طيران

2 دقائق للقراءة

كان حلمي أن أتعلم الطيران، أو بالأحرى أن أتذكره، فمنذ أن نبت ريشي كنت وحيدا، أصيب والداي بطلقة صياد أو وقعا في شرَك أو اختلفا فافترقا، المهم أني وجدت نفسي وحيدا، فتنكرت في ريش آخر، وصرت أعيش مع مجنحين لا يطيرون، لكنهم يقصون دائما علي أمجاد عائلتي التي لا يعرفون أني فرد منها، فكل ليلة يجلس الديك يقص على الدجاجات مغامرات النسور، ثم ينهي قصته ككل مرة بتذكير دجاج القن بإجراءات السلامة، وان أقدار النسور موجعة، أما معشرهم ففي خير وهناء، راحة بال ووفرة طعام، لا مطبات هوائية ولا حوادث في الجو، والأهم “وجوده بينهن”، وتنام كل دجاجة وهي تحلم أنه سيكون يوما لها وحدها، هكذا كانت حياتي متنكرا في القن، حتى تذكرت مرة، أو استفزتني الحكايات، فقررت أن أرجع نسرا مجددا، لكن كما قال أحد أجدادي “النسر إذا طال مكوثه مع الدجاج…تحول إلى دجاجة”، ما يحزنني حقا في هذه المقولة أن قائلها لم يقل “تحول إلى ديك”.
دجاجة أو ديك..المهم نسيت الطيران، وفقدت معه بطاقة هويتي..كنسر.

مشيت خفية إلى الغابة، وفي طريقي التقيت طائرا صغيرا يراقص غصن شجرة…خاف مني، لكنه حين ضمن أني لا أطير، حلّق فوقي وهو يغني..سألته: هل تعلم أين يمكنني تعلم الطيران مجددا؟؟؟
قال:عليك بجمعية النسور للطيران، وفيها اتحاد ملوك الفضاء، ورابطة النسر الذهبي، ولها معلم واحد يترأسها.
دلني بين الأشجار إلى أكمة تفضي إلى نبع بجانبه عشب كثيف، وفي الوسط شجرة تحتها كان يجلس على بطنه، نظر إلي وقال بصوت كأنه الخوار: تلميذ جديد..يا مرحبا…يا مرحبا..
نظرت إليه ولم أتعرف عليه..قلت ربما تنكر مثلي…إلى حجم أكبر…
سألته فأجاب قبل أن أتكلم: أعرف..مشكلتك… طَيَران….لابد أنك تعاني من رهاب الارتفاع..لقد جربت ذلك..خاصة حين تلفُّ وتدور وترفرف بأجنحتك وأنت تتجاوز مطبا هوائيا أو تتجنب الارتطام بشجرة..والصيد..أعرف كم هو متعب…
لم أستطع تخيل ما يقوله، فانا لم أجرّب الطيران يوما..كنت خبيرا في المشي على العشب ونبش التراب..ليس أكثر…لكني استمعت بلهفة..أول مرة ألتقي بخبير حقيقي بأسرار الجو…بمن جرب الطيران حقيقة…
يقضم قضمة من العشب ويرتشف القليل من عصير الغابة: الطيران..والنسور..يا للسعادة حين تكون نسرا..وتستطيع التحليق بحريّة…
كان له قرناه عجيبان..وعلى حوافره بعض الوحل..لم يكن بوسعي سوى التصفيق بجناحي لعلمه وفهمه…
نزل العصفور فوق رأسي وهو يبتسم وهمس لي: ألم تتعرف عليه..إنه شِتْرِبة …أكثر ثور سمنة في الغابة..لا يغادر موضعه هذا أبدا…هنيئا مريئا..ماذا يخصه..كل شيء بجانبه…عشب أخضر..ماء جار…..وظل ظليل..وهو مشهور جدا…لقد فر من كتاب كليلة ودمنة خوفا من ملك الغابة…وسأما من تجدد معركته معه في كل جيل ومع كل قارئ جديد..أو مللا من المؤامرات التي لم تتوقف منذ عصور خلت…لكنه وهو يعبر القصة اصطدم بزمن الرواية..ففقد الذاكرة..أو ربما أراد أن يتخفى…في شخصية نسر..وصار رئيس جمعية النسور…والمعلم الوحيد لهذا الفن..يعد أن انقرضت النسور من الغابة…

وأنا أرجع إلى القن..تساءلت بيني وبين نفسي:
ما قيمة كوني نسرا إن تنكرت في ثوب دجاجة ونسيت الطيران…..وما قيمة الطيران..حين يصبح الثور..رئيسا لجمعية النسور!!!!!

***
دمشق ‏01‏/02‏/2010‏ 06:42 م

منشورات ذات صلة

لأمر يستحق -قصة قصيرة جدا-
كنت طفلا في كوخ الطين، حافي القدمين رث الثوب، وكان في قلبي يقين بغد مختلفة، وذات مختلفة عن ذاتي التي أراها. وقفت أمام المرآة...
2 دقائق للقراءة
انتهى الوقت
ذات مساء هادئ مسكون بالهواجس والرغبات، جلس ثري بملابسه الثمينة وساعته الغالية على طاولة مما يكون قصور الأثرياء، وقد بسط أمامه الدنيا التي أوتاها:...
3 دقائق للقراءة
كأس ماء
  لم يعلم ما الذي أوصله إليها. كانت ممتدة على مرمى البصر، بكثبانها الهائلة، ورمالها التي تذروها الرياح. كان الصمت مهيمنا رهيبا كمجلس حاكم...
2 دقائق للقراءة
لستُ وهما
لأيام طويلة لم يكتب إليها شيئا. كان يشعر بفراغ كبير في قلبه، بخواء رهيب في عقله، وبصراخ يمتد على مساحات روحه الممتدة في عوالم...
2 دقائق للقراءة
من أنت
  كان الليل مظلما، وكان المطر ينهمر غزيرا ويدق بأنامله الرقيقة على نافذة الفيلا الفاخرة. نظر إلى ساعة يده الفاخرة المرصعة بالماس، شعر بثقل...
< 1 دقيقة للقراءة
النور الأخير
    سأموت قريبا، وبعد هذا الموت، سأولد، وأكون مختلقا، وأنسى حتى أتذكر.. لكني سأقتلك لو نسيتني. وهل يمكن أن أنساك يا مريم. كان...
5 دقائق للقراءة
حكاية سمكة
يحكى أن سمكة كانت تسبح في اليم فرأت طعاما معلقا بخيط يتدلى من أعلى،  ففرحت فرحا شديدا، وحسبت أن قوتها أتاها بلا عناء من...
< 1 دقيقة للقراءة
حكاية جابر
لم يكن جابر يوما مريضا، فقد كان قويّا كالثيران التي يربيّها، ليبيعها للمزارعين والقصّابين. وقد ورث عن والده قطعة أرض أتقن زراعتها وتفنن في...
11 دقائق للقراءة
الغرفة
من مجموعة قصصية تحمل نفس العنوان     لسنوات طويلة كنت أحاول دخول “الغرفة”، لكنني لم أقدر، فكل المفاتيح التي استخدمتها لم تفدني بشيء،...
11 دقائق للقراءة
الكرسي
من مجموعتي القصصية “وجوه”   لا أعلم كم من الزمن مضى وأنا غائب عن الوعي. ولست أذكر الكثير عن نفسي، كل ما أذكره أني...
4 دقائق للقراءة