7 دقائق للقراءة
يعتبر التصوف مصطلحا ناشئا في القرن الثاني، وانتشر أكثر في القرن الثالث، وترسخت طرقه الكبرى في القرن السادس للهجرة، ولكنه أصيل كمعنى في الإسلام منذ نشأته البشرية الأولى (مع آدم عليه السلام)، وله وجود في عمق الإرث الحضاري والفكري والأدبي الإنساني على اختلاف الديانات والأمم والعصور، وقد ترسخت معانيه مع الدعوة المحمدية وانتشار الدين الإسلامي، فكان ضمن باب المعنى (تزكية وإحسانا وتربية وسلوكا) عملا ربانيا في قلب ونفس وذاته نبيه المصطفى، وجهدا نبويا في ذوات آل بيته وأصحابه، بمدد إلهي وسند قرآني، إذ في القرآن آيات كثيرة عن الحكمة والموعظة الحسنة والتزكية والأدب والأخلاق، وكل ذلك من روح التصوف ومعناه.
أما المصطلح فظهر بعد ذلك، وقد فسره البعض معناه الاصطلاحي بالصوف ولباسه وما يشير إليه ذلك من زهد وتقشف وهو من أحوال أهل التصوف.
وأشار آخرون إلى أهل الصفة من صحابة رسول الله وحالهم من زهد وفقر.
وذكروا أن اللفظ يرجع إلى رجل في الجاهلية كان زاهدا متعبدا يلقّب بصوفة واسمه الغوث بن مر بن أد، وأشار الزمخشري في أساس البلاغة والفيروز آبادي في قاموسه المحيط إلى أن قوماً في الجاهلية سموا بهذا الاسم وكانوا يلون إجازة الناس بالحج في مكة ومن تشبه بهم سمي صوفي، ومنهم نشأت طبقة المتحنفين مثل ورقة بن نوفل. يقول الزمخشري في كتاب أساس البلاغة: ” كان آل صوفة يجيزون الحاج من عرفات أي يفيضون بهم، ويقال لهم: آل صوفان وآل صفوان وكانوا يخدمون الكعبة ويتنسّكون ولعلّ الصوفية نسبوا إليهم تشبيهاً بهم في النسك والتعبد أو إلى أهل الصفة فقيل: مكان الصفية الصوفية بقلب إحدى الفاءين واواً للتخفيف أو إلى الصوف الذي هو لباس العباد وأهل الصوامع”.
وربط آخرون المصطلح بالصّفة (إذ أن التصوف هو اتصاف بمحاسن الأخلاق والصفات، وترك المذموم منها.) وبالصف ( فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله؛ وتسابقهم في سائر الطاعات)، وبغير ذلك مما شاكل اللفظ وجانسه، وقال بعض المستشرقين أن المصطلح راجع إلى صوفيا أو الحكمة لدى الإغريق، إذ أن أصل مصطلخ “فلسفة” هو “فيلوس صوفيا” أو حب الحكمة، وهنا يلتقي التصوف بالفلسفة في حب الحكمة والتدبر في الوجود ومعاني الإشراق (ثيوصوفيا) التي توجد أيضا في المصطلح الهندي للتصوف.
ولكن الغالب أن التصوف ولئن جمع من كل ذلك، فهو بالأساس صفاء، يقول الشاعر الصوفي أبو الفتح البستي (توفي 400 هـ / 1010 م):
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقاً من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي
وأما ظهور المصطلح فهو في القرن الثاني للهجرة، ويذكر أبو نصر عبد الله السراج الطوسي (توفي 378 هـ / 988 م)في كتابه “اللمع في التصوف” الذي يعتبر أهم مصنف موسوعي في تاريخ التصوف أن أول من تلقب بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي المتوفي سنة 150 للهجرة، ويقول محمد صديق الغماري في كتابه “الانتصار لطريق الصوفية الأخيار”، ص17 ـ 18.:”ويعضد ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب “ولاة مصر” في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالإسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في “مروج الذهب” حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في “كشف الظنون” أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة (150 هـ)”.
وقد ذكر العارفون بالتصوف على مر القرون شيئا من معانيه، من ذلك الآتي:
*الإمام الجنيد: التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني
*الإمام أبو الحسن الشاذلي: التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية.
*الإمام ابن عجيبة: التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة.
*الشيخ أحمد زروق: التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول “علم التوحيد” لتحقيق المقدمات بالبراهين وتحلية الإيمان بالإيقان.. وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله، وإنما هي وجوه فيه.
*الشيخ زكريا الأنصاري : التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية.
* الشّيخ الشعراوي: الصّوفيّ هو الذي يتقرّب إلى الله، بفروض الله، ثم يزيدها بسنّة الرّسول عليه الصلاة والسلام من جنس ما فرض الله وأن يكون عنده صفاء في استقبال أقضية العبادة فيكون صافياً لله، والصفا هو كونك تصاف.
وهي كلها تدور في فلك الصفاء والقرب من الله والتوجه إليه والمحبة فيه.
ويرجع التصوف كسلوك ومنهج وأخلاق ورقائق بعد منبعه النبوي الأول ومنهله المحمدي النقي ثم ما كان من منهج الإمام علي ومن مناهج الصحابة رضي الله عنهم الآخذين عن رسول الله وتربيته وتزكيته بشكل مباشر، إلى علمين كبيرين هما الحسن البصري، وهو تلميذ الإمام علي، والإمام علي تلميذ مباشر للرسول الأكرم نهل من علمه وتربيته.
والعلم الثاني هو أويس القرني الذي أوصى النبي عليه الصلاة والسلام كبار الصحابة إن جاءهم أن يسألوه الدعاء، وكانت له صلة كبيرة بالإمام علي أيضا، ويعد من كبار أهل التصوف على حقيقة معناه، وكذلك نخبة من أهل الذوق والشوق والزهد والتربية كالحارث المحاسبي وسري السقطي وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم. ولكن أهل العلم أرجعوا التصوف كطريقة واصطلاح أساسا إلى الجنيد البغدادي حتى قال ابن عاشر في متنه الشهير ضمن تعريفه بالمدرسة المغاربية وضمن جمع بين الفقه والعقيدة والتصوف كأصول لا انفصال بينها ضمن جوهر وحقيقة الدين الإسلامي:
في عقد الأشعري وفقه مالك…وفي طريقة الجنيد السالك
وليس التصوف في الحقيقة حكرا على الأمة الإسلامية، فقد عرفت كل الأمم التصوف، فأنه حال إنساني، ولأن الأديان جميعها كان فيها ركن أساسي وهو التزكية وتهذيب النفس، فنجد التصوف المسيحي، والتصوف لدى أتباع البراهما وبوذا (لعلها ديانات سماوية الأصل)، وكذلك لدى الفلاسفة الاغريق مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وكذلك لدى فلاسفة آخرين بعدهم.
ولكن ميزة التصوف الإسلامي الذي يغلب في تفسير مصطلحه إعادة ذلك إلى الصفاء، فهي أنه ركن ثالث للدين، بل هو جوهره وروحه، إذ التصوف يتعلق بالتزكية أساسا، والتزكية مجال رقي الذوق، والذوق باب العرفان، والعرفان بوابة الإحسان، والإحسان معراج الترقي والتلقي، إذ أن الإسلام شهادة وأركان، والعقيدة تنزيه وإقرار بالصفات على مراد الله منها، والإيمان تصديق بالغيب، والشريعة ما شرع الله للناس وما حكم، ولكن هذا العلم الشرعي والعقدي، وذلك الإسلام والإيمان، أبواب لمقام أرفع هو مقام الإحسان الذي ورد معناه في إجابة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لسؤال جبريل عليه السلام في الحديث الشهير: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك”.
فالتصوف ركن ثالث بعد العقيدة والشريعة، والإحسان مقام ثالث بعد الإسلام والإيمان، والتزكية أصل عليها يقوم علم الكتاب والحكمة، وفي ذلك قال الله سبحانه وتعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) (آل عمران).
فالقرآن نزل سره وأمره، ورسول الله كان هديه وتعليمه، تزكية أولا، في الفترة المكية، تهذيبا للأنفس وتطهيرا للقلوب، ثم كان علم الكتاب والحكمة وما نزل من تشريع وفصّل من شأن العقيدة وما تعلق بها.
ومعلوم أن الإنسان الذي لا تزكى نفسه، لن يفيده علم الكتاب والحكمة، ولن يكون إسلامه إلا وبالا وإيمانه إلا نكالا، لأن فهمه للعقيدة سيختل، وفهمه للشريعة سيعتل، ففي غياب الذوق يكون التطرف، والتجسيم، والزندقة، والاجرام، وهو حال الخوارج الذين لم تتهذب انفسهم فوصفهم رسول الله فقال: “تحقرون تلاوتكم إلا تلاوتهم وصلاتكم إلا صلاتهم..يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم…يمرقون من الدين كما يمرق السهم عن الرميّة”. وكذلك حال من تبع منهجهم إلى اليوم، في تجسيمهم لله، وفي سفكهم للدماء خلق الله وتكفيرهم لأمة رسول الله.
ولذلك كان أهل التصوف عبر تاريخهم أهل علم بالعقيدة، وعلم بالشريعة، وبالتلاوات والحديث، بل سادة في ذلك، فمنهم الفقهاء ومنهم المحدثون، كالشيخ عبد القادر الجيلاني العالم الفقيه والمحدث، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ العز بن عبد السلام، وسواهما كثير، بل لا يكاد يخلو سند في الحديث أو التلاوة أو الفقه من علماء التصوف ورجاله تحقيقا وتدقيقا. ومنهم علماء المنطق والكلام الذين غاصوا في العقيدة وردوا على الزنادقة والمجسمة والمعطّلة، وعلى رأسهم الإمام أبي حامد الغزالي الذي كان إضافة إلى ذلك فقيها وأصوليا وصوفيا كبيرا.
ولقد كتبت كتب كثيرة في تعريف التصوف وتحديد معانيه وقواعده وأصوله، مثل الرسالة القشيرية، والحكم العطائية، وكتاب قواعد التصوف للشيخ أحمد زروق الفاسي، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، ولعل من أهم التعريفات للتصوف وأهله ما ذكره العلامة عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة حيث قال: “هذا علم من العلوم الشرعية وأصله أن طريقة هولاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريق الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الحياة وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ولما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على الله باسم الصوفية”.
كما يقول الإمام القشيري: “اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول ، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة”.
ولا يخفى أن لدى أدعياء التصوف والدخلاء عليه أمورا كثيرة لا صلة لها بفقه ولا بعقيدة، أو قرآن وسنة، وهؤلاء حذر من منهجهم أهل التصوف الحق، الذين حددوا اطرا مهمة وواضحة للتصوف، إذ هو موصول بالكتاب والسنة، متصل بالفقه والعقيدة، وفي ذلك ما ذكره الصوفي العلامة أحمد زروق في كتاب “قواعد التصوف” إذ يقول: ” فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تُعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمهما في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلاّ فيها، كما لا كمال له إلا بها، فافهم”.
وختاما نورد ما قاله حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي: “”ولقد علمت يقيناً أنّ الصّوفيّة هم السالكون لطريق الله تعالى خاصّةَ وأن سيرتهم أحسن السّيرة وطريقتهم أصوب الطّرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق… وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها- وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكليّة عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصّلاة استغراق القلب بالكلّية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلّية في الله”.