4 دقائق للقراءة
كائنان متناقضان لم يسبق أن اجتمعا في نطاق معا، رُكّبا وجُمعا في بشري من سلالة الطين، وسكنا أبعادا من ذاته، لكل كائن منهما قواه وقدراته وبدنه الخاص وروحه الخاصة، وسجل ذكرياته.
صحيح أن أحدهما علوي عظيم، وأن الآخر لا يبلغ ذرة من مقامه فهو سفلي لئيم، ولكن السفلي يحمل في داخله العلوي، لأن العلوي لو لامس الطيني مباشرة لأحرقه، فكان السفلي حاجزا يحميه، ويمنع تلك الطاقات النارية المتأججة من ذلك الوحش من أن تقضي على الجنين الذي صار رضيعا ثم نما ليكون طفلا وصبيا وشابا وكهلا.
وكان عليه أن يبلغ مستوى التناغم بين نصفه النوراني ونصفه الظلامي، وأن يقبل وجود ما تم إيداعه فيه، مدركا أن الحكمة بالغة، مهما كانت مرة أو عسيرة الفهم والهضم.
ومن خلال الإصغاء الجيد لنفحات العلويين، بأذن واحد منهم وكبير من كبارهم، والقدرة على سماع نزغات السفليين بأذن تلك الروح السفلية، وعبر تعليم مكثف من مجمع الرواحين، ومن دائرة رجال الوقت، ومن المعلم الأخضر وفيلق التنانين، ومن غيرهم ممن كلفوا بتعليمه، أصبح الغريب أعلم أهل زمانه، بل تفوق في فهم الحكمة من وجود النقيضين: الخير والشر، النور والظلام، الحياة والموت.
ليس لأنه عرف فوق ما عرف المعلم الأخضر وأهل ذلك الأفق العالي، بل لأنه أدرك الأمر ممارسة لا مشاهدة، ومعايشة لا مجرد نظريات علمية.
فلم يكن من قبل ولن يكون من بعد أحد غيره يحمل في جسمه وبدنه وروحه وذاته ما يحمله، لأن الوحش العلوي الوحيد الذي كان عليه أن يقتل نفسه هو الذي فيه، ولأن أم السفليين الوحيدة والتي لم يخلق غيرها تسكنه هي الأخرى، ولذلك سماه من عرفه وراقبه من العالين، باسم مميز لم يخبروه به إلا حين بلغ مستوى التنور السابع، والذي يليه مستويان فقط ليبلغ باب الكمال ويغادر عالم الظلال إلى عالم النور ويرجع كاملا.
لقد سموه “صاي يُن” أو “المعلم ذو الهالتين”، لأنهم حين كانوا ينظرون إليه من عالمهم كانوا يرون نصفا مضيئا مشعا، ونصفا مظلما، داكنا، كشمس من الشموس العظمى الأولى، بجوار ثقب أسود يكفي لابتلاع المجرات.
أما التنانين فكانوا يسمونه باسم آخر بلغتهم: “بِينْ وار آت” أو “ترجمان العوالم”.
لأنه يترجم الملكوت بما فيه، العوالم العلوية، وعوالم الخير والنور والسلام، وعوالم الشر والحرب والظلام، عوالم الوحوش والآليين والسفن الضوئية، وعالم الطين والمادة، وعالم النار، والعالم السفلي.
أما هولاو، أحد عناصر فيلق الظلام، فقد ناداه باسم من لغته القديمة، “بيري هاتوكّا”، أو مثقاب الملكوت، لأنه يعلو حتى يلامس الأفق العالي، وينزل حتى يبلغ قيعان سجن التنين الأسود، حتى يتمكن من الفهم والوصف، وحتى يكون ذلك زادا له حين يبلغ الكمال، وحتى يواجه الظلام بما يشبهه، لا أن يواجه الظلام بالنور كما فعل المختارون من قبله.
وكان فعلا مخلوقا يحمل الكثير من الرعب في أعماقه، كما وصفه صاحب “القرون”، ولكنه كان يطوي كل ذلك في ظاهر بشري مبتسم وديع، قليل غضب، رغم أن نظراته حين يكون في الحال القتالي كانت تكشف عن قوة رهيبة تتمظهر أحيانا بما يذهل من يراها، وكان في عينيه حزن عميق، وقوة غامضة، وكان تحوله من حال إلى حال سريعا ومذهلا، لأنه تحكم في القوتين بنسبة كافية تسمح له بالانتصار والاستمرار والاختفاء المحكم عن عيون كثيرة كانت تبحث عنه ولم تكن تقدر ان تراه حتى لو كان أمامها مباشرة.
نحن نتقمص الظلام فقط، أما هو فالظلام جزء منه، كما أن النور جزء منه كذلك. قال هولاو لرفاقه وهم في ذلك الكهف البعيد حيث امتداد الجليد الذي شرع في الذوبان منبئا بقرب الكارثة، وكانت شوابيا غير بعيدة عن مقرهم، الذي تختفي تحته سفن كثيرة، ودابة قديمة عظيمة الحجم منوّمة بختمة علوية، مع كائنات أخرى من جنسها، قادرة على الكلام والتخاطر، تخرج عما قريب لتكلم الناس وتختمهم.
أوافقك الرأي، قال سفردايم، فتركيبته الغريبة، ووجود كبيرة الشياطين في ختمة نفسه السفلية، وتواصله مع روحه النيرة ونفسه النورانية، واستيقاظ الروح الأعظم فيه بقوى الوحش وعقل الآلي المرقوم، وتداول فيالق من العوالم العليا على تعليمه، أمده بمعارف كالبحار، وقدرات على التقمص الشخصاني، فقد أدمجت فيه شخصيات كثيرة متعددة متناقضة منسجمة، ليلبس عليهم ما يلبسون، منتظرا الاكتمال الكلي.
وسيكون مذهلا أكثر من أي شيء رأيناه من قبل، فهو المبعوث الأخير نيابة عن المرسل الأخير.
عين ترى بالنور وأخرى تنظر بالظلام، قوة ضرورية لينجح الغريب في مهمته، وليستمر خلف قناعه، منفذا لمهماته، صابرا على امتحاناته، متلاعبا بالأطياف والظلال، خفيا في جلاء، وجليا في خفاء، قال يوشين وقد وقف بحزم ومضى بعزم ليساهم في الإعداد لتلك الليلة العظيمة، معطيا الأوامر لفيلقه بالاستعداد، فقريبا يصل المعلم تايبنغ، ثم المعلم الأخضر، والقائد بيهاردن، وقريبا تُفعَّل السفن القديمة المخفية، وقريبا أيضا يبدأ إيقاظ الدابة.
كيف لم يتمكنوا من معرفة هويته، رغم بحثهم الدقيق عنه.
تساءل جون بيير وهو يقرأ خبره بعد مائتي وخمسين عام من ظهوره.
إن من يركز على صوره واختلاف تجليات ذاته قبل الاكتمال كان سيفهم، ولكنهم نظروا بعين حمار الذي أماته القدير مائة عام ثم بعثه وأحيا حماره أمامه، الحمار لم يبصر من كل تلك الآية العظيمة شيئا.
بعد سبعين عام أخرى حين اجتمع بداريوس، توجها للقاء حاكم العالم، حفيد الغريب وخليفته، وكان لقاء سريا سريعا، أطلعهم خلاله على علمه بما يدور في تنظيم العين، وبحقيقة الدهقان، وأن تلك الفتاة سوزي تم اختيارها وفق ما أطلعه عليه تايبنغ.
تعجب داريوس وهو يغادر عبر البوابة البعدية من معرفة الحاكم السابع بالمعلم تايبنغ.
نظر إليه جون بيير وقال له بلغته الأصلية: أتمزح.
ثم أضاف باللسان العربي: حفيد الغريب، أعظم معلمي فنون الدفاع والتقمص في تاريخ الكون، لا يكون معلما، ولا يعرف معلمنا.
إنه لو أراد أن يحارب التنين الأسود وجيشه وحده لفعل، كما كان ليفعل آباؤه وجده، الكبار الستة الذين حكموا قبله كامل الكوكب، وتلقبوا جميعا بنفس اللقب، مع ألقاب مضافة: الأول، العادل، الحكيم…الأخير.
ثم إن السفن والأسلحة المرقومة والرقمية كلها تأتمر بأمره، والفيالق جميعها، مع جيش الأرض القوي.
ولكن إرادة القدير فوق كل إرادة، وعلى البشرية أن تفقد النور تدريجيا حتى لا يبقى إلا الظلام والمسوخ، وعليهم تقوم نهاية النهايات.
عندما دخلوا الكهف للقاء يوشين وبقية فيلق الظلام، وجدوهم واجمين صامتين، ووجدوا معهم رجلا يلبس لباسا أسود وقلنسوة تغطي رأسه.
نهض والتفت إليهم، فنزل كل واحد منهما على ركبته وحياه بقوة: شرف عظيم سمو السيد العظيم، أخيرا نالنا شرف لقاء روحك المتجسدة في عالمنا، يا حضرة الغريب، وسمو القائد العظيم، صاي يُن.