2 دقائق للقراءة
لأيام طويلة لم يكتب إليها شيئا.
كان يشعر بفراغ كبير في قلبه، بخواء رهيب في عقله، وبصراخ يمتد على مساحات روحه الممتدة في عوالم لا يكاد يحصيها.
هل يمكن أن يفقد الشاعر موهبته فجأة.
أن يتخاصم الرسام مع الألوان.
أن يهجر العازف قيثارته ويقتل ألحانه ويعدم موسيقاه.
أن يختار الفيلسوف الصمت أمام اعوجاج العالم، وأن يغمض الأديب عينيه عن سوء أدب الواقع.
لأيام طويلة كان كفلاح قطعوا يديه، ووقف ينظر إلى حقله عاجزا، ويود لو لمست أنامله غصن شجرة او بتيلات زهرة يانعة.
كمحارب عظيم فقد عينيه في معركة، وأصابه رمح في كبده، وأعجزته الطعنات عن الحركة، فجلس يستذكر ماضي بطولاته، ويحاول أن يرى تسلل الضوء إلى عينيه، يريد إعادة رسم الملامح والوجوه والأعلام الخفاقة والسهام التي يتفاداها وتلك التي تصيبه حتما، حتى وجه الحسناء التي رآها مرة قرب نهر فاهتزت خوفا وطعنته بنظراتها، فكان ذلك اشد ما آلمه.
لأيام مضنية فارغة، لم يكتب، ولم يرسم، ولم يعزف، ولم يمارس فنه الدفاعي، لم يبتسم.
كان يجلس في قصره الواسع، وكانت تخطر على باله وتطوف بخياله دون ان تكلمه.
أراد أن ينادي الحراس ليقبضوا عليها، لكن كيف يمكن القبض على طيف.
منذ أن أصبح ملكا، ولبس التاج الذهبي المرصع بالماس والياقوت، شعر انه فقد شيئا من روحه.
كانت الصين شاسعة، وقد وحدها أبوه الامبراطور العظيم، ولكنه كان يجدها أضيق من تابوت الموتى، أشد ضيفا من نفس الحسود، ومن قلب الحقود، ومن فكر الجاهل.
لماذا سيكتب إليها، فهي ليست سوى وهم من صنع خياله، ملكة على قصائده التي لا يجرؤ على اظهارها، نغم في موسيقاه التي يعزفها للجدران، جدل في فلسفته التي يخفيها عن حكماء قصره الذين لا يتصورون أنه يرى العالم من تلك الزوايا العصية على أكثرهم حكمة وأعمقهم فكرا وابعدهم بصيرة.
لقد كانت حياته صعبة، رغم أنه كان الأمير المدلل، لكن والده لم يستمع لتوسلات أمه، وأرسله إلى الحرب يافعا، ليختبر قدراته، فكان مذهلا كطائر سماوي، قويا كمردة الجن في حكايات أهل القرى البعيدة.
هل يكتب إليها مجددا!!!
لقد تخيلها طويلا حتى صدق وجودها، وكتب إليها كثيرا حتى ظن انه يرى ابتسامتها وهي تقرأ قصائده الجميلة وقطعه النثرية الرائعة وحكمه العظيمة.
الآن يقطع الشك باليقين.
سيحرق كل ما كتب إليها.
سيحرق مشاعره التي يكنها لامراة من صنع أوهامه.
نهض مسرعا وأتى بشمعة.
جلس على كرسيه وقلبه يخفق بقوة.
تنفس بعمق.
طافت روحه بالأرض كلها، فرأى الحقول الواسعة والاراضي الشاسعة والقرى الوادعة. رأى الأنهار الجارية واسراب الطيور وقطعان الخيل والأيائل.
رأى مملكته وجيوشه ورعيته الطيبين، وعيون الاشرار المتآمرين كقطعان من الذئاب السوداء.
رأى الأفاعي تنساب وكأنها تدبر أمرا.
رأى ما لم يره من قبل من جمال الوجود.
شعر بالهواء كما لم يشعر به من قبل.
قرّب البردية التي كتب عليها بعض قصائده من الشمعة بيد مرتجفة.
الان أحرقك واتخلص من أوهامي.
هبت نسائم من خلفه فجأة فحركت الستائر.
شعر بحركة خفيفة كتسلل قاتل من مقاتلي الظل.
احس بثوب شفاف طويل وشعر منساب يجري خلفه.
وُضعت يد رقيقة على كتفه، ناعمة بيضاء كثلج الشمال.
اقترب وجه مضيء من أذنه وهمس بصوت كأنه السحر القديم: انا لست وهما.