6 دقائق للقراءة
إن المتابع للشأن الديني في تونس بعد الثورة، وللخطاب الديني المنتشر وما يرافقه من أثر وتأثّر وتأثير، يرى بوضوح أزمة قوية الملامح لا تحتاج كبير ذكاء وكثر عناء.
لقد كان الشأن الديني يعاني من أزمة كبيرة في فترة الطغيان، أزمة تمتد إلى الاستقلال ومحاصرة جامع الزيتونة فإغلاقه، ثم ما كان من تضييق وتجفيف منابع.
حين جاءت الثورة وجدت صحراء قاحلة في قلوب وعقول أغلبية شباب تونس فيما يتعلق بالشأن الديني وحقيقة المذهب المالكي ومميزات المنهج الزيتوني، وجدت شبابا اعتادوا أن يأخذوا دينهم من الفضائيات التي تبث غالبا الخطاب الوهابي وما فيه من إشكالات ومن مآزق وفخاخ كارثية، دون أن يتنبهوا لها أو يعرفوا حقيقتها لأنه ليس لديهم معيار للقياس بحكم تغييب الفكر الديني السمح في المذهب المالكي والمنهج الزيتوني التونسي بامتياز والمتميز في العقيدة والأصول وفي مختلف شؤون الديانة برجاله الأفذاذ منذ سحنون إلى ابن عاشور..
جاءت موجة الوهابية السلفية وارتفعت تحمل فكر التكفير والتبديع، ووجدت في الشباب التونسي مكانا مناسبا، فنمت بسرعة حتى بلغت اليوم مستوى ختامي كنا بيناه ضمن تقسيمنا المرحلي لذلك الفكر ولكل فكر متطرف مغال: التنظير، التكفير، التفجير.
بدأت المرحلة التفجيرية التنظيمية، بمستواها الأول وسميته “الفوضى”، ثم بلغت مستواها الثاني وهو ما أسميته “الحريق”، والذي تمظهر بسرعة في حرق مراكز الأمن والمحاكم والكثير من المرافق، مع تحدّ للدولة جلي وعجز من الدولة واضح، ومعلوم لمن درس كتاب فن الحرب لسون تزو وهو أقدم وأفضل وأخطر كتاب حرب أن الفوضى تستخدم لإخفاء النظام وأن الحريق من تقنيات الحرب الكبرى التي تسبق الخراب الكامل وهو فن كامل خصص له سون تزو مجالا وكان مستخدما في الحروب على مر العصور، فليست الأمور صُدفية بل تنتظم في سياق منظّم ومخطط له جيدا، وهنا لابد من وقفة تأمل وتحليل لهذه الأزمة ثم لابد من رؤية منهجية للخروج منها.
1/الأزمة: إن الأزمة الحالية والتي واكبناها منذ بدايتها متابعة وتحليلا، ليست غريبة عن تاريخ الوهابية في كل الدول التي دخلتها وخربتها، ولكن لهذه الأزمة في تونس أسباب ألخصها في الآتي:
*السبب الأول: الفراغ الديني في فترة المخلوع وما قبلها، وهذا الفراغ أدى إلى تأثر تلفزي أولا بذلك الفكر ومن ثم مباشر بمن قاموا بنشره ضمن مختلف التقسيمات السلفية.
*السبب الثاني: تغييب علماء الزيتونة والفكر المالكي وما في مذهب الإمام مالك من سماحة وعمق، ثم غياب علماء الزيتونة بعد الثورة لأسباب كثيرة منها قلة وعي بعضهم بخطورة الموقف وخشية بعضهم الآخر على نفسه أو التضييق عليه وقلة إمكانيات البعض، وحتى افتتاح جامع الزيتونة لم يحقق الإشعاع والنجاح المرجو ويحتاج وقتا طويلا وهنالك مشاكل منهجية ولوجستية كبرى تتفاقم كل يوم.
*السبب الثالث: خطأ استراتيجي قاتل ارتكبته الدولة، ويتمثل في قراءة موضوع السلفية بشكل خاطئ تماما في اعتقادي، لأن الأمر نظر إليه على أنه عرض ناتج لا مرض قائم، وذلك لعدم دراية عميقة بالموضوع، وهكذا ظل الأمر يخضع للتسويف والوعود وينظر إليه كنتيجة لغياب الديمقراطية حينا أو كناتج ارتدادي للثورة مرة أخرى، ولكنه في الحقيقة مرض فعلي يستشري في المجتمع مستغلا طاقة الكراهية الكامنة ورغبة الكثير من الشباب التونسي في السير على منهج السلف وهو أمر جيد لكن منهجيته خاطئة، وكذلك كردود فعل على ما كان يفعله المتطرفون في التعهير والفساد وحرب الديانة بل إن الثورة زادت جنون الكثير منهم فازدادوا إمعانا في تعديهم وتحديهم ومن خلفهم منظرون لهم ومبررون يزينون الكلام ولا يعون خطورة الأمر حتى كان موضوع الرسومات والتي لها دور معين نبيه.
*السبب الرابع: قوة التمويل الخارجي، والدعم المادي واللوجستي لهذا الفكر الدخيل على بلادنا، فنشأت الجمعيات الكثيرة ودخلت المليارات وتنظمت المجموعات تحت قيادات وتقاسمت الأدوار ثم تجمعّت وبدأت في الهجوم مستغلة بعض المحفزات فلم يعد للدولة من مهابة وصار الأمر ينبئ بكارثة، وأنا على يقين استشرافي مدعوم ببعض الأدلة الميدانية الكافية للبناء عليها أن هنالك من يتدرب ويتسلح لتطبيق الشريعة بقوة السلاح وهنالك خط مباشر مع القاعدة ومع التنظيمات فيقع إرسال متدربين إلى ليبيا وللقتال في سوريا وآخرون يستعدون في تونس ليوم الغزو المبارك والمقدس في اعتقادهم لنصرة دين الله بقوة السلاح وكذلك فعل ابن عبد الوهاب حين نصر (في وهمه) دين الله بقتل من قال لا إله إلا الله وحين نصر رسول الله بذبح آل بيته وتدمير مدينته وحجرته الشريفة.
*السبب الخامس: تعامل حركة النهضة مع هذا التيار كان رخوا جدا أو متراخيا، والأمر يرجع فيما أراه إلى تأثر بعضهم بهذا الفكر وموالاتهم له، ولخطأ تقديري لقيمة ذلك التيار كمخزون انتخابي، أو لخطأ استراتيجي في فهم نوعية التعامل المناسبة مع ذلك الغزو الوهابي المدعوم بقوة، حتى أثبتت الأحداث الأخيرة أن كل ذلك كان خاطئا جدا، وعسى أن الأوان لم يفت.
*السبب السادس: طبيعة النسيج الذي شكل التيار السلفي الوهابي والذي كنا في دراساتنا عنه قسمنا نوعيات المنضوين ضمنه.
*السبب السابع: الفراغ الإستراتيجي الكبير لدى الحكومة وعدم الانتقال السريع من المرحلة السردية والإحصائية والمرحلة التسويفية (الوعود وسوف نفعل ونفعل) إلى المرحلة التنفيذية الفعلية، مع غياب تخطيط ورؤيا واضحة للحل بسبب الجهل بالسبب الفعلي للمشكلة، ولا تشفع كثرة مشاكل البلاد أو أي تبرير آخر في هذا التقصير الخطير.
السبب الثامن: التضييق على رجال الامن، وتفريغ المنظومة الأمنية من الجدوى والنجاعة، وترك رجل الأمن بلا قانون يحميه أو يدعمه منقوصا من التجهيزات اللازمة، وعدم دعم نقابات الأمن وعدم تقوية التنسيق بينها والتنسيق بين وزارة الداخلية والنقابات الأمنية والقيادات الأمنية بالشكل المناسب والمتناسب مع الوضع الحرج لتونس وخاصة بعد ما حدث مؤخرا، وكأننا خرجنا من هيمنة وزارة الداخلية والقمع الأمني زمن البنعلة إلى الفراغ الأمني اليوم.
هذه بعجالة جملة من الأسباب في اعتقادي يختفي فيها وحولها وخلفها أمور أخرى كثيرة جدا يطول سياقها، والخلاصة أن البلاد في حالة حرجة جدا وأنه بعد المرحلة التفجيرية التنظيمية الأولى التي سميتها الفوضى، فإننا الآن في المرحلة التفجيرية التنظيمية الثانية التي أسميتها الحريق يعقبها بشكل سريع مرحلة ختامية هي الانفجار والذي يتراوح بين العمليات النوعية المسلحة إلى الحرب الأهلية لا قدر الله.
2/منهجية الخروج: لا يمكن لأحد أن يدعي أن لديه الحل، ولكن ربما أجد طريقا للحل متمثلا في الآتي:
*كنت دعوت منذ أشهر ومازلت، إلى تكوين “لجنة إدارة أزمات” في تونس، تضم نخبا من أفضل الكفاءات التونسية في الأمن والجيش والإستراتيجيا والسياسة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد ورجال الدين وغير ذلك، والتي ستقوم بعمل سريع لمساعدة البلاد في تجاوز هذه الأزمة ومنع وقوع الكارثة.
*مراجعة كاملة للملف السلفي ولدور كل الأطراف فيه، والبحث عن مواضع الخلل، وعن دور الفاعلين فيه.
* تفعيل دور النقابات الأمنية ومنح رجل الأمن تأطيرا قانونيا يمكنه من خدمة بلاده وضمان حقوقه ويلزمه بواجباته ويحميه، والمرور نحو تفعيل منظومة “الأمن الجمهوري”. كما لابد من التعامل الصارم مع كل من يثبت دوره في تشتيت الجهود وعرقلة المسار الأمني لغاية أو أخرى ولسبب أو سواه.
* التحرك السريع وفق المنهج التقسيمي للتعامل مع كل فئة من التيار السلفي فالحوار لازم مع من يحملون ذلك الفكر ويرونه حقا لإقناعهم بأفضلية المنهج الزيتوني المالكي أو لإنقاذهم من العنف والتنظيمات أو لإفهامهم المنهجية الحقيقية للدعوة.
وكذلك التعامل الصارم جدا مع بقية الفئات الهدامة والإجرامية والتي لا يجب التواني مطلقا مع من ثبت إجرامه وحرقه للمنشآت الأمنية وإضراره بالأمن القومي. وأعتقد أن مواجهات نوعية ستتم بين الجيش والأمن وبعض المسلحين هنا وهناك.
*منع كل من يتجرأ على المساس بالرموز الدينية بكل قوة القانون وردعه، لأنه يفعّل العنف ويمنحه بعضا من مبرراته.
*تحرك المجتمع المدني كله ومنظماته الأحزاب على اختلاف ألوانها ومشاربها والإعلام من أجل توثيق عرى السلم الأهلي في تونس.
*أن يقوم المجلس التأسيسي بالمصادقة السريعة على قانونين مهمين وعاجلين:
ميثاق السلم الأهلي، والذي توقع عليه كل الأحزاب والمنظمات المدنية، ويمنع منعا باتا اللجوء إلى العنف مهما كانت الأسباب أو المساس بالسلم الأهلي في تونس.
*ميثاق الرموز الدينية : يلتزم بمقتضاه الجميع بعدم المساس بالرموز الدينية تحت أي تعلة وليس في الأمر مساس بحرية التعبير بل تأطير له لأن الحرية المنفلتة تؤدي إلى الخراب، ولإغلاق الطريق على من يخطط لضرب المجتمع عقائديا ونشر العنف والفوضى تحت أقنعة الفن والحرية والإبداع.
*كما لابد من الانتباه لما بلغه المجتمع اليوم من احتقان ومن مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية ولابد من عمل فعلي سريع لإيقاف العنف ومنعه لأن الحلول لبقية مشاكل البلاد تأخذ وقتا ليس بالقصير وجهدا كبيرا يشترك فيه المجتمع كله .
هي نظرة فقط، وهي رؤيا فحسب، وعسى تجد من يفعلها، لأن من دورنا التحليل والنصح والتذكير، حبا لوطننا، وغيرة على ثورة هذا الشعب وأحلامها التي صارت تتلاشى رويدا رويدا، حتى صار البعض يتمنى الرجوع إلى ما قبلها، هروبا من الحريق.
سوسة
15-06-2012 17:28:26