7 دقائق للقراءة
في آلية التواصل، يتم التفاعل بين الباث والمتلقي بشكل دائري: يبدأ من الباث إلى المتلقي، ثم يرجع من المتلقي إلى الباث. وانتقالي: يصبح المتلقي باثا والباث متلقيا مع انتهاء كل فعل تواصلي مفرد.
باث————————-متقبّل———-(باث)——————-(متقبل)
-صباح الخير————صباح النور—-كيف حالك —– بخير كيف حالك أنت؟
يترجم الفعل التواصلي المفرد مسار الرسالة الأولى وما تحمل من دوال على مدلولات وفق اختيار للون الذهني والنكهة الشعورية والنوع اللغوي الدال بشكل أو بآخر على ذلك المدلول. وعليه فإن هنالك فوارق بين أداء لغوي هزيل واختيار لفظي غير موفق، وبين أداء لغوي بديع واختيار لفظي بليغ. أما اللون الذهني فهو الانطباع والصورة التي يتم رسمها في ذهن المتلقي. في حين تكون النهكة الشعورية متعلقة بالانطباع الشعوري الحيني عند تلقي ذلك بين تذوّق وتفاعل وتأثر إلى انغلاق وعدم فهم. مثل ان تكلم من لا يفهم لغتك أو تكلم من لا يتقبل فكرك بشكل قطعي. وهنالك النوع اللغوي وضمنه لغة الحرف واللفظ ولغة التعبير الحركي او الأداء المؤثر وتكمن القوة في الإدماج بين كل ذلك. ويتحكم العنصر التفاعلي في هذا الأداء فحين تكون متأثرا تعبر بشكل يختلف عن حالك وأنت منفعل وغاضب أو هادئ او حاسم أو مشتت او دقيق.
كل ما ذكرت لك نقاط مختزلة يمكن التبحر فيها ولكل منها علم خاص يدرسها، فكما اختصت الالسنية بنظام اللغة التواصلي، أو اختص النحاة واللغوين بأنظمة اللفظ والحرف وقوانين اللغة نفسها، فإن الخبير في الأداء الركحي يمكنه أن يمنح أفقا معرفيا للأداء الحركي وفنون التعبير المختلفة. وكذلك الشاعر والأديب فيما يكون له من خيال وتطوير للدوال في علاقتها بالمدلولات فتكون العلاقة أكثر شساعة وتخرج عن جفاف البعد النحوي الصرفي المحض. ويكون هنا مجال الاستعارة والتشبيه والزخرف اللفظي والبيان والبديع وما فيه من جناسات ومحسنات وترصيع. وحين يتم الغوص اكثر تكون الموسيقى مثلا نوعا هاما من التواصل وفنا بيدعا من فنونه، وكذا الرسم كأفق للون والضوء والتخيّل والمحاكاة والإضافة التي تمضي من الانطباعي إلى السريالي. وفي كل هذه الآفاق يحضر علم نفس الفن وتحضر الانتروبولوجيا ويحضر علم الجمال بقوة أيضا. ويكون المجال متسعا للثقافة عمقا وتواصلا وتفاعلا.
لو أننا حصرنا التواصل في إطار لغوي بحت، وحصرناه في متفاعلين: باث ومتقبّل. فيكون الامر خاضعا لقوانين كثيرة أهمها ما أسميته القانون التفاعلي الأولي، وهو جدلية: التأثّر والتأثير. ويخضع هذا ضمن قانون أراه جليا وهاما: كلما كان تأثيرك أكبر من تأثّرك كان تواصلك أكثر نجاعة. ولا يعني ذلك أن لا تتأثر لأن التواصل بين محب وحبيبته حين يخلو من التفاعل التأثري من الجانبين فهو فاشل وعقيم. ولكني اعني أنك حين تتواصل وتجعل جانبك الذاتي غالبا على الجانب الموضوعي، او جانب ردة الفعل غالبا على الفعل، بحيث تتأثر أكثر مما تؤثّر، تقع في متاهة الانفعال وردة الفعل. ومثال ذلك: أن تبادر شخصا بالتحية في ابتسام هادئ ودّي: صباح الخير.
ويكون في ذهنك وفي توقعك وفي المتعارف والعادي أن يجيبك: صباح النور…اهلا. مع ابتسامة وبشاشة. لكنه يكسر أفق الوقّع يجيبك بصلف وغرور أو حدّة غير مبررة وصادمة مع عبوس وحنق: دع “صباح الخير” عندك…وابتعد.
وربما أضاف توصيفا جارحا يزيد من عمق الزلزلة الداخلية والصدمة التواصلية: “وجه النحس”.
حين حييته أردت التأثير عليه إيجابا ببث طاقة محبة بشكل واع قصدي. وحين أجابك أراد – بوعي أو دون قصد – أن يثير غضبك أو يصدّك أو يعبّر عن رفضه للتجاوب والتواصل معك. فهو بمجرد تجاوزه عتبة المتلقي وتقمصه دور الباث أدى رسالة عكسية لما اردت أنت. وحطّم أفق التوقّع وأحدث الصدمة المزلزلة.
هنا يكون لك طريقان:
1/ الوقوع في الانفعال التواصلي: تنجح الصدمة في اختراقك ويصيبك تحطيم أفق التوقّع بتصدّع داخلي. أن تتأثّر وتنفعل وترد الفعل فتعيد الطاقة السلبية بأشد منها بعبوس ونرفزة فتقول له: قلت لك صباح الخير وتجيبني هكذا يا (كلمة نابية أو قاسية).
وحين يصل الدور للمتلقي فسوف تكون الطاقة السلبية أشد (إذ أن المنطوق اللغوي حمّال لطاقة وهذا مجال ذكرته في كتابي عن روحانية الحروف وطاقة الكلمات، وربما رجعت لتفصيل منه) وحينها يردّ لك الشتيمة.
هنا ربما يغلب التأثر السلبي وترجع إليك الكرة بشكل أقوى، وهو شبيه بارتداد كرة التنس والضرب من الجانبين بشكل أقوى، وعندما تعجز اللغة عن التعبير عن مقدار الانفعال والغضب تترك المجال لتعبير كليّ حركي فيكون وجهك ونظرك وملامحك وحمرة عينيك واهتزاز جسمك قويا جدا بفعل الغضب ويسري الاندرينالين في شرايينك مانحا لك قوة غاضبة مدمرة، ثم يفصل العقل الادراكي نطاق التحكّم ويرخي كبح النفس وما فيها من قوانين تفاعل اجتماعي تجعل العنف غير مسموح به لتجد قبضتك في وجه ذلك الرجل الذي سيحاول رد الفعل بالضرب العشوائي.
2/ التدارك السريع وتغليب التأثير على التأثر: حين تكون ملمّا بفنون التواصل متأصّلا في آدابه، أو رابط الجأش لا تتأثّر سريعا، وهذا ما توفره لك فنون التأمل المختلفة وخاصة فنون الدفاع والفنون الباطنية منها (يوغا او تايتشي) وحتى التصوف في جانب الأوراد والأذكار التي تليّن الطباع وتفرغ الطاقات السلبية الفوارة. فإنك في نفس النموذج تفعل الآتي:
– صباح الخير.
– لا تكملني واغرب عن وجهي.
– خير ان شاء الله يا اخي.
* قلت لك لا تكلمني أو اكسر لك فكيك.
– هدء من روعك يا رجل. ما بك؟ لابد انك أمرا أغضبك.
(هنا تجاوزت الانفعال وحولت كرة الطاقة السلبية إلى طاقة إيجابية وحاولت إيجاد ثغرة في الطاقة السلبية وهو تماما سر الأيكي ودائرة الينغ يانغ وحركة التاي ساباكي ومن اعمق ما يفهمه معلم لفن الأيكيدو وفنون وودنغ الباطنية (تايجي كوان وتايتشي، وهو كلام ليس هذا مجاله ومختزله تحويل الحركة العدائية إلى حركة محبة أو عاجزة وهو لب قانون المعلم يوشيبا في الأيكيدو وفق تحليلي لهذا الفن بعد تامل وممارسة طويلة).
*أجل…زوجتي…سوف تفقدني عقلي.
(هنا تم تحييد تلك الطاقة السلبية ورجعت طاقة التواصل إلى المستوى صفر ويمكن الانطلاق مجددا والنفاذ والتأثير).
– استعذ بالله من الشيطان….هيا…أقسمت عليك بالله تشرب معي كأس شاي في المقهى وتحكي لي الأمر…دع العناد….
(هنا تم إعادة صياغة التواصل، وسيشعر الرجل الغاضب بألم ضمير، وحينها يمضي معك خجلا من نفسه. وبعدها يحكي لك قصته، وقد تصلح له من شانه، وستجد ان القصة مثلا في جزئية بسيطة من حياة الزوجين ولكن لأن الرجل عصبي وزوجته ترد الفعل معه تفاقم الأمر، وهو مرض تواصلي يصيب البعض حتى يل للطلاق لأمور تافهة سببها كلمة في غير موضعها وتفاعل خاطئ ونظام تواصلي مختل ويوجد هذا الداء في العائلات كثيرا وهو ما ينبغي على علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي خاصة ان يدرسه وهو من أسباب الجفاء والتشتت الأسري والعنف المؤدي للجريمة وانواع الانحراف).
فائدة: 1) حين يتم الوقوع في الانفعال ورد الفعل على السيء بأسوأ منه وعلى الكلمة الجارحة بكلمة أقسى منها فسيكون الأمر شبيها بحمم البركان التي تزداد مع كل انفجار ناشرة الخراب من حولها. وهكذا يمكن لكلمة في غير محلّها لا يتم التعامل معها إيجابيا بل تضاعف طاقتها السلبية أن تؤدي إلى عراك وتقاتل وحتى قتل، بل إلى حرب كاملة حين يتم تعميم تلك الطاقة، ويمكن الرجوع لسجل الحروب في تاريخ العالم أو حتى لخطابات قادة العالم قبل الحرب العالمية الاولى والثانية لرؤية ناتج التواصل الانفعالي. وهذا امر خطير ضمن الخطاب السياسي والتجييش والتنافس الضدّي المحتقن الذي يحمل خلفه المتعصبين لهذا ولذاك ضمن كلمات حاقدة سوداء الطاقة توصل لاحتراب شعبي. وكذا في الخطاب التكفيري والمتعصب عامة. وضمنه خطورة الإعلام كآلية متحكمة بنسبة كبيرة في منظومة التواصل والتأثّر والتأثير والفعل ورد الفعل. ويمكن النظر في الحرب الأهلية في رواندا والتي شهدت إبادة جماعية بين الهوتو والتوتسي، لكن ما أشعلها خطاب تضليلي كاذب من إذاعة كانت تبث في أوغندا وقد اطلقتها الجبهة الوطنية الرواندية وهي من عشيرة التوتسي وأشاعت فيها أن النظام وهو من عشيرة الهوتو يقوم بمإبادة جماعية بحق التوتسي لتندلع شرار حرب طاحنة بين 91 و 93 رغم ان جذورها ترجع للستينات.
2) ما ذكرته لك هنا يمكن إسقاطه وتطبيقه على الكثير من النماذج الحياتية التي تكون فيها النتائج عكس التوقعات وتكون صادمة تصيب بالفوضى الحركية والعشوائية في الأداء وهذا يخصك كفرد ويمكن ان يعمم على مجتمعات ودول، فانظر بأي حال تكون شعوب باغتتها الثورة فجأة أو أقوام وجدوا أنفسهم دون أن يتصوروا في دائرة الحكم بعد ان كانوا في دائر المحكومية العاجزة. خلل في التعامل ويكون الانهيار والفشل والاحباط، او الغرور والاستكبار وهو وجه آخر لنفس الصدمة.
3) زمن ردة الفعل مهم جدا، وهذا تدربنا عليه كثيرا في فنون الدفاع خاصة حركات الصد لهجوم فجئي وحتى ردة الفعل على هجوم وأنت في حالة نوم وهو أمر حقيقي وليس خيالا. إنه عمل على منظومة رد الفعل داخل العقل، ولمقاتلي الننجا وكذلك مقاتلو فنون ضمن الكونغ فو مثل فرس النبي Tang Lang تميز كبير في هذا الجانب. وهو أمر يتم تدريب القوات الخاصة عليه وخاصة حراسة الشخصيات لتفعيل سرعة في زمن رد الفعل دون الوقوع في الصدمة والانهيار. وكذلك يكون زمن رد الفعل مهما حتى في كرة القدم سواء لدى لاعب يتلقى تمريرة يريد ان يحقق بها هدفا او حارس مرمى في هجوم مباغت ليلتقط الكرة سريعا ويحصل هنا تباطؤ زمني يدرسه المختصون ولدي دراسات في مضماره. والنموذج الأقرب هو سائق سيارة ويقفز امامه ما لا يتوفعه فيكون زمن رد الفعل مهما جدا ومصيريا. اما في البعد التواصلي فالتعريف الخاص بسرعة زمن رد الفعل يتلخص في سرعة البديهة او حضور البديهة.
4) تجاوز التأثر السلبي في كل ما يعترضك في الحياة و احرص على عدم السقوط في الصدمة حتى عند انهيار افق التوقع (حتى في امتحان تظن انك ناجح فيه بامتياز ثم تفشل) وهو عام ولئن خصصته ضمن علم التواصل. فأنت حين تصاب بخلخلة كلية، تكون كقشّة ضائعة في دوّامة رملية.
5) إن ما ذكرت لك تجده في كتب الحكمة، وفي وصايا المعلمين والصالحين، وهدي الأنبياء، وفي سنة الحبيب المصطفى من ذلك كثير، كقوله لطالب نصح: لا تغضب. وكعبقري ما أوسع له الله من فصاحة وجوامع كلم وقدرة على تحويل المجادل الناقم او الجاحد المعاند إلى محب موال، ضمن آداب ربانية تجلت في آيات تعليمية رحمانية كان لها مجلى كمال ومبنى جمال، كقول ربه سبحانه وتعالى: اُدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) – (النحل)-
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) –( فصلت)- . وهذا في لب وجوهر التواصل.
وحين نعمم نرى فائدة مثل هذا العلم وهذه القاعدة تحديدا في البناء الاجتماعي حيث يتم تغليب الادب وحسن التعامل وتجنب الانفعال المفرط، وحسن اختيار اللفظ المعبر ضمن سلّم: الأسوأ، السيء، الوقح، المستهجن، الجاف، العادي، الحسن، الأحسن. فتجد الله تعالى يختار لعباده جميعا الأحسن لفظا ولغة وتواصلا ليكون الناتج أجمل واحسن ذاتيا وأسريا ومجتمعيا، فينشر ذلك الطاقة الإيجابية والتفاعل الجيد، لأن الطاقة السلبية وممثلها (الشيطان) يريد أن ينثر عكس ذلك عبر النزغ: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53) – (الإسراء) –
ولك أن تبحث عن نماذج ما ذكرت لك في حكم كونفشيوس ووصايا العارفين في كل امم العالم.
6) الكلمة خطيرة للغاية، والتواصل علم مهم وخطير: وضمن بعد التأثر والتأثير فإن العمل على فهم الآليات المناسبة وتوفير تحكم أكبر في فنون التواصل يعطيك فنا ومقدرة وأثرا عميقا وسطوة على النفوس.