3 دقائق للقراءة
حين مات الملك الشيطان كما كان يسميه شعبه: سفاريم، وأثناء جنازته، لما كانوا يهمون بحرق جثته كما هي العادة عندهم، وبمجرد أن اشتعلت النار في جسد الملك الضخم المليء بطاقة الشر من فرط ما شرب من دم وما حلم بامتلاك قوة التنين الأسود، حينها انفجر المكان، وظهر دخان أسود كثيف، واحترق المحيطون به وتبخروا، كان الكاهن يصرخ برعب والجند يفرون، ثم حلق تنين بشع ينفث نارا سوداء، وفي عنقه سلاسل من ذهب تضيء، كان ينتفض كمن يريد الفرار من سجن طال أمده، وكان ابن الملك الوحيد ينظر إليه بعينين استسعتا خوفا وجحظتا رعبا.
لقد كان يترنح من السكر، وكان حزنه على والده ممتزجا بشعور غامض بالشماتة والكراهية، فقد كرهه بسبب أمه التي خطفها من قومها، وبسبب سوء معاملته له وقسوته عليه، وكثرة صراخه طول الليل يعوي كذئب جائع أو كلب جريح.
وعندما انفجرت المحرقة، لم يعرف كيف لم يتبخر جسمه في حين شاهد من حوله الوزراء والقادة وعددا من الجنود يتفحمون وتذوب جلودهم وتظهر جماجمهم وتتساقط أعينهم أو تسيخ وتجف منهم طاقة الحياة حتى تحولوا إلى ما يشبه المومياء المتيبسة التي رآها في قبر قديم حفره أبوه بحثا عن كأس غريبة، ثم تناثروا كما تتناثر أوراق الشجر الجافة عند حرقها.
لقد رأى هالة حمراء تحيط بجسمه، واقترب منه التنين كأنه يكلمه، لقد كان رأسه كبيرا جدا، كأنه قطعة من جبل، وكانت عيناه تشعان بريقا مرعبا، شر لم يستشعره من قبل، وخوف لم يشعر به رغم أنه عاش طيلة حياته في خوف.
بدا له كأن التنين يكلمه، وكأنه يقول له أن الوقت ضيق وأنه تمكن من الفرار ليمنحه طاقة كان والده يريدها لكنه لم يكن من تم اختياره لذلك.
امتدت يد مضيئة كبيرة من وسط الظلام والدخان وضربت التنين على وجهه، ثم سحبته من رقبته وبدأت السلاسل الذهبية تشع بقوة، كان يعوي ويحاول أن يبقى لكن اليد كانت أقوى منها وأكبر، وكان عليها نور أصفر له شعاع كبير.
لكن ذلك لم يمنع التنين من نفث طاقة سوداء مضت كالأفعى الدخانية ودخلت في أنف سفاردايم وعينيه، وغاصت عميقا في عقله وكيانه، ونفسه، ولما لامست روحه رأى شياطين بأحجام كبيرة لها قرون وأعين حمراء، وأخرى صفراء أو سوداء قاتمة، ورأى أجسادا بطول الشجر العظيم في غابة المتاهات السبع، ذلك الشجر الذي يرى من عمق البحر لطوله، ويلامس الغيم ويفوق الجبال طولا، وقد رأى بعينه كيف تحجر كله ذات مرة وقطعت جذوعه كأن سيافا قطعه وحوله إلى حجر ولم يفهم أحد كيف تم ذلك.
ثم سمع أصواتا كثيرة بلغات كطنين النحل، لم يفهمها أولا ثم غاص فيها وفهم كل كلمة، كانت ترانيم سفلية تمجد التنين الظلامي، ورأى المفتونين به، ما لا يحصى من المخلوقات التي سكنت عالم الفناء داخل بيضة الظلام المضغوط المزين بالنجوم حتى يسري فيه ضوء ليس من طبيعته.
رأى ما لا يحصى من الكواكب العامرة بالحياة، ورأى كيف تسلل التنين الأسود إلى القلوب الضعيفة، إلى ملوك وعبيد، أغنياء وفقراء، ذكور وإناث، كائنات نار وكائنات معادن أخرى، ورأى أطياف الشر التسعة التي معها وما تحمل من قوى الحسد والغواية والشهوة والإفك والجحود والطغيان والجبن والأنانية والجوع.
ثم رأى الناري الأخير، يمسخ شيطانا فوق السماء، لأن التنين الأسود نفث سمه فيه وسيطر عليه طيف الحسد.
ورأى تجدد ذلك مع ابني الطيني الأول، يقتل الأخ أخاه حسدا.
ثم رأى حضارات بشرية تظهر وتختفي، تملك وتهلك، لوسواس شيطان النار وغواية التنين الأسود وأطيافه، ورأى أمّار الأنفس البشرية كانت شياطين فماتت ثم تم تحويل أجزاء منها إلى كائنات أخرى متصلة بالكيان البشري تأمره بكل ما يسوء وتحدثه، ورأى نفسه الفاسدة وسمعها تكلمه، كأنها أفعى سوداء لزجة.
رأى كائنات النور ومصانعها الكبيرة وعلب البلور المليئة بالأرواح التي ستولد قريبا، وقد تم ضغط أحجامها وإفقادها الذاكرة، شعر بها كيف كانت تتجرع الموت ليولد أطفال من عالم البشر.
ورأى كيف تتم صناعة الأنفس المختلفة وكتابة قدرها، ودمجها بالكيان البشري قبل أن يولد، ثم كيف يتم تشغيل كل واحدة من تلك الانفس في الوقت المحدد من عمر الطفل.
شاهد التنين يحاول الفرار مرات، وفي كل مرة تضربه اليد، وكأنها تعبث به، تحرره عمدا وتوهمه بأنه سيفر، ثم تعيده بعد تحقيق الغاية من تحريره الجزئي.
أراد أن يرى أكثر، فأبهره النور وسقط من فوق، ثم رأى اليد المضيئة تمسكه، وتضربه بقوة.
كانت اليد تضربه، ترجه، وصوت يناديه بحرقة، فتح عينيه، رأى يد أمه، ورأى عينيها وقد تناثر منهما الدمع.
استيقظ يا ولدي، لقد مر أسبوعان وأنت على هذا الحال بين الموت والحياة.
نهض مثقلا، لم يشعر بالوقت بل أحس كأنه سافر لبرهة فقط.
خرج وكان المشهد مرعبا: النار تتصاعد من القصر والمنازل المحيطة به، والدخان في كل مكان، وفوقه كانت تنانين مضيئة تحلق ولوالب بلورية مضيئة.
قال لأمه: أترين.
نظرت ولم تكن ترى إلا الدخان.
أدرك أنه يرى ما لا يراه غيره.
وصمت.