6 دقائق للقراءة
أعدت هذه الدراسة لجريدة العرب الدولية.
لا ينفصل تاريخ التصوف بتونس عن الحركة الصوفية في المشرق وبواكير انتقالها لبلاد المغرب منذ القرن الثاني والثالث للهجرة، لكنّها انتشرت بشكل جلي في القرنين الخامس والسادس ليكون ذلك منطلقا لانتشار واشع وظهور طرق وأعلام للتصوف في بلاد المغرب عموما. والأمر يرتبط أساسا كما سبق البيان بردّة الفعل القوية ضدّ انتشار الترف وظهور مظاهر لم يستسغها القوم فآثروا الزهد والاعتكاف والبعد عنها. ثم إن الحاجة الماسة لمراقبة ثغور المسلمين أوجدت رباطات جمعت بين الميل للزهد والرغبة في مراقبة الثغور وحماية المسلمين من الغزاة. وإن تونس كانت أنموذجا في ذلك فانتشرت الرباطات فيها مثل رباط المنستير ورباط سوسة ورباط قصر الطوب وغيرها. وهذه الرباطات ومن كان فيها جسدت روحا نقية للتصوف الزهدي حتى لئن لم يتبلور فيها تصوف طرقي معلن، أو ناقضتها بعض حركات تدعي الانتساب للتصوف.
لكن التصوف ظهر بشكل أجلى عبر أعلامه الذين ذاع صيتهم وكان أثرهم على الناس والمجتمع وعلى الحكام كبيرا، جامعين بين الزهد والرباط، وبين العلم ونفع الناس. ولا يمكن الحديث عن هؤلاء دون ذكر أبي سعيد الباجي الزاهد المرابط الفقيه. وأبي الحسن الشاذلي، ومحرز بن خلف الذي سمّاه أهل تونس بسلطان المدينة لما له من قيمة ودور كبير. وأحمد بن عروس الذي انتشرت طريقته العروسية وكان من تلاميذه بوراوي الفحل (الولي الأشهر بمدينة سوسة) والشيخ عبد السلام الأسمر. وكذلك السيدة المنوبية وما كان لها من دور اجتماعي وتأثير سياسي وروحي قوي. وإن الباحث في سير هؤلاء يجد شواهد وأدلة على دورهم الكبير ومقامهم الرفيع وسعة معارفهم وتبحّرهم في العلوم وخدمتهم للمسلمين ونصحهم للحاكم والمحكوم وزهدهم في السياسة والحكم وسياحتهم في الأرض تعبّدا وتزهّدا. وقد عمرت بهم أماكن سميت بأسمائهم لأنها لم تكن دونهم: مثل مدينة سيدي بوزيد التي سميت باسم الولي الصالح بوزيد الشريف. أو مدينة سيدي بوسعيد التي لم تكن لولا وجود أبي سعيد الباجي في جبل المنار وتعبّده ودوره في مراقبة البحر لحماية تونس من القراصنة والغزاة ضمن خط رقابة جبلي يمتد إلى بنزرت قام عليه جماعة من الزهاد الذاكرين المرابطين. وأسماء المدن التي تسمت بأولياءها وأعلامها الصوفيين والمرابطين والزهاد كثيرة مثل سيدي علوان وسيدي علي بن نصر الله وسيدي عمر بوحجلة وسيدي مخلوف وسيدي سلاّم….
إن بعض المستشرقين نسبوا للزوايا الصوفية وأهل التصوف عامة الخمول والسلبية، وحاول المستعمر الفرنسي تبني بعضها، ولكن التاريخ يشهد بعكس ذلك، فقد كان للولي العابد والصوفي الزاهد أبو علي النفطي دور كبير في الحفاظ على المذهب المالكي بالجنوب التونسي أمام المد الشيعي الإسماعيلي حتى سمي بأبي علي السني. كما أن سيدي مهذب الشريف كان قائدا لكتيبة من المرابطين بين قابس وصفاقس كان معظمهم من مريديه، وكان العلامة سيدي علي النوري الذي جمع بين الفقه والتصوف مجاهدا حتى أنه أنشأ في القرن السابع عشر للميلاد أسطولا بحريا لمواجهة القراصنة النرمان وحماية مدينة صفاقس. وقد دعمت الطرق الصوفية ثورة علي بن خليفة النفاتي ضد الاستعمار الفرنسي بشكل مباشر، وكانت تدعم حركات النضال والمقاومة وانخرط عدد كبير من الصوفية في ذلك ميدانيا. وكانت الزاويا ملجأ ومأمنا للمقاومين مثل زاوية سيدي عبد الله بوجليدة بتطاوين، والتي كانت أيضا مكانا لاجتماع القبائل لعقد الصلح ولفك النزاعات وغيرها من الأدوار التي اضطلعت بها الزوايا الصوفية بتونس. فبالإضافة لتعليم القرآن واللغة العربية والفقه، ونشر الكتاتيب في كامل أصقاع المغرب العربي الكبير، كانت تلك الزاويا ملجأ للناس بين فقير محتاج وغني مبتلى وهارب مظلوم أو عاص تائب، وكانت زاوية أم الزين الجمالية مثلا نموذجا لكل ذلك ولم يكن أحد حتى الباي يجرؤ على اقتحامها لما للولية الصالح أم الزين من مكانة استحقتها بمحبة الناس لها وبكرامات أكرمها الله بها وعاينها الباي حمودة باشا بنفسه وهو من بنى لها زاويتها إكراما ومحبة واحتراما واعترافا رسميا بها، أو القائد جعفر بن خذر وفق رواية أخرى بعد أن شفعت له لدى الباي.
ولا يمكن الكلام عن التصوف في تونس دون ذكر العلاقة بين جامع الزيتونة وعدد من الزوايا الصوفية التي كان التلاميذ فيها يرتقون للوصول للدراسة فيه، فقد كان طلبة العلم في الجنوب يدرسون في زاوية الغوث في دوز أو زاوية النويّل قريبا من دوز ثم ينتقلون للدراسة في زاوية سيدي المولدي التي تخصصت في الفقه وتحفيظ القرآن والتزكية، وبعدها ينتقل المميزون منهم للدراسة في جامع الزيتونة. وكانت هذا الزوايا منارة للعلم والتربية.
أما غرب البلاد التونسية فلا يمكن الحديث عنه دون ذكر الزوايا الصوفية والصالحين من أهل التصوف والعرفان أمثال سيدي علي بن عون وزاوية سيدي احمد التليلي ودوره العلمي والإصلاح وكذلك دور جده سيدي تليل بن نصر العثماني (من أحفاد الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه) والصالحين من أبنائه وأحفاده وعلى رأسهم بوضياف ويونس.
الطرق الصوفية بتونس كثيرة، منها طرق وافدة، وأخرى ناشئة محليا، ومنها طرق تفرعت عن طرق أخرى.
نسبة للشيخ عبد القادر الجيلاني (470 هـ – 561 هـ)، وتذكر المصادر أن أول من أدخلها إلى تونس هو الشيخ محمد المنزلي، ومن أهم زواياها الزاوية القادرية بمنزل بوزلفة بالشمال التونسي وزاوية سيدي المولدي بالجنوب (مدينة توزر)، وزاوية سيدي إبراهيم الشريف بنفطة. وللطريقة القادرية عدد كبير من المريدين ولها جذور عميقة.
*الطريقة الشاذلية: نسبة لمؤسسها أبو الحسن الشاذلي(علي بن عبد الله بن عبد الجبار) (593-656هــــ) – (1197م-1258م). وهي ترتبط بشخصية الشيخ الشاذلي وأثره الكبير في حياة الناس في تونس بداية ثم في مصر وفي الأحداث كما سبق البيان. وهذه الطريقة منتشرة بشكل كبير ومقرّها الأساس زاوية الشيخ الشاذلي بتونس العاصمة قرب مقبرة الجلاز حيث المغارة الشهيرة التي كان يعتكف فيها. ومن تلاميذه في فترة إقامته بتونس رجال الأربعين [1] الذين نشروا الطريقة بعده ورأسهم الشيخ علي الحطاب (يلقب ببواب مكة) وسيدي ماضي بن سلطان. وأعلام الطريقة الشاذلية كثر من أهمهم الشيخ أبو المواهب الشاذلي وكان شيخا للعارف بالله سيدي أحمد زروق. وأوراد الشاذلية وأدعية الشيخ الشاذلي مثل حزب البحر وحزب الفتح مشهورة في تونس وتردد لليوم في مقام الشيخ الشاذلي مع الكثير من الدورس في الفقه والعقيدة والتصوف.
تنسب لمؤسسها الشيخ أحمد التيجاني. وكان أول من أدخلها لتونس سيدي إبراهيم الرياحي الفقيه العلامة (1180-1266 ه). وكان في البداية شاذلي الطريقة ثم التقى الشيخ علي بن حرازم تلميذ الشيخ التيجاني والتقى بعد ذلك الشيخ التيجاني بالمغرب ضمن زيارة رسمية كلفه بها الباي.وللطريقة التيجانية انتشار كبير في تونس أيضا وأعلام معروفون.
*الطريقة العروسية نسبة للولي الصالح العارف بالله سيدي احمد بن عروس (أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أبي بكر الهواري، المعروف بـأبي الصرائر،. ولد عام 778 هـ بمدينة تونس وتوفي بها في 21 أكتوبر 1463 (عام 868 هـ). وقد نشرها بشكل كبير الشيخ عبد السلام الأسمر أخذا عن الشيخ أحمد بن عروس وعن الشيخ بوراوي الفحل. ولها امتداد بتونس وليبيا.
*الطريقة العيساوية (نسبة للشيخ محمد بن عيسى المغربي الحسني دفين مكناس من رجال القرن التاسع للهجرة يلقب بالشيخ الكامل). ولهذه الطريقة منتسبون في كامل المغرب العربي ولها وجود عميق بتونس ومدائح وأذكار تتميز بها.
*الطريقة المدنية: متفرعة عن العلاوية الشاذلية، تنسب للشيخ محمد المدني الذي سيرد ذكره لاحقا. وهي طريقة منتشرة جدا حتى تكاد تكون بفرعيها (الإسماعيلية ثم القاسمية المتفرعة عنها) أكثر الطرق انتشارا في البلاد التونسية اليوم ولها دور هام سوف نذكره.
نسبة للشيخ بلقاسم بالخير، وكما سبق البيان هي متفرعة من الاسماعيلية المدنية، وهي اليوم وفق الإحصائيات أكثر طريقة منتشرة في تونس ولها أكثر من 400 زاوية وما يقارب 250 ألف مريد.
وهنالك طرق أخرى كالطريقة الرحمانية الخلوتية (زاوية سيدي علي بن عيسى بالكاف) والبرهانية الدسوقية نسبة للشيخ إبراهيم الدسوقي) ولها وجود في الجنوب التونسي خاصة (زاوية البرهانية بمدينة بنقردان).
كل هذه الطرق وسواها امتزجت بالقافة التونسية وكان لها عميق الأثر في حياة التونسيين في مختلف الجوانب، ورغم الإهمال الذي طال عديد الزوايا كما سيرد البيان فإن الطرق الصوفية بتونس ركن مهم وأساسي، وكذا الشأن للطرق الصوفية بالمغرب والمشرق العربي والعالم الإسلامي وهي كثيرة ليس هذا سياق تفصيلها.
[1] رجال الأربعين نشروا الطريقة الشاذلية وكانوا من تلاميذ الشيخ الشاذلي وحوصروا معه قبل خروجه من تونس واشتهروا بالولاية والصلاح وأغلبهم معلوم إلى اليوم في مقاماتهم التي حافظ عليها التونسيون ويزورونها باستمرار وتسمى بعض المناطق بأسمائهم ولهم مناقب تخص كلا منهم وهم: أبو الحسن علي الحطاب- محمد القرطبي-ماضي بن سلطان-عبد المغيث الطنجي – عبد الملك الزعزاع- احمد الغرابلي – عمر السبتي-محمد الصمعي – أبو محمد الحبيبي -علي بن مخلوف- محمد الصابوني -عمر الجاسوس- إبراهيم المز وغي – احمد اليمني- إبراهيم الزواوي- محمد الفارسي- محمد الريغي – علي ا لمزاتي – أبو القاسم القرطبي- محمد القطاع- إسماعيل الهنتاتي – تاج الدين الصنهاجي- محمد الجباس- عطية المسروقي- علي القرجاني- عبد الرحمان الصقلي- بوزيان الداودي- سعدون الأسمر – بلقا سم الدباع- محمد الشريف- محمد القوافي- عبد الله القرطبي- محمد التراب – احمد المز وغي – عبد الرحمان السبني – محمد الغماري – سالم التباسي – حسين السيجومي – عبد الوهاب – سفيان الباجي -عبد الرحمان الحلفاوي – ابن خلف المسروقي.