5 دقائق للقراءة
“حلمت مرة أنني فراشة تطير، وأنا الآن أتساءل، إن لم أكن فراشة تحلم أنها كونفشيوس”
كونفشيوس الحكيم
يحكى أن مملكة للخنافس كانت تمتد على تجويف جذع كامل ألقت به عاصفة في ركن من أركان الغابة، وكان ملك الخنافس يتذاكى ليستحكم، لكنه غبي بالفطرة، وكان بطلا في فن النوم لا يشق له غبار، وبما أن شق الغبار ليس من تخصصات الخنافس، فإنه لم يستيقظ طيلة حياته الممتدة على ساعات اليوم الثاني لنشأة المملكة إلا لحظات قليلة، قال لأحد المقربين منه:”حلمت أنني نحلة”، ويهو يتساءل إن لم يكن نحلة تحلم أنها خنفس، ولكن الحلم سيطر عليه حتى اعتقد أنه نحلة فعلا…
********
يحكي ذات الرواة أيضا أن قفيرا للنحل سكن شجرة بنى على أحد أغصانها مملكة له، وكانت ملكة النحل تتغابى لتحكم، لكنها ذكية بالفطرة، صرخت ذات لحظة فزعا إذ حلمت أنها خنفس، فتساءلت إن لم تكن خنفسا يحلم أنه نحلة، وسيطر عليها الحلم حتى اقتنعت أنها خنفس فعلا…
********
عقد ملك الخنافس اجتماعا طارئا لأعيان مملكته، قال: لقد اكتشفت أني نحلة، وقررت صنع العسل، والويل لكم إن لم يكن عسلا حلوا لا يصنعه سوى الملوك….
********
في القفير صرّحت ملكة النحل لوصيفتها أنها تخاف من النحل لأنه يلسع، وأن العسل كريه جدا، ثم حزمت أمرها خفية وفرت من القفير، واصطدمت بورقة كبيرة فسقطت في زهرة، ورآها صرصار كان يمر مصادفة بين الزهور…
********
خبراء مملكة الخنافس وأعيانها صعقوا من الخبر، نحلة!! وكيف سنحقق له ما يريد، كيف سيصنع خنفس عسلا؟؟ وبعد مداولة طويلة أشار أحدهم إلى حل فريد: فلنستعن بخبير الصراصير، فهو يعرف كل أسرار الغابة!!
********
غادرت مجموعة خاصة من الخنافس المملكة حتى وصلت إلى جذع مقابل، كان يأخذ قيلولة بعد جولته بين الأزهار، أيقظوه، ارتدى مزماره بسرعة فالصيف موسم النوم والغناء لديه، رغم أن النملة أهانت كرامته في قصة أخرى، لكنه متفائل جدا، سيأتي اليوم الذي يقدِّر فيه أهل الغابة موهبته، حملوه بسرعة إلى المملكة، كان الأعيان والخبراء مجتمعين في تجويف من تجاويف الجذع، قصوا عليه الطامة وشكوا له المعضلة، فابتسم وهو يفتح جناحيه ويغلقهما بنشوة: بسيطة…الحل في زهرة!!!
********
سارت الفرقة الخاصة بسرية وسرعة لتنفيذ خطة الصرصار، كان قائد الفرقة يقوم بحركات ليبهر مرافقيه، فقفز فوق غصن مكسور على الأرض، وانكسرت رقبة الخنفس الذي خلفه وهو يحاول تقليده، تسللوا بين الزهور بخفة، كان الصرصار يتقدمهم وأشار إلى زهرة صفراء كبيرة، كانت تنتفض في الزهرة وهي تتأفف من رائحتها ورحيقها، صعد كل خنفس فوق الآخر وتراصوا على ساق الزهرة حتى بلغوا كمها، ثم بمهارة منقطعة النظير قام قائد المجموعة بالسقوط على ظهره وأسقط البقية، فقد نسي الجميع من غمرة الحماسة واللهفة أن الخنافس تخاف من النحل!!!
سمعت جلبة فنظرت من بين وريقات كم الزهرة، رأت بعض رعيتها، فألقت نفسها فوقهم دون تردد، صرخت بالخنافس المرتعدة هلعا: أين كنتم، وكيف تركتموني في قفير نحل مخيف ثم في كم زهرة كريهة!!! كانت تنظر إليهم نظرة ملكية قاسية، فقد تكون نسيت أنها نحلة، لكنها لم تنس أنها ملكة!!
********
“بشجاعة ومهارة… تمكنت مجموعة خاصة من الخنافس من خطف ملكة النحل”، كان الخبر ينتشر انتشار اللقاح بين الأزهار والأشجار، كل فراشة وكل نملة وكل يرقة هالها ما سمعت، مملكة الدبابير أشار حكماؤها إلى أنها علامة على قرب انتصارهم على النحل وتمكنهم أخيرا من معرفة سر العسل، قال كاهنهم بصوت متقطع تقطر منه الحكمة: “لكأني أراه..عسل كثير نصنعه..وكل النحل عبيد لدينا..ألم أقل لكم عن رؤياي من قبل..إنها علامة..علااااااامة”.
أما الصراصير فقد أجمعت على أن خطر الخنافس قد تفاقم ولابد من الحذر، وقد تردد وجود خائن ساعد الأعداء على تنفيذ مهمتهم، وتعجب ملكهم كيف أن صرصارا يخون بني جنسه ويساعد خنفسا!!
في ورقة معلقة بركن من الجذع سكنت ملكة الخنافس الجديدة، وكانوا يغشونها بوضع الرحيق في طعامها، وكانت في كل مرة تجد سائلا كريها على الورقة، فيغيرون لها فراشها ويعتذرون، فهي تكره العسل كثيرا، ولا تعرف من أين يأتي إلى فراشها!!
********
“صفقوا لملك النحل الجديد..اشربوا الرحيق وانتظروا مني العسل”..
كان ملك النحل الجديد سعيدا جدا بين الخنافس التي استعبدها بذكاء وأقنعها بحنكة، وكانت الخنافس تمثل الدور بإتقان عملا بخطة الصرصار، ملك الخنافس في ذروة سعادته أعلن في مؤتمر صحفي حضرته فراشتان عبرتا بالصدفة فأحبتا مشاهدة المسرحية وانبهرتا بأداء ملك الخنافس فقد تقمص دور النحلة فعلا..يا له من موهوب… وقطيع من النمل كان يحمل بعض القمح من حقل بعيد ويعبر الجذع، أعلن أنه قريبا سيصنع أول شهد مليء بالعسل المصفى الذي لا يصنعه سوى الملوك، فلقد اكتشف سر العسل!!
بعد أن مرت غيمتان فوق الغابة، كان أعيان المملكة قد جمعوا أرواقا كثيرة عليها عسل لذيذ، عسل أبيض لا تصنعه سوى الملكات، وبدقة متناهية تسلل بعضهم إلى مضجع ملكهم ووضعوه حوله….
********
كان خبرا صاعقا..لقد صنع العسل فعلا…خنفس يصنع عسلا!! لكنهم رأوه….وأعلن خبير الخنافس والناطق باسمهم أن الجهود المضنية والعمل الدءوب مكنهم من تحقيق الممكن، إذ أن الخنفس عامة مؤهل لصنع العسل لكنهم نسوا السر فترة، ثم إن التنقيب في تاريخ الخنافس مكنهم من تذكّره إذ وجدوا ورقة يابسة مدفونة تحت الجذع كتب عليها أحد أجدادهم “سر العسل”، وأن ملكهم نوع نادر من الخنافس إذ أن جدا من أجداده كان نحلة، وأن هذا ينهي الكره الغريزي بين النحل والخنافس، والمفاوضات على أشدها مع الدبابير والصراصير لتكوين مملكة عظيمة تجمع كل تلك الممالك، كما أن صنعهم للعسل يفتح آمالا عريضة للدبابير التي عانت لحقب طويلة من عجزها عن صنع قطرة عسل واحدة وحقدت على النحل من جراء ذلك، وأن السلام سيعم أخير أغصان الشجرة وجذوعها حتى تلك الملقاة على الأرض…
********
صرخت ملكة النحل فزعا ونادت وصيفتها، لقد حلمت أنها خنفس، وأنها طارت ووقعت في كم زهرة ثم اختطفها صرصار وبعض الخنافس الكريهة ووضعوها في….ثم صرخت لأنه لم يكن حلما…وتساءلت عن الفاصل بين الحلم والحقيقة…ثم انشغلت بمتابعة الصراخ عن تتبع الأسئلة…
********
مصيبة..قال حكيم الخنافس للصرصار…إن علم النحل أن ملكتهم عندنا سيبيدنا..ثم إنها ستقضي علينا إن تحررت من الشرنقة التي لفتها من حولها العنكبوت بعد أن طلبنا مساعدتها لقاء خنفس كل يوم..ما نفعل بعبيد الخنافس..إنهم أكثر من أن ينقص منهم ألف عنكبوت……
ابتسم الصرصار بدهاء: بسيطة…دع العنكبوت تقضي عليها وتأكلها..هكذا توفر عليك عبيدك..وتتخلص منها…ويغيب سر العسل إلى آخر جذور الشجرة…
********
صقلت العنكبوت خناجر فكيها ودربت عضلات سيقانها برفع عيدان صغيرة وتجهزت لوجبة غداء نادرة..من من العناكب التهم ملكة نحل من قبل..لا أحد…إن مملكة العناكب ستعيِّنها ملكة..هذا مؤكد..لقد دخلت التاريخ من شبكته الكبيرة…تحركت بخفة بعد أن تفقدت خيوط شبكتها ونظرت بتشف إلى ذبابة تصارع لتنجو…ثم نزلت بخيط خفي وتسللت نحو مملكة الخنافس…
********
استعدوا…اعبروا بسرعة..فكوا الخيوط…احملوها..غادروا الآن…سيدتي..لقد نجحت المهمة..
فتحت ملكة النحل عينيها…وجدت من حولها جيشا من النمل…تقدمت منها ملكة النمل وحيتها باحترام..نحن مملكتان متآخيتان منذ عصور…وأنا النملة التي أهانت ذلك الصرصار لكنه لم يعتبر وظل يغني وبقيت أكد وأعمل…ثم أنجبت كل هؤلاء وصرت ملكة…مملكة النحل ومملكة النمل تقدسان العمل والنشاط…ولذلك حين علمتُ بما أصابك من أحد جنودي أرسلت فيلقا لإنقاذك من شرنقة العنكبوت ومن مكر الخنافس والصرصار…أعلمْنا قائد النحل وهم قادمون لأخذك…حاولي أن تقومي ببعض الرياضة فالكسل يحول ملكة النحل إلى خنفس!!
********
ابتسمت فراشة وهي تعبر فوق جذع ملقى في أحد أركان الغابة تسكنه جماعة من الخنافس أعلنت أن ملكها اكتشف سر العسل وصنع منه الكثير…فالذي لديهم شرانق لنحل صغير يحتاج شهدا وعسلا ليكبر…لكنه إن لم يجد سيشق طريقه نحو الحياة بافتراس ما يجده…سيكون نحلا خطيرا جدا وقد يتحول إلى دبابير تلتهم الفرائس ولا تكتفي بالرحيق..مسكينة هي الخنافس…ستكون الوليمة الأولى…
ضحكت زهرة صادقت النحل والفراش زمنا مما ترى…فالخنافس والصرصار لم ير أحدهم العسل من قبل…ولم يعلموا أن الملكة تضع بيضا فقط..أما العسل..فلا يصنعه الملوك الذين ينامون ويحلمون…بل الكادحون الذين يسهرون ويعملون..وإن أعذب وأعجب ما في سر العسل..أنه حتى الرحيق المر لزهرة الصبار…يصبح عسلا عذبا مصفى…
********
قبل أن تختفي مملكة الخنافس بشكل غامض من الجذع…سمع أحد الوطاويط وهي يقوم بمناوبة ليلية صراخ خنفس كبير..لكن الدبابير حزنت عليه كثيرا..فقد مات معه أملهم وحلمهم…مات معه..سر العسل!!!
دمشق
26/02/2010 03:57 م