُعل في بُعد من أبعاد جسدي حواس لك، وإبر تأخذين منها طاقة الشيطان، وأذنا تسمعين بها وسواسه، وصوتا تفحين به في أذن عقلي وعمق وعيي بما يلذ وما يطغى على الحواس كلها.
وها أنت الآن، وقد جاوزت الأربعين، تستمرين رغم كل ما لحقك من دمار بسبب قصف جيوش قلبي لك بمدافع الأنوار، ومن حيرة بسبب إدهاش روحي لك بالأسرار، ومن ضآلة بسبب تعرية عقلي لك بميزان الأفكار، ومن نبذ بسبب هجوم ضميري ونفسي اللوامة، ومن تعب مع كل ركعة وسجدة ولحظة ذكر. ها أنت وقد خبا بريقك وجف ريقك واستعر حريقك وتشتت فريقك ونجا غريقك، وخذلك شيطانك، تستمرين في العواء كذئب جريح، وتريدين لو أنك كنت في فاسق، ولو أنك زُرعت في فاجر، وسكنت في فاسد، وتحبين لو تخلدين في ملذات الفانية، ولو شربت خمر الشهوات كل ثانية، ولو كانت الدنيا كلها لشهواتك آنية، وإن داهمك خوف الموت ارتجفت كما يرتجف المحموم، وتخبطت كما يتخبّط الموهوم، وتأسفت كما يتأسف المهموم، لأنك تعلمين أن الموت حق وأنه نهاية آمالك، وحتم مآلك، وأن بعده فضح أعمالك، ونار هي مآلي إن سلّمت لأفعالك وخضعت لأقوالك، وسُحرت بفتنة جمالك.
فيا نفس يا أمارة بكل سوء، كم صالح يراني بعين الصلاح صالحا، ولست بشيء، إنما ربي ستر قبحك وأظهر جمال الروح، ولم يفضحني بسيء عمل، ولا داهمني بالأجل، ولا قطع من رحمته الأمل.
وكم سيء يراني أسوأ منه، لأنه رآك ولم يرني، وأنا أشهد أنك أسوأ نفس خفقت في جنبي إنسان، فاجرة رعديدة، وفاسقة عنيدة، وجاحدة بليدة. لم يزدك ما أظهر الله لروحي وكشف لقلبي إلا إصرارا على الغي، وإلحادا بخالق كل شي.
ولم يزدك كدّي لأن أكون خادما، وأن لا أغدو يوم الحساب نادما، إلا هروبا من الحق، ومطاردة بالباطل، ولهثا خلف الأوهام.
وإني دعوت للتوبة مرارا فلم تتوبي، وبرئت من ذنوبي فلم تقلعي عن الذنوب. وزكيت قلبي بفضل ربي، وأسرجت قناديل حبي، وأقبلت ألثم الأعتاب، وأقرع الأبواب، وأتخذ الوسائل والأسباب، وأريد أن أكون على غير ما يريد إبليسك ويسعى خسيسك، فأخبريه أني خصيمه، وأني لن أترك حقا لا أقيمه، ولا باطلا لا أطمسه، وأن لله الأمر، وله القدرة، وله الفضل، وهو يعفو ويغفر، مهما يكيد الشيطان ويحفر. وأن الراية ستعلو، والمجلى سيحلو، وسيعطي ما هو له أهلُ.
فموتي كمدا، وتيهي بَددا، فلن أخضع لك أبدا. قد برئت أمام ربي منك، ورحلت إليه عنك، وطرت بأجنحة الروح إلى السبوح. ولسوف يمتزج الطين بالنور، فيحترق الديجور وتموت ذات الفجور، ويظهر أمر قريب، عجيب وما هو على الله بعجيب.
صل أيها القلب اللبيب، على الحبيب وآل الحبيب.