3 دقائق للقراءة
هذه هدية من روايتي الغريب، الرواية الثالثة في سلسلة الروايات بعد رواية المعلم والتنين ورواية ولي الله.
قال له مجنون: ما الجنون وما حكمته.
أجابه: إن الجنون باب يفتح على عالمين: فجنون يفتح على عالم تُسلب فيه العقول.
وجنون يفتح على عالم تُسلب فيه القلوب.
فأما الجنون الذي تسلب فيه العقول، فإما رحمة أو نقمة.
فهو رحمة لمن لم تتحمل عقولهم هول ما أصابهم.
وهو نقمة لمن لم تتحمل الدنيا أن تراهم عاقلين.
وأما الجنون الذي تسلب منه القلوب، فسكر أو فكر.
فأما جنون السكر فهو النظر إلى جمال المعشوق، ومن نظر بقلبه إلى معشوقه سُلب لبّه، وغلب حُبّه، وجنّ قلبه.
فإذا كان ذلك مما يعتري العاشق للمخلوق، فكيف يكون حال العاشق للخالق.
وأما جنون الفكر، فنظر في الجمال، وتفكر في الآية الجلية والآيات الخفية، حتى ينبض العقل في القلب، ويسري القلب في العقل، فيكون من ذلك السيران حال افتتان، فيقع القلب في أسر الجمال، ويجن من فكره فيه حتى يغيب الفكر عنه.
وإن كان ذلك من مرايا الجمال، فكيف بعين ذات الجمال.
وكل الخلق مرآة جمال الخالق، أما هو فهو عين ذاته.
بدا الانبهار على مجنون ومن كان معه، وعرفوا أن الغريب غريب حقا في الفهم والنظر.
تنهد عاشق وقال: ليسمح لي أخي الشاعر أن أسبقه: عرف لنا العشق.
قال الغريب: العشق سبعة بحار، ولكل بحر سبعة شواطئ، في كل شاطئ سبعة مدن، ولكل مدينة سبعون بابا.
فأول البحار بحر الجلال، وشواطئه التسليم والتعظيم والرهبة والافتقار والذل والخضوع والخشية.
وثاني البحار بحر الجمال، وشواطئه النظر والشغف والوله والتيه والاحتراق والاشتياق والتلف.
وثالث البحار بحر الكمال، وشواطئه اليقين والسكينة والأنس والرغبة والمحق والحق.
وخلف تلك البحار أربعة أُخر: بحر الدلال وبحر الوصال وبحر الحال وبحر الفناء والبقاء.
ولكل هذه البحار شواطئ، ولكل تلك الشواطئ ما ذكرت لكم من مدن وأبواب.
فعاشق الجلال مسلّم لصاحب الجلال، معظّم له، في رهبة منه وافتقار إليه، ومذلة له، وتمام خضوع وخشية.
وعاشق الجمال نظر إليه بأعين ثلاث: عين قلبه وعين عقله وعين روحه.
فلما نظر بعين قلبه افتتن، ولما نظر بعين عقله تحيّر، ولم نظر بعين روحه هام.
ثم أصابه الشغف، فتمادى به إلى الوله، فألقى به الوله في التيه، فأوصله التيه إلى الاحتراق، فبلّغه الاحتراق شاطئ الاشتياق، فلما بلغه ضربه موج التلف حتى لم يبق منه شيء.
أما عاشق الكمال فذو يقين في سر الكمال وصاحبه، وإلا لما عشقه، فلما استقر على شاطئ اليقين فتحت له أبواب السكينة، فلما بلغ السكينة استشعر الانس بعد الوحشة، فسرت إليه الرغبة في أن يكون أكمل في عين محبوبه كما محبوبه كامل في عينه، حتى قال قول زيننا: أنت كما أحب، فاجعلني كما تحب.
ولما كانت رغبته في صاحب الكمال الكامل رغبة كاملة، صار كل شيء في عينها محقا، وعند ذلك المحق ظهر له الحق، فعلم علم اليقين، وعاين عين اليقين، وشهد حق اليقين.
ومتى بلغ العاشق تلك الشواطئ فتحت له المدن أبوابها ونال من سرها وخيرها وعلومها وكنوزها.
ومن جاوز تلك البحار كان في الدلال والوصال، ودخل في أطوار الحال، ثم تقلب بين الفناء والبقاء، حتى رأى الفناء عين البقاء، والبقاء عين الفناء، وحتى لمس الوجد في ذروة الفقد، ولامس الفقد في منتهى الوجد.
ولولا ضيق المجال لفصلت لكم بقية شواطئ البحار والمدن وأبوابها وما فيها من كنوز ومعاني وعبر.
وكل هذا في مقام عشق المحبوب المرغوب المطلوب، وكل محبوب ومرغوب ومطلوب دونه إنما هو منه.
ومن كانت الجنة قبلة حبه كان محجوبا، بل العشق أن يكون المحبوب غاية المطلوب وتمام المرغوب، وسوى ذلك مستمد من ذلك.
فأعلاه حب الأحب إلى الله، وأدناه حب ما وهب الله في دنيا أراده سبيلا إليه، وجعل فيها دليلا عليه.
صفّق العاشق بيده، وتمايل طربا، وهام من معه، وقال: تالله لقد ورثت علوم آبائك.
رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت.
إنه حميد مجيد.
#روايات_خضرية
#المنارة_تميز_وجدارة
#جمعة_مباركة