6 دقائق للقراءة
وقف التنين الابيض الكبير ملك تنانين العوالم، والعالون جميعا، من خلفهم جيوشهم، في مجمع الارتقاء، فوق السبع الطباق، يشاهدون بوجل نهاية النهايات، وفي قلوبهم شعور لم يجربه أحد منهم من قبل.
صحيح أنهم آمنون من فزع ذلك اليوم، لكنه يوم عظيم ثقيل وصعب، طال انتظارهم له، رغم أن الزمن مهما تطاول يمر لديهم كأنه اللمح.
كانت كائنات متأججة تنسل من كل حدب وتفترس بضراوة المسوخ البشرية التي لم تعد سوى شياطين من طين لزج.
لقد مسخهم التنين ذو العين الواحدة، حين حرروه بمكر مُكر بهم.
امتلأت الأرض شرا، ولم يبق على ظهرها خيّر.
اقترب الكوكب ذو الذنب، وتساقطت النيازك التي تتبعه، وكانت زلزلة شيبت الرضع، وجعلت كل حامل تلقي حملها، وفر كلٌّ من كُلٍّ، لا يلتفت.
ثم، وفي لحظة، انفجر كل شيء، وكان الانسحاق العظيم.
لقد انتزع القدير روح الوجود بقوة، فأفنى كل شيء.
دُكت الجبال، وسُجرت البحار، وتناثرت الكواكب، وانطمست الشموس، وتفتت الأقمار، وتلاشت المجرات، وتحطمت كرة المادة المظلمة المحيطة بكون عالم الفناء، وفتحت أبواب السماوات.
ثم نزلت طاقة عظمى من فوق، فمات كل من بقي حيا، حتى التنين ومن معه أصابتهم صعقة الموت.
ثم نزل نور الإحياء عليهم فتجددوا، ونظروا الى نور الحياة الخالدة ينزل في العالم الفاني، فيعيده، ويعيد كل من كان فيه للحياة، بقوة وقدرة تحيا بها الذرات وترجع بها الكواكب والشموس وهي أكبر حجما، ويضيء الملكوت ويشرق بالنور الأعظم، ويهطل مطر الخلود، فتجتمع بذور الإنشاء، ثم تتشكل الاجسام، مستعيدة وجودها، بعد أن كانت هباء، إلا تلك المقدسة التي لم تتسنّه.
نظر تايبنغ ومن معه الى أرواحهم تضيء بشعاع قوي ملون، حسب مقامها ومستواها، ثم تسرع نحو أجسادها.
فتح عينيه، وكان المشهد أعظم من أن يستطيع مخلوق وصفه.
لقد كانت القبور مبعثرة، والأرض تتشقق بسرعة، والناس ينتشرون من الأجداث، الأولون والآخرون، الأمم والشعوب، الملوك والعبيد، الأغنياء والفقراء، كلهم كانوا في مكان واحد.
ثم بدت له الكواكب قريبة جدا، كبيرة جدا، نيرة جدا، ومنها كان يخرج كل ميت يتم بعثه، كائنات كثيرة، وأنواع عديدة كانت قبل بشري الطين.
كل ذلك على كثافته وامتداده وتعدده وتنوعه، يبدو لعينه كأنه مشهد واحد متقارب.
أدرك أن بصره صار حديدا، وأن غطاءه قد تم نزعه كليا.
ثم رأى التزييل بين العوالم، رأى كائنات النار تتشكل مجددا، وكائنات الدخان الأسود.
رأى الأبالسة وأتباعهم مصفدين سودا وزرقا.
ورأى المختارين في ثياب الدمقس والحرير عليهم نور.
ومن تبعهم يمشي خلف نورهم، في أفواج لا يمكن لعقله حصرها، وإن كان يعرفها كلها.
ثم رأى الدواب والأنعام، الذئاب والأغنام، النمور والنسور والأفاعي، والسمك كله يطير أفواجا دون حاجة للماء، والطير بأنواعها، كل حمامة خلقها القدير، كل بلبل أوجده، وكل ما كان في الملكوت كله.
سارت قطعان الغزلان وما شابهها، والأبقار وما شاكلها، كأنها الجيوش التي لا يحصيها إلا باريها.
وخلفها كائنات عظيمة قديمة، التي هلكت قبل البشري الأخير، بأنواعها وأشكالها، وما عاصرها في بقية الكواكب والمجرات.
ثم تقدمت أمم النمل بأعدادها الجبارة تقودها أمهاتها الأولى في مختلف الكواكب، كل نملة عليها رقم ولها اسم، تتشابه نملات كل نوع جميعا، ولا تشبه واحدة الأخرى.
ولكل ما رأى وعي وفهم وقدرة.
ورأى الفراش، سحابات كبيرة من الفراش، والناس كالفراش أيضا، أمما، أمما.
كل نوع وكل أمة منها تطير إلى موضع محدد، ثم تلف حول أول ما خلق منها، الآباء الأولون، وتبقى تدور وتدور بلا توقف.
حتى سمعت الصيحة، فتوجهت إلى مكان الحساب.
كل نفس كان معها من يسوقها، ومن يمشي بجوارها.
الجاحدون كانت في أعناقهم الأغلال، وهم عراة.
الطيبون وجوههم بيضاء، ولباسهم كوجوههم.
رأى ألوان ملابس كثيرة، رأى ألوان طيور كثيرة.
نظر ثم شعر بزلزلة، انتفضت الأرضين بقوة، وإذا بكل ما نبت فيها من شجر أو زهر أو نبات يرجع للحياة بألوان أزهى وأحجام أعظم، بدا له أن كل نبتة تتكلم، وكل حيوان ينطق، حتى جلده كان يكلمه.
نزلت كائنات النور واصطفت بأعداد تفوق أعداد المجموعين في المحشر، كما تفوق حبات الرمال وقطرات البحر عدد تلاميذه.
كلها جيوش منظمة مصطفة، ومن فوقهم شعاع لا يمكن النظر من خلاله.
كان المسير طويلا أطول من أيام الدنيا، لكنه لم يشعر به.
انفتحت بوابة في كفه اليمنى وظهر جهاز بث يبث صور حياته مجسمة حية، فنادى مبتسما: هاؤم اقرؤوا كتابيه.
رأى أباه وأمه وزوجته وأبناءه وتلاميذه، ثم رأى أجداده وأحفاده.
ورأى والد البشر وزوجته، كلهم على تباعدهم قريبون منه، يعرف بعضهم بعضا، وعليهم سرور، وملابس من حرير وحبور.
رأى أن الأحجام ليست متساوية، رغم أن حجم الفراشة كان يشابه حجم الرخ، ولكن الآباء كانوا أعظم حجما، والمختارون أيضا، ثم على حسب المقام تكون الأحجام، مع قدرة على تغيير الحجم كما كانت تفعل كائنات النور والنار والدخان في عالم الفناء.
كانت الكواكب تعج بنور الحياة، وكل شيء فيها يتجدد.
وكانت الأرض تشرق بنور القدير، وكل كوكب شهد الحياة وتجددت فيه كان أرضا.
وكانت السماوات مطويات بيمين القدير، والأرضين جميعا قبضته، طي قدرة، ويمين هيمنة، وقبضة قهر، لا يمين أجسام، ولا قبضة تجسد.
نظر فوقه، وكانت لوالب مضيئة كأنها السفن التي رآها في عالم التنانين أو تلك التي رآها مرات في مهمات خاصة في عالم المادة البشرية. ولكنها كانت تنير كأنها الشموس، تتحرك ببطء، ويمكن لكل واحدة منها أن تحمل مجرة بما فيها من الخلق داخلها، وفوقها كانت تطير كائنات النور العظمى والتنانين الكبيرة التي استطاع أن يميز معلمه التنين الأكبر بينها، وشعر كأنه يبتسم له، ويهنئه على الفوز في امتحان الفناء.
كانت ذاكرته قوية بما لم يكن ليتصوره، وكل شيء يفكر فيه يراه مشهدا أمامه، كل حياته وتفاصيلها التي لم يكن ليدركها خلال وجوده الفاني، وكل حياة كانت لمخلوق، كانت له القدرة على النفاذ إليها، ورؤيتها.
أخذت كائنات النور تقود المبعوثين إلى موضع يجمعها كلها في صعيد واحد على مقربة من النار الأبدية وعالمها الشاسع.
نزل ستار من نور، وعليه بدت مشاهد الحياة الفانية كلها، بتفاصيلها، ورأى الأشقياء يحاولون تجنب النظر لما في ستار العرض الشبيه بالسينما في أزمنة البشر الأخيرة.
وكانت كائنات النور الجبارة تجبرهم على النظر ورؤية جرائمهم مصورة موثقة بدقة بعدية متناهية، فمن عمل منهم مثقال ذرة شرا يره، في ذلك الكتاب المشهدي العظيم، الذي لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا وأحصاها، فصاحوا متعجبين، وتمنوا لو كانوا ترابا.
شعر بانقباض قلوبهم، ووجوم وجوههم، وخوفهم الشديد، وتيقنهم أنهم هالكون.
وكانت على ظهورهم من جنوبهم الشمال أجهزة تبث صور ما فعلوا من فساد وظلم وبغي، أحصاه القدير، ونسوه، وكل ذلك مصور مشهديا، لا يستطيعون ستره.
رأى أن الحياة الفانية كلها من أول نشأتها إلى نهايتها لم تكن تساوي شيئا، إلا ما كان منها في خدمة القدير.
رأى من كانوا ملوكا مفسدين، وجبارين، وطغاة، مهطعي الرؤوس، في ذل وهوان.
ورأى الطيبين الذين امتُحنوا بشدة، وتأذوا كثيرا، يتنفسون هواء الخلود بطمأنينة كبيرة، ويفتخرون بمشاهد ألمهم وتضحياتهم وصبرهم وإخلاصهم.
أقبلت ظلل الغمام فتشققت السماء وفتحت الأبواب الكبرى وتجلت الكائنات العظمى مع الفيالق النورانية، صفًّا، صفا.
وظهر السيد العظيم ومعه أهل سره، والمختارون حسب رتبهم، عليهم مهابة، وفي وجوههم نور وضاء.
وبدا المعلم الأخضر في أعظم هيئة له، يضع يده في يد السياف الأعظم والأخرى في يد الطاووس، وهم يبتسمون.
وكذلك الرخ الأعظم والنسر الأكبر والتنين الأبيض الكبير، وأسياد البرازخ العليا وعوالمها، كانوا على أعظم هيئاتهم وأجل حالاتهم.
رأى مقامه في المختارين، ومن خلفه كان أبواه وزوجته وولداه، وتلاميذه.
وكان السرور باديا عليهم بأشد مما كانوا عليه حين كان يبهرهم بحركاته وهم صغار في الكهف، أو كان يضمهم بعد كل فراق.
ورأى أمامه آباءه، وجدّه شايثا، وجد جده يانوحان، والأب الأول.
كلهم يبدون بنفس العمر، شبابا نضرين، وعليهم حلل الجمال التي كتبت لهم قبل خلقهم.
رأى الأولين والآخرين، من ذرية البشري الأخير، وممن كانوا قبله، مجموعين في يوم واحد، وعلى صعيد واحد، في ميقات ذلك اليوم المعلوم.
تحرك الستار الأزرق الكبير المحيط بكل شيء.
فوجِلت القلوب، وعنت الوجوه.
وحين تجلى النور الأعظم، صمت كل المخلوقين وأطرقوا، ثم خروا سجدا، إلا الظالمون، فقد أصبحت ظهورهم كالنحاس.
واستعرت نار الأبد.
سجد، وسجد قلبه معه.
وسمع، وهو في سجوده، أنين المكتوبين في لوح الشقاء.
فردد في خشوع: ليتمجد اسم القدير.
انتهت
وتليها الرواية الثانية:
ولي الله
تم الانتهاء من التأليف بتاريخ الخميس 1 ديسمبر 2022 العاشرة ليلا.
وكان مستهل كتابتها في بدايات عام 2012.
وتم الانقطاع عشرة أعوام لتتم الآن في أقل من شهر كتابة.