8 دقائق للقراءة
بحث في التاريخ القرآني
عاش الإنسان حقبا كثيرة، وشكل مجتمعات وكون حضارات عديدة، بلغ عدد منها قمة الرقي التقني والقوة العسكرية، والتطور المعماري والعلمي، واندثر بقوة الغيب كأن لم يكن.
ثم فقدت حضارات بعد ذلك الذاكرة وعادت إلى نقطة الصفر لتعيد اكتشاف العالم، أو سقطت في البدائية والنسيان الكلي، أو اقتبست مما سبقها معمارا وثقافة وحولت أخبار تلك الحضارات القوية الأولى إلى ملاحم للآلهة كأنليل وجلجامش وزيوس، وما هي في الحقيقة إلا تعبيرات على ملوك سابقين وقدرات لدى البشر بدت لعين من فقدوها خارقة.
بعد دمار أطلنتس، وهو في اعتقادي منذ عشرين ألف عام من الآن، سقطت الحضارة البشرية في هوة جديدة، لكنها سرعان ما عادت لتأسيس المدن وتطوير المعمار، لتشكل حضارات كثيرة نسيت التطورات التقنية للأطلنطيين ومن سبقهم من الحضارات، ولكن كانت لها أسرار من بعض ما تم الاحتفاظ به خاصة في المعمار، واستخدم بعضها معمار من سبقهم وإن لم يفهموا كامل استخداماته كاستخدام الفراعنة الأهرام مقابر في حين كانت مولدات طاقة ضخمة ولها أسرار أخرى كثيرة على غاية التطور.
إن حضارات مثل الحضارة القفصية وحضارات الهند والصين والمايا والأنكا وسومر وأكد ومصر الفرعونية، تحوي ألغازا عديدة، ولها تطوراتها التي حددت لها من الحضارة العليا المشرفة على العالم البشري، ولها تقييدات كذلك، مع ضربات دقيقة في الأوقات المحددة كلما بلغت حضارة نقطة الزوال بالتفوق والرفاه والطغيان والبعد عن الغاية الوجودية التي تتمثل في عبادة الخالق ونفع الخلق، فكان زوال قوم عاد وثمود وسدوم وعمورية أو قوم لوط وقوم شعيب ثم فرعون وما كان قبله وبعده كبومبي، كان كل ذلك بتدخل علوي مباشر بأسلحة وقوى لا قبل للبشر بها كريح الصرصر والقارعة والصاخة والصيحة وكلها أسماء لأسلحة أو قوى لكائنات عليا، أو يوم الظلة والسجيل في إشارة لتقنيات متطورة جدا أفنت قوم لوط وأصحاب الفيل، والرس من قبلهم.
عندما ظهر النبي إبراهيم شكل ذلك بداية حقبة جديدة تمتد منه إلى تمام تحقق وعد الآخرة.
سيمر هذا بظهور نبيين أخوين حليم وعليم، ثم نبي البشارة التي بعدها، ثم نبي الرؤيا، ونبي النبوءة الأولى ونبي النبوءة الثانية أو نبي بشرى الملائكة، ونبي النبوءة الأخيرة البشرى الكبرى وخاتم البعثات النبوية، ثم الموعود الأخير، ورجوع نبي النبوءة المرفوع.
بشرت الملائكة نبي الله إبراهيم بغلام عليم وغلام حليم، ثم بولد الغلام الثاني ثم بحفيد الغلام الأول، ليولد إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم النبي محمد.
فأما البشارة الأولى فقد كانت بإسماعيل: ﴿فَبَشَّرۡنَـٰهُ بِغُلَـٰمٍ حَلِیمࣲ ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ ١٠٢﴾ [الصافات ١٠١-١٠٢]
وأما الثانية فقد كانت بإسحاق: ﴿قَالُوا۟ لَا تَوۡجَلۡ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِیمࣲ﴾ [الحجر ٥٣]
﴿وَبَشَّرۡنَـٰهُ بِإِسۡحَـٰقَ نَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ [الصافات ١١٢]
واما البشرى التي تليه فمتصلة به أي بيعقوب ابن إسحاق: ﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَاۤىِٕمَةࣱ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَـٰهَا بِإِسۡحَـٰقَ وَمِن وَرَاۤءِ إِسۡحَـٰقَ یَعۡقُوبَ﴾ [هود ٧١]
كان ذلك قبل إزالة قوم لوط ومحوهم كليا.
ومن صلب يعقوب يكون نبي الرؤيا، الذي سينقل ذرية يعقوب إلى مصر ليبدأ التجهيز لنبي النبوءة الأولى.
فنبي الله يوسف هو نبي الرؤيا: ﴿إِذۡ قَالَ یُوسُفُ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی رَأَیۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَیۡتُهُمۡ لِی سَـٰجِدِینَ﴾ [يوسف ٤]
وحفيده موسى هو نبي النبوءة الأولى التي بسببها ثم قتل كل مولود من بني إسرائيل ولد يومها وتم إنقاذه بمعجزة.
﴿وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمِّ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَرۡضِعِیهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَیۡهِ فَأَلۡقِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحۡزَنِیۤۖ إِنَّا رَاۤدُّوهُ إِلَیۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ [القصص ٧]
﴿أَنِ ٱقۡذِفِیهِ فِی ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ فَلۡیُلۡقِهِ ٱلۡیَمُّ بِٱلسَّاحِلِ یَأۡخُذۡهُ عَدُوࣱّ لِّی وَعَدُوࣱّ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَیۡتُ عَلَیۡكَ مَحَبَّةࣰ مِّنِّی وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَیۡنِیۤ﴾ [طه ٣٩]
ثم يكون نبي النبوءة الثانية أو بشرى الملائكة الذي تكون ولادته إعجازية دون والد: ﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ﴾ [آل عمران ٤٥]
وهو الذي سيبشر بنبي النبوءة الأخيرة: ﴿وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ [الصف ٦]
وهذا النبي الخاتم سماه المسيح أحمدا وسماه الله في تجسده الدنيوي محمدا:
وهكذا تتم البعثات النبوية بشكل نهائي فلا نبي بعده، ولكنه يبشر بمن سوف يزيل الظلم وينهي حضارة الطغيان لتنتقل البشرية إلى قفزة نوعية مبشرة بالإنسان الكوني كما لم يسبق لحضارة أن كانت.
وهنا تمام وعد الآخرة على مرحلتين، المرحلة الأولى أن يسكن بنو إسرائيل كامل الكوكب في شتات يدوم آلاف الأعوام أي منذ مرحلة التيه:
﴿وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱسۡكُنُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِیفࣰا﴾ [الإسراء ١٠٤]
والثانية طغيان كامل فإزالة بقوة عليا تنفذها أيدي المختارين مع الموعود الأخير: ﴿إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ لِیَسُـࣳۤـُٔوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَلِیَدۡخُلُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَلِیُتَبِّرُوا۟ مَا عَلَوۡا۟ تَتۡبِیرًا﴾ [الإسراء ٧]
بمعنى أن الحضارات البشرية كلها مرت بمراحل صعود واندثار ونسيان وإعادة اكتشاف لتصل إلى مرحلة ختامية تنطلق مع ظهور النبي إبراهيم ثم تتفرع عبر النسل الإسماعيلي وهم السادة الأوصياء حملة سر النبي الخاتم إلى حين ظهوره، والنسل الإسحاقي وهم السادة الأنبياء ضمن نسيج تتابعي بين يوسف وموسى وعيسى مرورا بتطورات وتسخيرات كبيرة للدولة الداوودية والسليمانية التي كان فيها ملامح من التسخير الذي تم منحه لإدريس أحد مؤسسي أكبر الحضارات البشرية ثم إلياس المشرف على تأسيس حضارة أطلنطس التي خرجت عن شرعه وطغت.
ويتم تأجيل هلاك الحضارة الأخيرة إلى أمة معدودة تجتمع فيها ملامح كل الحضارات التي تم إفناؤها من حضارة نوح إلى قوم لوط وفرعون وما بينهما.
هذا النظر التاريخي الحضاري وفق معطيات القرآن الكريم التي لا ريب فيها ولا باطل يشوبها: ﴿لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ﴾ [فصلت ٤٢].
هو نظر هام لمؤرخ مؤمن بكتاب الله، لباحث انتروبولجيا معتقد في الوحي والتنزيل، لأن المادية العمياء فصلت بين الدين والعلم، وادعت ما لم يكن، وكذبت بكثير مما كان وغطت عليه وحجبته وحاربت من خرج بأدلة موثقة ملموسة عن تطور الحضارات القديمة وعن بؤس التصور المادي التطوري للإنسان وتقسيمه المعتل للتاريخ الحضاري البشري والحقب والعصور الحجرية والبرونزية والحديدية، ومراحل ما قبل التاريخ والإنسان الذي يكتشف النار والذي كان قبل ذلك قردا، وكل ذلك ترهات لا أصل لها وقراءة لحضارة ما بعد زوال اطلنتس وكتم لآلاف الأدلة والبراهين على التطورات السابقة التي بينها القرآن الكريم واصفا أقواما أشد قوة وعلما وأثرا على الأرض ومعمارا.
﴿أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَأَثَارُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَاۤ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ [الروم ٩]
بل جعل الحضارة التي تمتد من النبي إبراهيم إلى خروج الموعود تحت معشار ما كان قبلها: ﴿وَكَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُوا۟ مِعۡشَارَ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ فَكَذَّبُوا۟ رُسُلِیۖ فَكَیۡفَ كَانَ نَكِیرِ﴾ [سبأ ٤٥]
وقوله آتيناهم دليل التدخل الإلهي المباشر للتطوير ثم التدخل المباشر للإزالة الكلية.
الأمة المعدودة: يحوي القرآن الكريم معطيات حضارية دقيقة جدا وقوانين إلهية صارمة تسمى السنن: ﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾ [الفتح ٢٣]
﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾ [الأحزاب ٦٢]
فالأمر بإزالة حضارات البغي التي سماها الله في كتابه العزيز بالقرى أمر إلزامي ضمن موعد محدد وفق حال محدد يمنع عن الذين كفروا ان يؤمنوا وعن الذين أفسدوا وطغوا أن يرجعوا ويصلحوا: ﴿فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡا۟ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [غافر ٨٥]
وهذا مهدد به القوم الذين ظهر فيهم أنبياء المرحلة الأخيرة ضمن موعد محدد: ﴿ٱسۡتِكۡبَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّیِّىِٕۚ وَلَا یَحِیقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّیِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِینَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا﴾ [فاطر ٤٣]
وهم القوم الذين سيشكلون الأمة المعدودة التي يقودها فسدة بني إسرائيل ومن كان في صفهم إلى الزوال: ﴿وَلَىِٕنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰۤ أُمَّةࣲ مَّعۡدُودَةࣲ لَّیَقُولُنَّ مَا یَحۡبِسُهُۥۤۗ أَلَا یَوۡمَ یَأۡتِیهِمۡ لَیۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ [هود ٨]
إن تأخير العذاب يندرج ضمن السنن الإلهية والوعد الذي سيتم حتما، وبين سكن بني إسرائيل الأرض وقدومهم لفيفا، وتحقق الوعد، ثمة حروب كثيرة ومحن عديدة وتطورات حضارية وتقنية مطغية وفساد أخلاقي وخراب كبير، وكل ذلك ضمن أجل وموعد محدد بدقة متناهية لا تقديم ولا تأخير له: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلࣱۖ فَإِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ لَا یَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [الأعراف ٣٤]
﴿وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰۤ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدࣰا﴾ [الكهف ٥٩]
﴿قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی ضَرࣰّا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [يونس ٤٩]
﴿مَّا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ﴾ [الحجر ٥]
﴿مَا تَسۡبِقُ مِنۡ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا یَسۡتَـٔۡخِرُونَ﴾ [المؤمنون ٤٣]
وهذا قد تم على كل الحضارات البشرية ويتم على الأخيرة ثم يكون النسق نحو نهاية النهايات والقيامة الكبرى: ﴿وَإِن مِّن قَرۡیَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۚ كَانَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَسۡطُورࣰا﴾ [الإسراء ٥٨]
وقد أمر الله نبيه بإنذار الحضارة الأخيرة على مستوى العالم من هذا العذاب الذي سيحل لا محالة حاملا زوالا تاما: ﴿وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ یَوۡمَ یَأۡتِیهِمُ ٱلۡعَذَابُ فَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ رَبَّنَاۤ أَخِّرۡنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَلَمۡ تَكُونُوۤا۟ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالࣲ﴾ [إبراهيم ٤٤]
ولئن حملت الآية أيضا معنى عذاب الآخرة. ولكن العذاب يتصل أكثر بما قبلها، حين يتجلى جند السماء ويدرك سكان الأرض أن لا حول لهم ولا قوة: ﴿قُلۡ مَن كَانَ فِی ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلۡیَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰۤ إِذَا رَأَوۡا۟ مَا یُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَیَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضۡعَفُ جُندࣰا﴾ [مريم ٧٥]
بل ويعلمون أن عددهم الذي زاد طغيانهم عدد قليل، وأن ما يدعون الانتصار به من أسلحة وتفوق تقني لا يغني عنهم كما لم يغن ما كان عند من سبقهم وكانوا أشد قوة وأكثر عددا: ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا رَأَوۡا۟ مَا یُوعَدُونَ فَسَیَعۡلَمُونَ مَنۡ أَضۡعَفُ نَاصِرࣰا وَأَقَلُّ عَدَدࣰا﴾ [الجن ٢٤]
ويكون في ذلك تجل للجيوش السماوية بشكل كامل وساحق ومخيف:
﴿یَوۡمَ یَرَوۡنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ لَا بُشۡرَىٰ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡمُجۡرِمِینَ وَیَقُولُونَ حِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا﴾ [الفرقان ٢٢]
وهنا عن تمام وعد الآخرة أو يوم الدينونة، وعن الساعة والحشر أيضا.
وترد الإشارات القرآنية بتحققات الوعد وبظهور قوى عظمى في الوقت الموعود للأمة المعدودة التي تشمل كامل البشرية، كقوله سبحانه:
﴿إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَـٰقُهُمۡ لَهَا خَـٰضِعِینَ﴾ [الشعراء ٤]
ضمن نسق تطويري للعلم البشري عبر ظهور آيات الآفاق والأنفس وهو ما تم بالمرصد والمجهر: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [فصلت ٥٣]
إن زوال حضارة الطغيان الأخيرة التي ستحمل كل شرور من سبق أمر حتمي، دونه بلاء يحتاج صبرا وعزما، وهو بلاغ من الله لا شك فيه: ﴿فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ لَمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا سَاعَةࣰ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَـٰغࣱۚ فَهَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ﴾ [الأحقاف ٣٥]
وهنالك معطيات يمكن استخدامه لفهم قرب تنفيذ العقاب ونزول العذاب، من بينها: ﴿وَإِذَاۤ أَرَدۡنَاۤ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡیَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِیرࣰا﴾ [الإسراء ١٦]
هذه خلاصة وجب النظر فيها، ثم إسقاطها على التاريخ البشري، والنظر من خلالها للمستقبل القريب، وتحليل معطيات الراهن الذي ظهرت فيه شرور الأمم السابقة وفسادها بجميع نماذجه.
وليس هذا من باب التوهم أو التواكل، بل من باب اليقين الدافع نحو مزيد الوعي والعمل.
وعندما نحلل المجتمع البشري اليوم وحاله الحضاري، نراه يسارع نحو زواله، مخربا الكوكب الذي يعيش عليه، مبيدا للكائنات على سطحه، مفسدا في البر والبحر، مستخدما كل التطورات التقنية لبث الفساد والقتل والدمار والتخريب الممنهج.
ويا له من نسق عجيب ويا لها من سنة إلهية عظيمة حين نرى تكرر الناموس نفسه، فما أشبه طغيان حضارة اليوم ونداءها أنها الأكثر تفوقا وقوة ونفيها لكل تطور حضاري قبلها بما كان من شأن قوم عاد، والمصير واحد والعقاب واحد بل هو أشد: ﴿فَأَمَّا عَادࣱ فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَقَالُوا۟ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَهُمۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ﴾ [فصلت ١٥]
ولهذا المبحث تتمة في كلامنا عن نظرية الإنسان الكوني….
24 ماي 2024