8 دقائق للقراءة
بعد ثلاثة أعوام بشرية من لقائه بآمر الرواحين، وفي تلك الليلة المحددة، جمع يوتشيهان نخبة فيلقه ضمن تخصصاتهم التقنية والبرمجية التي تحمل عظمة حضارة السماء العليا،.
وانضم إليهم بايوندار، المشرف على السفن الضوئية الطائرة، وأطباقها وأنواعها، وتمظهراتها المختلفة، وتشكيلاتها الكثيرة، وخفائها أو ظهورها، ومواقيت تدخلها المباشر، فهو آمر الفيلق التاسع والعشرين، فيلق الأبابيل، تحت اللواء الأصفر.
جلسوا جميعا في ذلك الكوكب البعيد، في عمق البيضة المظلمة، في قاعة عظيمة، ضمن مدينة معدنية كل ما فيها آلي، تتخذها السفن مقرا لها داخل العالم الفاني، بعد أن تغادر مقراتها في العوالم العليا التي تنتمي لها.
جلس القائدان الكبيران على كراسي مشعة، وتحدثا عما سيكون، وهما يتبادلان مشاهد بين أذهانهما، أو يشع جبين أحدهما فتبدو المشاهد والصور والأرقام والحسابات والمخططات.
ثم وقفا باحترام، وفتحت بوابة ودخل بيهاردن وحياهم، ومن خلفه زمرة النخبة من فيلق المقنعين يحملون سيوفهم الشعاعية على أكتافهم.
ثم ظهر العظيم مهينديارا الأسد، وخلفه مساعدوه، ونخبة من قادة فيلقه، بملابسهم البيضاء الواسعة، وسيوفهم الحادة المشعة بطاقة بيضاء تنسف الكواكب، وهي على جنوبهم اليمنى، وقد تلثموا بلثام أبيض.
ثم فتحت بوابة أخرى ودخلت أفعى عظيمة تشع عيناها، وعلى جبينها ماسة سوداء بفص أحمر يخرج منه شعاع قوي، ثم انتصبت وظهر من جسمها شيء كالمسامير السوداء الطويلة، ثم انتفضت وأصبحت ضوءا ساطعا وتشكلت بشكل شبيه بأشكالهم، فذلك التشكل الثاني في تشكلات الفاضل كونيسترا، قائد لواء الأفاعي الروحانيين، ومن خلفه ظهر جنوده بأذرعهم المقتولة العارية، وملابسهم السوداء والرمادية، وسيوفهم الكبيرة التي يحملونها على ظهورهم، وملامحهم الصارمة، وكلهم ملثمون أيضا.
ثم أشع ضوء في آخر تلك القاعة، وظهر آليون يحملون أسلحة، ساروا في خط مستقيم بحركاتهم الآلية، ثم انحنوا ليدخل قائدهم، نصفه آلي ونصفه بدني، سار باتجاههم ثم غير من هيأته إلى شكل شبيه بهم، وقال مبتسما: أعتذر منكم أيها القادة، لعلنا بالغنا في الاستعراض.
ضحك بيهاردن وقال له: لا عليك يا يوتشي، نحن في مدينتك وكوكبك ومجرتك يا صديقي القديم، وتلميذي المتميز، فأنتم لواء الآليين لديكم مهمات كثيرة لا تحصى، مع آمر السماء الدنيا القائد مينياكيل، والسيد العظيم ميكياليان، والسيد صاحب القرنين. ولديكم فيلق المبيدين الذين تدخلوا مرات لإبادة الأمم الباغية، كتدخلكم مع سفنكم يوم الظلة، أو حين تم سجن المتأججين.
نظر كونيسترا إلى ساعة معلقة فوقهم، وقال: ألم يصل بعد.
أجابه مهينديارا ممازحا: أنت دائما قليل الصبر يا ملك الأفاعي، سيصل بعد قليل.
قال بايوندار وقد لبس تاجه الأصفر وملابسه المزركشة الواسعة وخاتمه الكبير الذي يحمل قوى تحكم كبرى: إنه شعور مختلف، أن يأتي بشري من بشر الطين إلى مقرنا في السماء الدنيا، في هذه المجرة النائية، والكوكب الكبير المليء بالآليين والسفن والأجهزة.
لكنه ليس أي بشري، قال بيهاردن.
أعلم، أعلم، فقد تمظهرت سفننا أمامه مرات كثيرة، ومنحته من قوتي الذاتية، وراقبته منذ كان طفلا، وأيام عيشه كذئب الريح، ثم حين ارتقى جبل الخلود، وتلقى ما تلقاه من فيلق التنانين، ولهم سفن أيضا تحت إشرافي المباشر، لكن ذلك لا يمنع وجود حيرة في حال هؤلاء المنظرين، أجابه بايوندار.
كل يوم هو في شأن، والشأن محير. قال لهم صوت قوي، فانحنوا جميعا مع من معهم من قادة وآليين، وقد عرفوا أن المعلم الأخضر سيحضر مجلسهم.
ظهر المعلم وبجانبه تايبنغ وجميع عناصر فيلقه.
قال تشو بحماسة: إذا هذا هو العالم الذي يبث تلك المعارف للبشر، ثم يفنيهم في الوقت المناسب إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء وعقروا الناقة مجددا.
وكزه لونغ ليضطره للصمت.
كانوا جميعا بملابسهم الحربية وسيوفهم وهم مقنعون إلا معلمهم.
جلسوا حول طاولة مستديرة كبيرة، وكل قائد يجلس خلفه مساعدوه، وأحاط بهم الآليون، ولم يكن بإمكان كائنات النار ولا حتى كبير الشياطين الاطلاع على تلك المجرة وكواكبها ومعرفة شيء مما يدور فيها.
وكان الفيلق المكلف بالحراسة بأعداده التي تفوق السبعين مليارا مع السفن والأطباق، قد انتشر في أرجاء كون عالم الفناء، وتمظهر أكثر منذ نزل الأمر قبل ولادة السيد الكلمة، ثم صار أشد انتشارا وتمظهرا عند ولادة حضرة المحبوب وظهوره.
وقد لمس الجن ذلك حين صعدوا إلى مقراتهم التي كانوا يتجسسون من خلالها ويتخذونها مقاعد للسمع، فوجدوا السماء الدنيا قد ملئت حرسا شديدا وشهبا، وعرفوا أن من يحاول الاستماع سيجد له شهابا رصدا، أسلحة ملائكية تتخذ مادة النجوم النووية ممزوجة بالنحاس ومن مواد أخرى مشعة، نيترونية ثقيلة، أو نورانية سريعة.
ثم صدر الأمر لهم من فوقهم، ونزل الرخ الأعظم مع الستة الكبار، ثم أتى صاحب القرنين، والمعلم الأخضر، وتم تشديد الحراسة بشكل غير مسبوق في تاريخ عالم الفناء، بمجرد أن أفنى الروح الأعظم نفسه، وهوى من بوابة ثقب أسود كبير يسع آلافا من عناقيد المجرات الكبيرة، وكان مشهدا لم يسبق لهم أن رأوا مثله.
تذكروا ذلك بأسى وعرضوا شيئا من مشاهده، وكان تايبنغ وتلاميذه ينظرون بذهول، وقد انتبه معلم فيلق التنانين إلى ظهور التنين الأبيض الكبير وسبعة من قادته من خلف بوابة مشعة ليتابع اللقاء من جبل التنين ويشارك فيه، ثم حين طلب منه المعلم الأخضر تقدم خطوة واحدة ليكون معهم بشكل حضوري، مستخدما قفز الخطوة.
تحدثوا عن المهمات القادمة لكل فيلق من فيالقهم، ولكل واحد منهم.
وفتحوا شاشة نظروا من خلالها إلى بشر الطين وحكامهم وجيوشهم وسكان مدنهم وهم يسارعون نحو خراب كبير.
وكانت تلك ليلة الاحتفال ببداية القرن الغثائي، بعد أعوام من قتل الروح الأعظم لنفسه، وقبل أعوام أخرى من ولادته في جسد بشري.
إنها الأمة المعدودة، قال المعلم الأخضر، وهذا القرن تحديدا سيكون قرن الامتحان الكبير، والمحن العظيمة، وبعده سيكون قرن الظهور، والفتنة والغرور.
سوف يتم تطوير أسلحتهم وعلومهم وقدراتهم ومعمارهم، وسنوصل إليهم كيفية صناعة القنابل الشعاعية التي كانت لدى الأطلنطيين قبلهم، وسنريهم من سفننا ما سيقلدون شكل وقدرات بعضها ضمن هندسة عكسية نهبها لهم، وستقوم حرب أولى بينهم جميعا وعلى امتداد كوكبهم بعد أربعة عشر عام فقط من الآن، بعدها تهجم الأمراض، وينهار الاقتصاد في عالمهم، حتى تكون حرب عالمية ثانية، ثم يستخدمون واحدة من تلك الأسلحة التي تزيل المدن، ثم تنتهي، وينتهي معها بلاء كبير، ونعطيهم فسحة لإعادة البناء، ثم يكون غرورهم الأكبر، ويسعون لحرب ثالثة بأسلحة كافية لتدمير كل شيء حولهم، وحينها سنتدخل مباشرة، ويكون حضرة الغريب قد اكتمل، ليُتم الأمر ويُحقق الوعد.
وكل ما أذكره لكم اطلعت عليه في السجل الأعلى، الذي فيه المقادير.
فلينفذ كل فيلق من فيالقكم مهمته بدقة، الوقت قصير جدا، والساعة تدق، وتداهم الكون بأشراطها، وأنتم تعلمون جميعا ما عليكم فعله.
عندما رجع تايبنغ إلى الكوكب الأزرق، كان يشعر بوجع في قلبه، من هول ما رآه.
فقد كانت مشاهد الدمار والحرب القادمة بعد أعوام قليلة مشاهد مروعة، خاصة حروب الخنادق.
وكانت صور الفقر والمجاعة والأسرى قد بقيت عالقة في ذهنه.
وكذلك مشهد البسطاء في أرض ياماتو وهم غافلون، وطائرة يقودها شيطان إنس تلقي تلك القنبلة عليهم، فيندثرون في ضوء ساطع قوي، في مشهد كان روَّعه من قبل حين استعمله الاطلنطيون، وبعض من كان قبلهم من ذرية بشري الطين.
فتنفس بعمق مدركا أن ما تم تدوينه في اللوح سيتم مشهدا مشهدا، وأنها حكمة مرة لا يدرك أسرارها، وتمنى لو لم يطلع على السجل وما فيه، لأن من اطلع تمزق قلبه، إلا أن يربط القدير عليه.
وهنا تذكر صاحبا له، قد شاهد المشاهد برعبها ودمارها، ودوّنها في كتاب، وكان ينظر في الماء ليرى، معتمدا على كتاب قديم، شيء من حكمة شايثا، وشيء من علوم المعلم الأخضر بثها عبر بعض المختارين، ثم جمعها حكيم قبل هلاك أطلنتس.
وتذكر حال تلميذيه في ذلك اليوم من أيام القرن السادس عشر.
فقد كان تشو مهتما بالتنجيم، وبالنبوءات التي كان واكبها طيلة قرون وعصور. وقد شاهد تطور المنجمين في أساليبهم، ورغم معرفته الدقيقة بالفرق بين علم مواقع النجوم والكواكب وأثرها على البشر ودلالاتها على المقادير، وبين من يدعون علما بذلك سواء تحيلا أو استعانة بالجن والشياطين، فإنه كان يبتسم وهو يتابع تلك التطورات في الحضارات الكثيرة التي واكبها، والمدن العديدة التي كان يتنكر ويأتيها على هيئات كثيرة.
وكان تشي يحب أن يفهم قوانين الحياة وألغازها، وشيئا من سرها.
وكان يرى أن تحقق خط المقادير متصل بسيرورة دقيقة منتظمة، ولو بدت عشوائية.
وكثيرا ما أرهقا معلمهما بالأسئلة التي كان فودجا ولونغ يضيقان بها ذرعا، في حين يكتفي يان وينغ بالضحك، أما ونغ تشون فتصمت.
وكم كان تايبنغ يحاول عبثا كبح جماحها. ولكم ألح على المعلم الأخضر أن يعلمها لعل العلم يهدئ من ذلك الشغف، لكن المعلم كان يصمت أو يعلمه بعض القواعد، حتى جاءت تلك الليلة.
ظهر لهما المعلم وهما في ذلك الكهف، في بساطة تعودوا عليها وأحبوها، وقال لهم: لآلاف السنين كنتم تعتقدون أن هذا مجرد كهف، ولكن دعوني اريكم وجها آخر للحقيقة.
وبلمسة من يده لصخرة ناتئة في عمق الكهف، تحول كل الصخر إلى نوع من الماس، وأشع بشعاع أزرق، ثم ظهرت أرقام في دائرة متحركة في الفراغ، فكتب المعلم بضع حروف غامضة وبعض أرقام غريبة ففتحت بوابة في الكهف وإذا خلفها عالم كامل، عالم مليء بالأجهزة، وكائنات نورانية مبتسمة في ملابس جميلة، وخلف ذلك قصر كبير تطير فوقه سفن من الضوء.
أهلا بكم في البعد الثالث، الموازي لكهفكم هذا، اعبروا البوابة فقد جاء الإذن لكم بذلك.
وقف شاب جميل وحياهم، كانت ملابسه زرقاء وعلى جبينه ماسة تضيء، أشار بيده فغاصت في رأسه.
أعرفكم على شندي، إنه مسؤول هذا القسم من البعد الثالث، ومن مساعدي يوتشيهان صاحب الإلهامات وأحد حملة سر السجل.
قال لهم شندي: نحن لدينا نسخة من السجل، الذي فيه مشهد ما سيأتي ثلاثيا وخماسيا وتساعيا، ومشهد ما تم تسجيله أيضا، فما سيأتي قدر سوف يُقضى، وما كان قضاء تم بعد أن قدّره القدير.
ومن السجل تم اختيار مشاهد نسقها لنا المعلم الأخضر، مشاهد حقيقية ثلاثية الأبعاد، عن أمور كبيرة ستحصل بداية من هذا القرن إلى زمن الظهور، وسوف نعلم هذا كيف يراها ويدونها.
ثم أشار إلى رجل يجلس في غرفة معتمة، فيها شعلة تضيء بضوء خافت، وأمامه حامل نحاسي ذو ثلاث قوائم، عليه طست فيه ماء، وكان يحدق في ذلك الماء مرارا، ثم يقرأ من كتاب قديم.
وفجأة أشار شندي فخرجت مشاهد من يده ظهرت في ذلك الماء، وهنا التفت إلى تشو وقال له: أنت يا شاعر المنظرين، عليك أن تلهمه القصائد، باستخدام التصحيف والرمز والجناسات من لغات يعرفها، سنعطيك كل التفاصيل عنه وسترافقه من حيث لا يشعر.
أما أنت يا تشي فسوف تهبه من طاقة الحياة التي لديك، ومن فنونك الطبية، وشيء من علم الفلك.
كلاكما سيشرف عليه، ومن المهم جدا أن تكون القصائد رباعيات مكثفة، وأن يكون الإلهام خفيا، وأن يتماهى ذلك مع المشاهد التي سنبثها له ويراها، وسوف تشاهدون ما سنرسل إليه، من مشاهد السجل والحقيقة أنها مروعة، مرعبة، عن حروب قادم، وعن تغيرات كبرى، فهي جزء من مشروع كبير يسبق زمن الظهور، وعن تسريع وتفعيل فيه قسوة وحكمة مرة، لكن هكذا شاء القدير وهكذا يجب أن يكون.
بعد أعوام أنهى الرجل ذو اللحية البيضاء الكثة الطويلة كتابه الذي سماه القرون، في قصر الملكة، التي تنبأ لها بمستقبل أبنائها السبعة وأنهم سيكونون جميعا ملوكا، فآوته، بعد أن حمته من محاكم التفتيش التي رامت حرقه وقتله بتهمة الهرطقة، كما فعلت بالكثير من أهل الفلسفة والرياضيات والفيزياء والكونيات.
ومع مرون القرون، تجلت نبوءاته بشكل حرفي، راسمة مشاهد تحققت بحدثان الزمان تماما كما رآها.
ولكنه كان يعلم أن هنالك من يلهمه ويعلمه ويريه، وأن إرادة أعظم جعلت منه أشهر راء للمستقبل منذ قرنه ذاك إلى دولة الظهور، وظهر له الغريب في عمامته الزرقاء، ورأى الرعب الذي يأتي معه، ورأى من أي أرض يخرج، حاملا الجحيم الحنبعلي إلى العالم، وما خلف ذلك من نعيم للطيبين، معيدا الحياة للأمة العظيمة.
وقد ابتسم جون بيار حين علم أنه من أحفاده، وأنه ورث تلك الموهبة عنه، ليرى نهاية النهايات وما قبلها، بعد ثلاثمائة عام من دولة الظهور.
وبكى حين حدثه تشو وتشي عن تلك الأيام التي كان فيها جده في عالم الأحياء قبل ما يزيد عن ثمانية قرون، وكتب نبوءاته الأشهر، راسما ملامح القادم، حاملا رسائل العالم العلوي بدقة متناهية.
وقدم إليه المعلم تايبنغ ورقة تحمل اسمه الحقيقي: جون بيار ميشيل نوستراداموس.
وفي ذلك الكهف البعيد في الأرض المتجمدة جلس مع داريوس وسوزي، ومعهم فيلق الظلام، وقرأ عليهم ما كتب جده القديم في تلك الحقبة التي تم فيها تفعيل التسوكيومي: “إن عندي موهبه هذه الموهبة، هي عبارة عن قوة، والقوه تملأ جسمي كله، تهزني بعنف، وأسمع صوتا، وأرى نورا، ولا أعرف إن كنت أنا الذي يرى، أو أن أحدا يرى لي، ويرى بي. أو كنت أنا الذي أسمع الأصوات، أو أن قوه أخرى تسمع لي، أو تُسمعني.
كل هذا يجري أمام عيني على سطح الماء”.
قال سفردايم لصاحبه هولاو: من نظر في السجل تحطم قلبه، وحار عقله وتمزقت نفسه.
يا لمقادير عالم الفناء.
ويا لهذا السجل.
الجهل بحدثان الأيام وما يأتي فيها من آلام، رحمة، نحن منها محرومون.
نظرا إلى يوجين، وكان يمسح دموعه، وهو ينظر إلى الكوكب ذي الذنب يقترب مجددا.