5 دقائق للقراءة
الغريب الغريب الغريب.
سئمنا هذا الإسم.
قال أحدهم وهو ينفث دخان سيجاته كأفعى سوداء.
لماذا يتكلم الناس في كل مكان عنه، من هو وماذا يمثل، هو لا شيء، مجرد دعي كذاب.
كان ذلك واحدا من كثيرين مر بهم الغريب في حياته منذ سطع نجمه أول مرة في تلك المدرسة ثم المعهد ثم الجامعة ثم المدينة فالبلاد فالعالم.
وفي كل مرة يحرك كبير الشياطين بيادقه من ضعاف القلوب ومرضى الأنفس فلا يملكون التحكم في كرههم وحسدهم له دون أن يكون لذلك أي سبب ظاهر.
وعلى الضفة الأخرى كانت عوالم النور توقظ محبته في قلوب الخيرين، وكانت أعدادهم تزداد باطراد، وكان ما ممكنوا منه البشر مساعدا على ذلك.
الغريب المعلم كان بارعا، والغريب الشاعر كان مبدعا، والغريب المقاتل كان منقطع النظير، أما الغريب الإنسان فقد كان غريبا بحق، بكل ما تحمله الغربة من معنى.
وكان عندما يمر بذلك الشاطئ ويرى المصطافين أو يدخل سوقا أو مكانا مكتظا يشعر بضغط شديد، لأن قواه التخاطرية تتفاعل مع الهموم والمشاغل والأصوات الداخلية لكل من يمر بهم.
وكان يلازمه شعور موجع أنه ليس من العالم الذي يعيش فيه.
ولكن تلك المشاعر سرعان ما تختفي أمام مهماته التي لا تنتهي، وشعوره بضيق الوقت كلما اقترب الوعد.
عندما كان طفلا زاره تايبنغ، مع بعض تلاميذه، وشرعوا في تعليمه فنون الدفاع.
وحين صار يافعا، تجسدوا أمامه، وحرك لونغ دوامة رمل تحركت حوله ورأى حركتها وتابعها، وكان يرى كيف أن التراب كان يدور حوله بسرعة ولم يكن يلمسه.
وكان يغمض عينيه فيراهم يتحركون بسرعة ومهارة.
صحيح أن قواه لم تتحرر إلا بنسب قليلة، ولكنه كان أحيانا يقوم بختمات فيتحرك بسرعة كبيرة، سواء بحركات اليد والساق، أو حركات السيف التي كان ينفذها مستخدما العصا.
لقد علمه تايبنغ فنه الخاص، وعلمه تلاميذه فنون العناصر والأساليب والأنماط، وبرع في فن النمر وعشقه، وانساب مع فن الأفعى، وتدرب فوق الصخر ليلا على الشاطئ ليتقن فن اللقلق، وكان يتحرك بسرعة فائقة أذهلت أحد أصحابه حين رافقه ورآه، وتدرب على فنون التراب، ومكث عامين يتدرب في البحر حتى انسلخ جلده، في البرد الشديد والريح العاصفة، أو تحت الشمس الساطعة القوية الثاقبة، وكان ينشد الأشعار وقد تخلى عن كل شيء.
ورغم أن الغريب كان شغوفا بالقراءة، فإنهم ألهموه ما يفوق ما قرأه، واتخذوا المقروء سلما ليصل به إلى علومهم، ليس أكثر.
وحين نطق بشيء مما تعلمه، وأظهر بعض الحركات والختمات، عرف أهل السطور قصورهم أمام أهل الصدور، ولكن الحسد أعمى طائفة والغرور صد أخرى، ولم يثبت وينبته إلا قلة.
وكان أحيانا يريهم ختمات العناصر، فيضع يده على الأرض فتسحب هذا، أو يشير إلى آخر فيبدأ في التحرك بشكل دائري كأن إعصارا في جسمه، أو يجعل الحرارة قوية في جسم هذا والبرد شديدا في جسد ذاك.
وكان حين تتحرر قواه قليلا يمسك الشجرة الغليظة التي لا يمكن لزمرة من البشر تحريكها، فيهزها حتى تنكسر أغصانها، ثم يضحك في الصباح حين يجد الناس من حولها يتساءلون، وحين يجد جسده عاجزا عن تحريكها قيد أنملة.
أو كان يمسك حطام سيارة فيمزق حديدها كأنه ورق، ويهزها ويعجن هيكلها بيده، أو يدخل اصبعه في باب حديدي فيثقبه، أو يطوي البلور والسكاكين طيا، أو يكسرها على رقبته.
كل هذه التمظهرات كانت تبهجه في البداية، دون أن يستغرب شيئا منها أو يشعر بالغرور، ثم تركها ولم يكن يريدها إلا أن تمظهرت من تلقاء نفسها، لأن تمظهره كان يزيد إحساسه بالغربة، ولأنه كان يريد تمظهرها عند الاكتمال في أمور تستحق.
إلا أن تلك التمظهرات كانت ضرورية لحمايته في تلك المرحلة الأولى من مراحل معرفته بحقيقة ذاته، وفي مناسبات كثيرة بعدها.
لقد حرص تايبنغ على تعليمه أهم القواعد، وعلى إعطائه عمق معاني الحركات وفنونها، لأن فنون الدفاع لا تتعلق فحسب بالحركة، بل بمعناها وسرها.
وكان يلقي في روعه قواعد مهمة، وطلب من لونغ أن يعلمه كيف يتحكم في طاقة غضبه، في حين علمه فودجا فن النمر، وأتقنه بشكل مذهل. ولقد كان مولعا بشخصية كرتونية بطلها اسمه النمر المقنع، ثم علم أن جميع المجاميع والدوائر العليا كانت تتفق على تسميته بذلك الاسم، وتنتظر أن تنتهي غربته، وينزع قناعه، ويصدم العالم، خاصة من عرفوه قبل الاكتمال، واتخذوه سُخريَّا.
غربة الغريب كانت قاسية، وكانت تؤلمه وتثقل عليه، لكن أشد ما فيها معرفته أنه الرجل الموعود، وتذكره لأولئك الأحبة الذين كان يود لو كان معهم، ونافح معهم، ودافع عنهم، وقاتل مع مقاتلهم، وقُتل مع من قُتل منهم.
وكانوا يحبونه، وكان يحبهم، وكان بينه وبينهم مناجاة وزورات وأحوال، وكان يبكي كثيرا، حتى يحترق كيانه، وينافح بعلم وبينة، ويشعر بثقل أمانتهم، ويتهيب أنه من سيأخذ بحقوقهم، من أهل عقوقهم، ويقوم مقامهم، ويرث علومهم وفهومهم، ويجلي سرهم، وينشر في العالمين عطرهم.
وما كان أشدها غربة، وأعسرها مهمة.
ومن وجوه غربته غرابة أحواله، خاصة مع بدايات تمظهر ما كان مخفيا عنه فيه، وكان ذلك مباغتا، حين بلغ الخامسة عشر، ثم حين بلغ العشرين، وبعد تلك الليلة التي عرف فيها من يكون، تطورت الأمور بشكل متسارع لم يقو على متابعته، لكن كان في مقام التسليم، وذلك خفف غربته، وهوَّن عليه صعوبة كل امتحان.
ويذكر كيف كان نائما ذات ليلة، واستيقظ ثم نظر بجواره، فرأى جسده، جسمه الذي كان يظن أن لا وجود له خارجه، حرك يديه خارج هيكله الطيني فلم يرهما، نادى صاحبه الذي يشاركه الغرفة وهو يأكل الطعام: أنا لا أرى يدي، لكن صاحبه لم يكن يسمعه.
بدأ يدرك وجود حياة خارج الحياة، أو حياة خارج الجسد والجسم والمادة، بمادة أخرى وطبيعة أخرى، ليست سوى الموت نفسه.
ومع تطور الأمر صار يستطيع لمس يديه الجسديتين بيدين تتحرران من جسده.
ولم يكن يعرف بعد معنى البدن أو الجسد الأثيري، ولا كان يدرك معاني ما سمي بالإسقاط النجمي، ولم يتصور أن يجرب ذلك لأعوام، حتى صار يخرج من جسده كلما استلقى قليلا على ظهره.
وفي تلك الحالات كان يرى مشاهد كثيرة، وما يزال يذكر كيف وجد نفسه يرتفع فوق الكوكب حتى نظر تحته ورآه صغيرا، وقال لسيده أنه يريد النزول، وسقط في جسده مع شعور قوي بالسقوط.
ومرة أخرى استيقظ وهو فوق المكان المقدس، وكان يصرخ وينادي ويبكي، ثم أيقظه صوت وهو يقول له: جسدك لا يمكن أن يتحمل أكثر.
ثم كان أن حمله كائن ما من بدنه ووجد نفسه في عالم من العوالم العليا، وكان واعيا بالرحلة، متيقظا رغم أنه جسده كان نائما.
وقف تحت شجرة ونظر إليها، وكانت أغصانها تخترق السماء صعودا، ورأى السحاب يمضي في أفق هرمي، ولم يكن في ذلك العمر يعرف أنها شجرة الحكمة وأن من حمله هو التنين الأبيض الكبير ليوقظ فيه بعض القوى في جبل الخلود.
واستيقظ يوما وقد طلع الصباح وهو نائم خارج المنزل صيفا، ولكن حين نظر رأى النجوم قريبة منه تشع بقوة، واستيقظ أخرى ونظر في الظلام بشيء كالشعاع يخرج من عينيه.
وكان أن بلغ تحرره روحا ليدرك معنى الروح، ثم نزلت الروح في البدن وتماهي البدن مع الجسد، وكل ذلك عاينه وعاشه ولم يكن شيء منه وهما، لأن الأوهام لا ترقى إلى ذلك المقام.