4 دقائق للقراءة
بعد أن نزع المعلم الثعبان الذي كان يحيط بقلبه، وقطع نصف نفسه الأمارة، أدرك صالح عمق الهوة التي كان فيها، وأنه كان سيهوي في الهاوية، لولا أن تداركه ربه برحمته.
وقد اتخذ عهدا مع خالقه أن يقضي على ما تبقى من تلك الأمارة الشمطاء، وأن يسر قلب شيخه، حامدا مولاه أن أبدله بولي الله، بعد أن كان يتبع غويا من أولياء الشيطان.
وقد وجد في الذكر حلاوة، وفي البيان طلاوة، وفي القلب لينا
لا تغشاه غشاوة.
وأدرك أنه كان محجوبا عن حقيقة قلبه، وعن جنان حبه، وعن الأنس بربه.
وسعى بعد أن وعى، ودعا بعد أن رعى، وترك سبيل من ادعى.
ولم تمض فترة طويلة حتى ضمه الشيخ قائلا: الآن يا بني قد وصلت، ولم يبق من نفسك الامارة شيء، لقد بلغت مقام النفس المطمئنة.
سأله بشيء من أسى: لماذا يكتب الله على بعض أحبابه الحجاب، وعلى بعض أعدائه وهم الاقتراب.
فأنا أدرك الآن أني منذ الأزل مكتوب في لوح السعداء، لكن عشت ردحا من الزمن في مقام الأشقياء.
وإبليس كُتب اسمه منذ الأزل في لوح الأشقياء، لكن خُيل إليه أنه من أكابر السعداء، حتى رده الله إلى حتم الشقاء، في دار الفناء ثم في دار البقاء.
أطرق ولي الله هنيهة ثم رفع رأسه وقال: هنالك في الأعالي حيث المكان غير المكان والزمان غير الزمان، خلق الله الأرواح، تلك التي خطبها لوده، وأمضى لها ميثاق عهده، واتخذ من كل روح موثقا.
الأنبياء أخذ منهم ميثاقا غليظا، ثم من كان دون مقامهم.
وتحت التحت، حيث قيعان العوالم المطلة على الجحيم، عند برازخ سجين، خلق الله الأرواح الشقية، وختم عليها بختم الشقاوة الأبدية، لحكمة عنده، وأمر أراده.
ولكنه عرَّف تلك الأرواح أيضا عليه، فعرفته وخضعت له، وما كان لها إلا أن تفعل.
ثم كان من الأرواح العليا من كُتب عليه أن ينزل عالم الفناء ويتصل بالجسمية ويذوق حياة الفناء، وكان منها من استبقاه الله لأمره وخدمته، ومطلق طاعته.
وحين خلق الله آدم البشر، بعد خلق كثير قبله، أجرى الامتحان الختامي، وجمع كل من سيكون من ذريته من الأرواح العلوية والسفلية وأشهدهم ألست بربكم وقال الجميع بلى، وكان الكل قد عرف الكل في ذلك الزمن السرمدي الطويل.
وإن بعض الأرواح عند اتصالها بالأجسام تذكر أصلها ولا تنساه، بل قد نطقت روح السيد الكلمة وهو رضيع بكامل الإدراك.
وهنالك أرواح تنسى، على اختلاف درجة النسيان.
فقد تنسى روح علوية أنها كذلك، لغشاوة من النفس، ونفاذ كتاب، وحكمة امتحان.
وكذا شأن الأرواح السفلية، فقد تنسى بعضها أصلها، ويُهيأ لصاحبها أنه من مقام رفيع، وركن منيع.
من الذي يحدد حقيقة تلك الذات، إنه القلب.
قلب إبليس لم يسجد أبدا، مهما بدا على جسمه من سجود.
وقلبك لم يرفع رأسه من السجود أبدا، مهما ظهر على نفسك من جحود.
القلب حين يكون قلب شقي يختم الله عليه بأختام من المحال نزعها، ويضع وقرا في الأذن وغشاوة في العين وبرزخا في الذات، ويزيد القلوب المريضة مرضا، حتى إن ادعت الإيمان نافقت، وإن تظاهرت بالصدق كذبت، وإن عاهدت نكثت.
وأنت ترى كيف كان شأن ذلك الناري حين بلغ من الحضرة مقاما لم يبلغه جني قبله وارتقى مع سادة النورانيين، لكنه قلبه كان فاسدا، ونفسه كانت مستكبرة، لسابق شقائه في اللوح، ولأن روحه سفلية ولن تكون علوية ولو مكث في الأفق الأعلى ما مكث حملة العرش.
أما المحبوبون فهم محبوبون، على أي حال كانوا، يأتي بهم الله في المواقيت المحددة، ليحرر أرواحهم من سجن النسيان، ويظهر نور قلوبهم للعيان، وينزع عنهم الغشاوة ونزغات الشيطان.
وأنت محبوب رغم أنك كنت محجوبا، فمحجوب النفس يرجع، ومحجوب الروح لا يرجع أبدا.
وهذه الحكم الإلهية تستعصي على عقل من نظر بعقال عقله وحدود فهمه، حتى يقع في ضلال وهمه، فيظن الله ظالما، وما ربك بظلام للعبيد.
ولكن من نظر بعقل روحه، فذلك شأن آخر.
وهل للروح عقل، قال صالح بلهفة المتعلم.
بلى لها عقل، ولكل شيء من حولك عقله الخاص، أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم العقل تعبيرا عن نظام إدراك وتواصل، أليس كل شيء مسبحا لله، وكيف يسبّح من لم يعرف الله، فالتسبيح محتاج لإدراك لعظمة المسبَّح له.
وهكذا، فكل ذرة في ملكوت العظيم لها عقلها، وكل خلية في جسمك لها عقلها، وكل طائر يطير فوقنا أو نملة تمر تحتنا لها عقلها.
والعقول الأعظم عقول الملائكة الكبار، وأسياد الخلق الكرام.
ولكل الكائنات السابقة والموازية لعالمكم عقولها.
والبدن له عقله، كما للجسم عقله.
حتى جلدك له عقل وإدراك يخصه، أم كيف تحسب الجلد يشهد على صاحبه يوم القيامة، وينطق بأمر الله معلنا أن قد أنطقه الله الذي أنطق كل شيء.
إن الكون كله عقل كبير، فيه ما فيه من عقول لكل كوكب ونجم وسوى ذلك مما يتطلب إدراك دوره ووظيفته ومساره ومداره.
وبهذا تفهم كيف أن الله وجه الخطاب للسماء وهي دخان وللأرض، التي تحمل معنى كل كوكب، أن يأتيا طوعا أو كرها، فقالتا أتينا طائعين.
أليس في هذا برهان على إدراك خاص، ووعي بنص الخطاب، ومتن الجواب، وبحقيقة الاتيان كرها والاتيان طوعا، مع ما يكون من معاني ذلك كونيا على وجه التفصيل، وما ينجر عنه من مشاهد التحقق العظيمة.
هكذا الملكوت كله، عقل في عقل، وعقول مطوية في عقول.
بل إن عقلك هذا فيه برازخ: سطح عقل، وعقل يعمل دون أن تدرك أنه يعمل، في أمور اعتدت عليها ولم تعد تعيرها بالا.
وعقل يحصي كل شيء، ويسمع كل شيء، وإن لم تدرك بظاهر حواسك ذلك.
وعقل باطني، فيه عوالم كأنها المجرات.
وعقل أعلى متصل بالله والكائنات العليا، باب الإلهامات.
وعقل روحي، فيه من معارف الروح العظيمة القديمة.
ولكل عقل ذاكرة خاصة به، ووعي مخصوص، في بناء مرصوص، من عظيم قدرة الله، الذي يرى ويسمع ويبصر، وفي ذلك ما يفوق مسمى العقل، إلى ما يليق بعظمة الله.
ضحك صالح والدموع تنساب من عينيه ثم قال: اعذرني يا معلمي وشيخي، أنا فقط أضحك من نفسي، ومن الشيخ تيسان الذي كنت أراه أعلم أهل الأرض، والآن وقد سمعت بيانك أقول: كل الكائنات لها عقل، إلا ذلك الدعي، فهو لا يعقل، ولا يعقل من اتبع نهجه شيئا.
أجابه المعلم: لهم عقول لا يعقلون بها، وأعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا.