5 دقائق للقراءة
كان قد بلغ الأربعين من عمره، وأصبح ملكا مكان أبيه، وأعظم مما كان يتصور والده، الذي تنازل له عن العرش بابتسامة كبيرة ووضع بفخر التاج على رأسه.
لكنه أعاده إليه بعد ثلاثة أعوام، لقد التقى الملك التنين، وعلم أنه تم اختياره لما هو أهم من الملك.
دموع أمه ودموع زوجته لم تمنعه، لأنه عرف وفهم، وفسر لهما، فاقتنعت العقول، ولم تقتنع القلوب.
في رؤياه التي طاردته مرارا، كان يرى نفسه يمشي في طريق مظلم، ثم ينبثق النور، ويرى تنينا أبيض وخلفه سبعة شبان، بل ستة وشابة، ثم شاب آخر فآخر، ثم شابان آخران، ثم ألوف البشر من هيئات مختلفة، وحضارات شتى، وأزمنة كثيرة، لكل قصته، وملحمته ومأساته، شغفه وألمه، عشقه ومعشوقه، تاريخ روحه قبل الفناء، ومستقبل حياته بعد الوجود الطيني، وكان يشعر أنه يعرف كل واحد منهم قبل القبل، وبعد البعد، وأنه سينتقل بين الأزمنة والأمكنة معلما، وأن الموت الذي يخافه الكل يخاف منه، لأنه لن يموت إلى في النهاية، حين يموت كل شيء ويندثر كل شيء وينتفي كل شيء، ثم سيتجدد للمرة الأخيرة.
ولكن دون ذلك ما دونه.
تدرب طويلا على فنون الذئب، وفنون النسر الفضي، وكلمته الأرواح مرارا، وكان يملك كل شيء: القصر والزوجة الجميلة، ومدنا يحكمها، وجيوشا تطيعه بقوى وتطورات مذهلة ساهم فيها بما لم يسبق لحضارة قبل الطوفان أن عرفته.
لقد بنى مع أبيه وأجداده السابقين حضارة عظيمة هي الأعظم في حضارات ما بعد الطوفان.
وشيد فيها الأهرام التي رأى مثلها حين صعد جبل الماس والتقى النسر الفضي، أهراما كبيرة مطلية بالذهب عليها جوهرة زمرد كبيرة تنقل الناس بالقفز البعدي وتنزل الطاقة من الكون إلى المدن وتنشر الرخاء والحياة والضوء وتنمي النبات وتقوي مناعة البشر وتعطيهم تجددا في الخلايا يجعلهم شبابا في أعمار تفوق مئات السنوات، وصنع سفنا تطير أسرع مما كان يصنع أحفاد الأول.
وكانت الأرض كلها حكم يده، وكل ما فيها ملكا له.
ولكن فراغا كان في روحه يتعبه، فزهد في كل شيء، على امتلاك وقدرة، وعرف أن الزهد الحق لا يكون إلا بعد التملك.
في ليلة مقمرة، خرج من سريره ونظر إلى القمر، رأى حمامة بيضاء تضيء عيناها بشعاع أزرق، فهم أنها أرسلت إليه من عالم النور، قفز من شرفة قصره العالية ولف بجسمه ودخل في تسارع يسمح له بالتحرك فوق قدرة البشر، كأنه من كائنات النار التي تجتن عن الأعين وتختفي.
وبعد مسافات قطعها فوق منازل وقصور مدينته العظيمة، يرندار، وجد نفسه أمام البحر الكبير، فرأى ضوءا ساطعا، فقفز في اللجة ليكون في بوابة مائية في عالم لم يعرفه من قبل، عالم التنانين العظيم، عالم أسرار روح فنون الدفاع.
هنالك مكث ثلاثة أعوام لا يشعر بالزمن ولا يشعر الزمن به، بل لقد استعجب حين قالت له زوجته وهي تشهق من البكاء أنه غاب كل تلك المدة التي حسبتها ألف عام، ولولا أن والده كان من العارفين بشيء من تلك الأسرار لضاعت المملكة واعتبر ميتا منتهيا.
هنالك في عالم فسيح عجيب يمضي اليوم منه كما يمضي العام في عالم البشر، ولكنه يوم طويل واسع شاسع، تزيده شساعة القدرة التسارعية في الحركة والادراك التي يمتلكها من يكون فيه أو يأتيه.
قال له التنين حين تمظهر أمامه بذلك الحجم العظيم لأول مرة، والذي كان أضعاف حجم النسر الفضي: لم يسبق لبشري أن دخل هذا العالم، لا يدخله إلا المختارون ممن انتقلوا من عالم الفناء وتحرروا من طينة الأجساد، او الماكثون ينتظرون أن يولدوا بشرا بموت روحي أول.
لكنك استثناء يا تاي، أنت الذي اخترناه لهذه المهمة.
كان تنينا أبيض بجناحين كبيرين ورأس يعلوه قرنان كأنهما جبلان من العاج الفضي الممتزج بالماس والمصقول صقل المرمر.
وكان رأسه مزيجا من رأس أسد مع رأس كائنات زمن الجلاوذة الذي أفناهم القدير وكان بشري الطين الخليفة بعدهم.
وفي عينيه بريق عجيب يصدر منه الكلام، وعلى جبينه شيء يشبه الماسة الخضراء المشعة، وكل جسده متناسق قوي، وفي فمه أسنان أكبر من أسنان أسماك سمندارا العظيمة التي رآها بعض البحارة فقط، وكانت له رؤية مباشرة لها وهو طفل مع والده في رحلة بحرية عجيبة لا ينساها.
حلق أمامه ثم وقف على قوائمه التي تمتزج فيها قوائم نمور النابين مع أسود جبل سيدرا، تلك التي فاقت أحجامها أحجام الفيلة وقيل أنه لم يعد لها وجود.
وهز ذيله المعقوف كأنه مرساة سفن سمنديل الكبيرة التي تحمل آلاف الصناديق من الخزف والمواد المختلفة والأغذية مع ألوف من البشر.
بدا ذيله يتحرك حركة أفاعي شيكارا الكبيرة السوداء التي يمكنها أن تلف على قصر فستحقه، أو تلك التي رآها في صحراء المتاهات.
وبدا له بعد برهة تأمل أن التنين مزيج من النسور والأسود والنمور والأفاعي ومخلوقات عظيمة أخرى، أو هي انسلت منه أو كانت من ذريته.
بل لكأن القدير حين خلقه جعله مجمعا لقوى وأشكال كائنات غيره، أو خلقها من تفصيل فيه.
جناحاه كانا بلا ريش، ولكنها أعظم من جناحي النسر الفضي الكبير، وكان حين يهزهما تصدر منهما طاقة قوية وريح عاصفة، ثم رفع التنين رأسه ونفخ فخرجت نار أعظم من نيران جبل التنور الخامس، ذاك الذي لا تتوقف فيه الحمم خلف البحر المظلم.
صاح التنين صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض تحته وفاضت مياه البحر وارتفعت حتى كادت تبلغ السحاب، ثم أطلق من فمه بعد ذلك شيئا كالنور الأبيض، وخرج من بين قرنين شعاع آخر، ومن عينيه سواه، ومن مخالبه وجلده الذي امتلأ بما يشبه الأشواك أو الأعمدة الحديدية، كان كتلة من الطاقة القوية والمخيفة، وقد دمر جبالا كثيرة فوقه وأمامه، ثم بمجرد ختمة من قوائمه الأمامية ذات المخالب الطويلة المحدودبة، رجع كل شيء إلى ما كان عليه.
فهم أن التنين يريه شيئا من قوته التي بإمكانها سحق مجرة في لحظات.
وابتسم داخل قلبه من غرور البشر بأسلحتهم وجيوشهم وقدراتهم، تنين واحد كان سيفني الحضارة الأرضية كلها في رمشة عين، وصيحة واحدة كافية لإخماد الحياة في كل موجودات عالم الفناء.
في ذلك العالم تعلم وسمع وتدرب والتقى مختلف التنانين، حتى السوداء منها، والتي تحذر كثيرا من مخلوقات عالم الفناء، خاصة البشر.
وهنالك عرف قصة التنين الأسود السفلي، فهو تنين شكلا ولكنه شيطان روحا، وله مهمات سينفذها ضمن ناموس القدير.
وليس سواده كسواد التنانين الأخرى، فهي سوداء كما يكون الفرس أسودا، وكما تكون العين سوداء والشعر على أكتاف الغيد الحسناوات، أو كالليالي التي ينام فيها القمر وتغطي نجومها الغيوم في شتاء مملكة الجليد البارد.
أما هو فأسود كقلب الحسود، كسواد الحقد في النفوس الكريهة، كسواد قلب الشيطان المتمرد على مقام البشري الأول.
سيكون في صفحات الزمن أثر بعيد لتلك الأيام الثلاثة التي أمضاها مع التنانين، أو الأعوام الثلاثة حسب التزمين في عالم البشر، ولكن الأهم من ذلك أن تايبنغ رأى هنالك شيئا من القوة المطلقة، وعرف بروحه بعيدا عن قدرة عقله على الوعي والمنطقة والتصور، أن لها ارتباطات كثيرة بذلك المكان، أنه مكان عرفه من قبل وألفه، وكأنه كان هو الآخر تنينا قبل أن يصبح جنينا في بطن أمه، أو ربما تشكل تنينا وكان في جوهره الشكلي على شكل آخر.
بعد شهر فقط من الاستعداد وترتيب أمور المملكة، رحل وقد أعاد التاج لأبيه، ولم يكن لتايبنغ أشقاء، ولم ينجب حينها إلا ولدا واحدا، ولم يرجع ثانية إلا وقد أصبح إنسانا آخر، لكأنه بوابة بين عالم الأرواح وعالم البشر.