11 دقائق للقراءة
منذ صباه، كان الغريب مولعا برجال الوقت، محبا لهم، وقد ألقى الله في قلبه ذلك الحب، وزرعه في كيانه زرعا.
ولم يكن ينسى يوما ما رآه ليلة أنقذ غوث حياته وهو طفل صغير حين تهدم السقف.
وكان في حبه ذاك متماشيا مع بيئته وطباع قومه وأهل بلاده المولعين بحب الصالحين، ومدحهم وزيارتهم.
ولكن الغريب فاق المحبين، لأنه لم يكن فقط محبا، بل كان في الأصل والوصل محبوبا، ومقام المحبوبين أغلى وأعلى من مقام المحبين.
لقد كتب الغريب الأشعار في مدح أحبابه رجال الوقت الكرام، وأنشد الأناشيد، في أيام المنح والفرح، وأيام المحن والقرح.
وبعد بلوغه مستوى التكامل ومقام الانتفاء، وتجاوزه لمقامات عديدة في سيره وسلوكه، كمقام التشريد والغربة والوحشة، وهو ما يكون لزاما لصهر معدن الروح وتنقية القلب، ثم مقام الفناء ومقام البقاء ومقام الاستواء، حيث يفنى عن كل شيء، ويتصل بكل شيء، ويستوي عنده كل شيء، وكانت تلك المقامات التسعة والتسعون مضنية فعلا، وقد يأخذ المقام الواحد عاما أو أكثر، أو يأخذ أشهرا فحسب، وفق مصفوفة ربانية وحكمة بالغة عليها من العوالم ما عليها إشرافا وتنفيذا، ولكل مقام أحوال وأذواق ومعارف، وفي كل مقام عرفان خاص، وتجليات خاصة.
عند بلوغ المقام السابع والثمانين ثم ما بعده بدأت تتكثف زورات رجال الوقت له، بعد أن كثّف زياراته لمقاماتهم سنين عددا.
في هذا الخضم زاره خمسة منهم، يناقشونه عن الجنون، والشعر، والعشق، والحكمة، والإرادة بين مريد ومراد.
وكانت من مقامات مر بها، وامتحانات تجاوزها، وأسرار غاص في أعماقها وسبر أغوارها سبر العالم الحكيم، ولقد كان الغريب عالما عاملا، ولم يكن ممن يخالف قوله عمله، وكان نزيها مع نفسه ومع الآخرين، رغم إدراكه لعمق قوة الشر التي امتحن بها، والتي تمكن من لجمها وحبسها في قمقم، والتفنن في علاجها، منتظرا صابرا لليلة الاكتمال، عارفا بذاته وحقيقة أمره، لا يهمه من خالفه، ولا يغرّه من أيده، ولا يخيفه من هدده، ولا يثنيه عن عزمه شيء، وليس في الخلق مخلوق يخشاه، إنما يطلب رضوان سيده ومولاه.
وكان عليه أن ينتظر ثلاثين عاما، وكان أن سأل القائد بيهاردن مرة عن حكمة إطْلاعه المبكر على حقيقته، وكيف سبب له الأمر مأساة عظيمة وغصصا أليمة، فأجابه: كان يمكن أن لا نطلعك على شيء، حتى ليلة الاكتمال.
لكن لا يجب أن يسبقك غيرك الى أمرك، أو يطلع عليه من البشر أحد قبلك.
كما أن انتظارك ثلاثين عاما سيكون فيه صقل وصبر عظيم.
فقال الغريب: آمنت وسلّمت، والأمر كله لله، يا عزيزي محي الدين.
ولم يكن في طوية نفسه يبالي بشيء مما وُعد به، فقد بلغ من الإحسان مقاما لم يكن يرى فيه إلا ربه.
وكان يقول مناجيا: لن أكون كغوي الجن، الذي طمع أن يكون خليفتك في أرضك، ثم حين تبين أنه مخلوق سواه كفر وعصى.
لو أن هذا الأمر يكون لغيري ولا أكون فيه سوى وسيلة إلهاء، فلست أعترض.
ولو أنك كتبت علي أن أكون في كتاب الأشقياء، وبان لي أن ما أدعيه من حب منك لي ليس سوى توهّم مني، فسأخلد في النار وأنا أتنعم بذكرى شعوري أني من أحبابك وأنك محب لي.
وكان يبكي بمرارة حتى ينزل بيهاردن أو المعلم الأعظم فيسكنون لواعجه.
ومرة بلغ منه البكاء مبلغا عظيما، وكان يتخفى به عن أعين الأقربين والأبعدين، واستمر معه الحال أياما، حتى ظهر أمام عين روحه محي الدين والسياف الأعظم الذي وضع يده على قلبه وقال له إن سيدة الملكوت لا تريد أن تراك هكذا.
ولم تكن سيدة الملكوت سوى زوجة السياف الأعظم، وأم الغريب بالدم، وشقيقته بالروح، وكم سعد حين أخبره شقيقه الأصغر أنه رآها في رؤياه بعد أن شاهد بعين رأسه طبقا ضوئيا يسعى مسرعا بين النجوم وشهبا كثيرة تتالى ولم تكن شهبا، ثم نام ورآها تقبل من السماء في شكل نسر أبيض مع محفل من بناتها وأخواتها ونخبة من ملكات الروحان، ثم نزلت وتشكلت في شكلها البشري وزارت مكانا كان يقيمه، ورأى السياف الأعظم يراقب بملابس بيضاء وعمامة خضراء وهو يقف في جو السماء.
ولم يكن السياف الأعظم سوى توأمه القديم، وجده في سلالة الطين.
وكان ذلك أعجب من أن يصدقه بشري، حتى لو قرأه أو عاينه.
فكان في تلك اللمسة القلبية والنظرة العُلوية تسكين له، من حنين يحرقه إلى قوم كان منهم ومعهم، ثم نزلوا عالم الفناء قبله وأتاه من بعدهم، ولم يتحمل أن يكون في مكان لم يعودوا فيه.
وكان يضرب على ذلك مثل قطرات الغيم المجتمعة في الغيمة، وكيف يكتب الله أن تنزل قطرات في مكان وزمان، وأخرى في مكان وزمان غيره، وكيف يحن الماء لأصله، وتحن القطرات لبعضها، في انتظار أن تتبخر مجددا، وتجتمع في غيمة السماء النقية، بعد متاهات الأرض الموحلة.
وكان لا يرى الدنيا إلا سجنا، ولا يرى الوجد فيها إلا بعين الفقد، ولا يرى الفقد إلا بعين الوجد.
قال له مجنون مبتسما: ما الجنون، وما حكمته.
أجابه: إن الجنون باب يفتح على عالمين: فجنون يفتح على عالم تُسلب فيه العقول.
وجنون يفتح على عالم تُسلب فيه القلوب.
فأما الجنون الذي تسلب فيه العقول، فإما رحمة أو نقمة.
فهو رحمة لمن لم تتحمل عقولهم هول ما أصابهم.
وهو نقمة لمن لم تتحمل الدنيا أن تراهم عاقلين.
وأما الجنون الذي تسلب منه القلوب، فسكر أو فكر.
فأما جنون السكر فهو النظر إلى جمال المعشوق، ومن نظر بقلبه إلى معشوقه سُلب لبّه، وغلب حُبّه، وجنّ قلبه.
فإذا كان ذلك مما يعتري العاشق للمخلوق، فكيف يكون حال العاشق للخالق.
وأما جنون الفكر، فنظر في الجمال، وتفكر في الآية الجلية، والآيات الخفية، حتى ينبض العقل في القلب، ويسري القلب في العقل، فيكون من ذلك السريان حال افتتان، فيقع القلب في أسر الجمال، ويجن من فكره فيه حتى يغيب الفكر عنه.
وإن كان ذلك من مرايا الجمال، فكيف بعين ذات الجمال.
وكل الخلق مرآة جمال الخالق، أما هو فهو عين ذاته.
بدا الانبهار على مجنون ومن كان معه، وعرفوا أن الغريب غريب حقا في الفهم والنظر.
تنهد عاشق وقال: ليسمح لي أخي الشاعر أن أسبقه: عرِّف لنا العشق.
قال الغريب: العشق سبعة بحار، ولكل بحر سبعة شواطئ، في كل شاطئ سبعة مدن، ولكل مدينة سبعون بابا.
فأول البحار بحر الجلال، وشواطئه التسليم والتعظيم والرهبة والافتقار والذل والخضوع والخشية.
وثاني البحار بحر الجمال، وشواطئه النظر والشغف والوله والتيه، والاحتراق والاشتياق والتلف.
وثالث البحار بحر الكمال، وشواطئه اليقين والسكينة، والأنس والرغبة والمحق والحق.
وخلف تلك البحار أربعة أُخر: بحر الدلال وبحر الوصال، وبحر الحال، وبحر الفناء والبقاء.
ولكل هذه البحار شواطئ، ولكل تلك الشواطئ ما ذكرت لكم من مدن وأبواب.
فعاشق الجلال مسلّم لصاحب الجلال، معظّم له، في رهبة منه وافتقار إليه، ومذلة له، وتمام خضوع وخشية.
وعاشق الجمال نظر إليه بأعين ثلاث: عين قلبه وعين عقله وعين روحه.
فلما نظر بعين قلبه افتتن، ولما نظر بعين عقله تحيّر، ولما نظر بعين روحه هام.
ثم أصابه الشغف، فتمادى به إلى الوله، فألقى به الوله في التيه، فأوصله التيه إلى الاحتراق، فبلّغه الاحتراق شاطئ الاشتياق، فلما بلغه ضربه موج التلف حتى لم يبق منه شيء.
أما عاشق الكمال فذو يقين في سر الكمال وصاحبه، وإلا لما عشقه، فلما استقر على شاطئ اليقين فتحت له أبواب السكينة، فلما بلغ السكينة استشعر الأنس بعد الوحشة، فسرت إليه الرغبة في أن يكون أكمل في عين محبوبه كما محبوبه كامل في عينه، حتى قال قول زيننا: أنت كما أحب، فاجعلني كما تحب.
ولما كانت رغبته في صاحب الكمال الكامل رغبة كاملة، صار كل شيء في عينه محقا، وعند ذلك المحق ظهر له الحق، فعلم علم اليقين، وعاين عين اليقين، وشهد حق اليقين.
ومتى بلغ العاشق تلك الشواطئ فتحت له المدن أبوابها ونال من سرها وخيرها وعلومها وكنوزها.
ومن جاوز تلك البحار كان في الدلال والوصال، ودخل في أطوار الحال، ثم تقلب بين الفناء والبقاء، حتى رأى الفناء عين البقاء، والبقاء عين الفناء، وحتى لمس الوجد في ذروة الفقد، ولامس الفقد في منتهى الوجد.
ولولا ضيق المجال لفصلت لكم بقية شواطئ البحار والمدن وأبوابها وما فيها من كنوز ومعاني وعبر.
وكل هذا في مقام عشق المحبوب المرغوب المطلوب، وكل محبوب ومرغوب ومطلوب دونه إنما هو منه.
ومن كانت الجنة قبلة حبه كان محجوبا، بل العشق أن يكون المحبوب غاية المطلوب وتمام المرغوب، وسوى ذلك مستمد من ذلك.
فأعلاه حب الأحب إلى الله، وأدناه حب ما وهب الله في دنيا أرادها سبيلا إليه، وجعل فيها دليلا عليه.
صفّق العاشق، وتمايل طربا، وهام من معه، وقال: تالله لقد ورثت علوم آبائك.
رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت.
إنه حميد مجيد.
قال الشاعر: إن الشعر في زمني غير ما آل إليه في زمانك.
فكيف ترى الشعر جوهرا ومعنى.
نظر غريب إلى عيني الشاعر ثم قال له: في كل الذوات التي تسكنني، أقف احتراما للشاعر، فقد آنس وحشتي، ورافق غربتي، وسايرني منذ الصبا، وضمد جراحي حين تحطم قلبي وتكسرت أجنحتي، وكان معي حين استبد بي المرض وأوغل فيّ الألم، حيث لم يكن للمحارب أن يتدخل، ولا لبقية الذوات التي اكتشفتها في ذاتي.
فأنا إنسان، رغم كل ما قيل لي عن وجود كائن قديم أفنى نفسه وسكنني، أو كائن سفلي كان لزاما أن يكون لأكون.
أنا في الحقيقة لا أملك إلا وجعي، وذلك الوجع هو الذي صيّرني شاعرا.
والشعر إن أردت أن أصف جوهره، فهو من جواهر الروح، لأن الأرواح شاعرة منذ خلقها.
أما إن رمت معناه، فهو المعنى الأزلي للجمال حين يُصاغ في لغة وينساب في موسيقى وينهمر في كلمات.
أما إن أحببت أن أحدثك عن الشعر بلسان الشعر فإني أقول:
الشعر روح وهذا القلبَ يَسكنهُ
وجع قديم ونزف الحرف يُسكنهُ
والشعر كالطيف إمّا جئت أرقبه
والشعر كالسرّ دار الخلد مسكَنُهُ
والشعر لم يبرح العشاق ساحته
والشعر للعشق بين الناس موطنُهُ
والشعر نبض الفتى إن بات في ولَهٍ
حــال الفراق بُعيــد الوصلِ يـحزنهُ
فالشعر سمو روح، وانسياب نغم، وجمال مبنى، وعمق معنى، وأصالة حرف، وتجدد صورة، وفرادة لفظ، وجمالية إيقاع، وصدق شعور، وغزارة خيال، وسعة إدراك، وعذوبة كلام.
والشعر ثمار الروعة، التي نقتطفها من أشجار اللوعة.
اهتز الشاعر وقال: بأبي أنت وأمي، لله درّك، لقد أصبت كبد المعنى.
كان حكيم يصغي بعناية لكل حرف قاله الغريب، متذكرا الألف عام التي كان فيها مع رجال الوقت والبرازخ يراقبون الشجرة المباركة وأفذاذها يبهرون الزمان كلٌّ في ميقاته.
قال للغريب: إن لك في الحكمة باعا، وقد درست على يد معلمنا ولي الله، ووهبك الوصايا، وأشرقت حكمه في قلبك عشرين عاما، كما أنك مُنحت من حكمة حكيم الرواحين، وورثت من حكمة آبائك، فحدثنا عن الحكمة.
عدّل الغريب من جلسته وقال: الحكمة حُكم المنطق على دولة العقل، وسلطان الفكر على مملكة الحواس، وانفجار أنهار المعنى في حجارة المبنى.
وسمو القلب حتى يكون عقلا، وسمو العقل حتى يصير قلبا، وانصهارهما معا لينطقا بلسان الروح.
وتجدد القديم في الجديد، ورؤية الناموس ببصر من حديد، قد كُشف عنه غِطاؤه، وجاء مددا عطاؤُه.
والحكمة وهب الحكيم، وإيتاء السميع العليم، يؤتيها من يشاء، فيجعلها جوامع في كلِمه، وفصلا في خطابه، ورَشدا في فهمه، وصوابا في رأيه، ودقة في نظره، وقوة في بيانه، وفيصلا في برهانه.
والحكمة حجة الحق، ولسان البيّنة، وتجلي حقيقة القوة بقوة الحقيقة.
وقد مضى إليها من مضى، وصدر عنها من صدر، ورجع دونها من رجع، وأصاب عينها من أصاب، وأخطأ جوهرها من أخطأ، وشرب من معينها من شرب، وادعاها من ادعى، في زخرف لفظ، أو دعوى تفلسف.
وكان للبشر في تاريخهم فلاسفة يعالجون لغز العالم وحيرة الإنسان، بين من تكلّم في الهيولة، ومن تحدَث عن أصل العالم، ومن رام التفسير على وجه الظن.
ومن أراد الخديعة بادعاء الحجج، ومن خدم الباطل بأقنعة الزيف التي يتراءى من بريقها برق ما هو ببرق، ويُسمع في جلجلتها رعد وما هو برعد، ويمطر من وهمها مطر وما هو بالمطر، فحرّفوا المعاني، وأحرقوا المباني، وضيعوا الأخلاق، وتوّهوا الناس في مهامه العقم، مدعين أنهم يوردونهم موارد العمق، ويسقونهم عصارة الفكر، في ميل من شذَّ من الإيمان إلى الكفر.
ثم خرج قوم في حثالة من الزمان، وضحالة من الأفكار، وضآلة في القيمة، وانسلاخ عن القيم، يرطنون عن حرية يَدْعُونها، وقوة يدَّعُونها، وسعادة يلهثون خلفها.
يطاردون خلودا لا يدركونه، ويتناسون موتا لا محالة مدركهم.
وإن عين الحكمة للمخلوق أن يدرك أن الحرية في العبودية، وأن القوة في الخضوع، وأن السعادة في يقين المحبة منه، وإخلاص الحب له به.
فالحكمة ربانية المعين، لدنية المصدر، قام عليها رجال، ونبغ فيها آل، وصدع بها نبي، وبلغ ذروتها وصي، ونطق بها ولي، وشرب رحيقها صفي، من يد خضراء، في كأس بيضاء.
قال حكيم: لعمري ما سمعت بمثل هذا من قبل.
وإنما أنتم معين كل حكمة، وعينها، وجوهرها.
كان مريد يستمع منذ بداية المجلس، وقد أغمض عينيه، وأمسك مسبحته التي تشع في يده.
راق له ترقرق العبارات، ورقي الإشارات، وشاهد بروحه ما خلفها من البشارات.
فقال للغريب: حدثنا عن الإرادة، وعن المريد والمُراد، وما يفرق بينهما، وما يجمع.
وأوجز لنا العبارة، وأوسع لنا الإشارة.
أغمض الغريب عينيه، حتى بدا وكأنه قد تقمص ذات مريد، فعرف القوم أن للرجل قوى تقمص مما أوتي معلمهم، وقال بنبرة شبيهة بنبرة مريد: الإرادة أن يريدك، فتريده، وتريد ما يريد، وتريد أن تكون كما يريد، وتفعل ما يريد، وترضى بما يريد.
والإرادة عزم وجزم وحزم وهمّة، لما كلّفك من مُهمّة.
وأما المريد فقد أراد ربّه، فركب قلبه، وسلك دربه، داخلا بالذلة في القلّة، حتى يكسى تلك الحُلّة.
والمراد أريد قبل أن يُريد، ودعي قبل أن يدعو، وقُصد قبل أن يقصد، وكان محبوبا قبل أن يكون محبّا.
ومن خطبته الحضرة نالته، وما كل من خطبها نالها.
وكل مريد لا بد أن يبلغ مقاما يكون فيه مُرادا.
وكل مُراد لا بد أن يصل مقاما يكون فيه مريدا.
لأن المريد حين يوصَل، يدرك أنه لو لم يكن مُرادا من قبل أن يريد، لما سلك وأراد.
والمراد حين يصل، يريد ما أريد له.
فما يفرق بين المريد والمراد أول الطريق، وما يجمع بينهما منتهاه.
وما يفصل بينهما الطريقة، وما يوحّد بينهما جوهر الحقيقة.
فطريقة المريد تحقيق، وطريقة المراد تحقق.
فالمريد يريد تحقيق ما يريد، والمراد يروم التحقق مما أريد له.
وحقيقتها أنهما في سر “وما فعلته عن أمري”، سواء إن قال قائل منهما “فأردت أن أعيبها”، أو قال آخر “فأراد ربك أن يبلغا أشدهما”، ولكنهما سيقولان عند تمام الوصل والوصول: فأردنا أن يبدلهما ربهما.
فهنالك تتحد الإرادة، وينصهر المريد في المراد، والمراد في المريد.
وكل ذلك بإرادة الله، والله فعال لما يريد.
وقف مريد وقبَّل جبينه، وأعطاه مسبحته التي لم تفارق يده ألف عام وهو يقول: أنتم يا سيدي هو أنتم يا سيدي، ونحن جميعا مريدون لكم، ولآل أنت منهم ونحن منهم، وكل مُراد لا يكون إلا منهم، أو مواليا لهم صادرا عنهم.
حين غادروا مجلس الغريب، كان كل واحد منهم يرى ذاته فيه.
فُـتحت لهم البوابة، فدلفوا إلى الجزيرة، حيث وجدوا معلمهم مع صالح وسكران، ثم نزل سرب من حمام وصقور ونسور وبواشق من غيمة نورانية وسرعان من تمثلوا على هيئة البشر وظهر بينهم غوث وبقية الديوان، وتحدثوا عن الغريب وحاله، وعن نفحاته وكلماته، فتذكروا قول السياف الأعظم حين حدّث ابنه عنه قائلا: طوبى لمن حضر أيامه، وسمع كلامه.
فقال سكران وقد سكر بالمعاني: إن كان هذا حاله في التكامل، فكيف حاله في الكمال.
ما لا يمكننا الآن تصوره، أجاب غوث، إنه الموعود الذي طال انتظاره، وهو طاووسنا في العالمين.
لم يكن الغريب يرى في نفسه شيئا مما حدثوه عنه، ولم يكن يبالي أن يكون الطاووس أو مجرد غبار. وكان يقول أنا غبار في غبار.
وحين يذكرون له كلاما عن طاووس القوم، يجيبهم: الذيل ليس لي، ولا زينته ملكي، إنما ذلك جمال من أنا منسوب إليهم ومنتسب لهم، وما قدموه بمهجهم ودمائهم الزكية وآلامهم التي لم يتحمل مثلها مخلوق. أما أنا فلا أملك إلا بشاعة قدميْ الطاووس، بشاعة ذنوبي وسوء صنيعي، وتيهي الطويل عن درب خالقي.
وكان في حال صلاته قوّاما، وفي حل مناجاته لنفسه لوّاما، خاشعا كالنسر، كثير بكاء، إلا أن تلونات أحواله وتنوع تقمصاته ومهماته كانت تفرض عليه أن يخفي حتى دموعه، وأن يحافظ على خفاء أمره، وخفي سره.
في مجالس الغريب التي كان يحضرها بعض أحبابه وتلاميذه، إثر انبعاث صدوق وصادق ليشدا عضده، كان غوث ورجال الديوان يحضرون جميعا، ويتجلون في بيانه وكلامه.
ولقد كان في فكر وذكر، وسكر وشكر.
حتى مضى الزمان، ودنا الأوان، وآن له أن يقوم بما كان عليه أن يقوم له، وأن يقوم به، ليستوي قائما، كما أراد له ربه.