6 دقائق للقراءة
*نشرت في كتاب التصوف في المغرب العربي وأفريقيا
إن البحث في معنى التصوف وحقيقة الصوفي أمر مهم من حيث الصيغة المعرفية وكذلك من حيث تطبيقاتها الواقعية وآثارها على الحياة والناس وعلى المؤمن ومحيطه ومجتمعه والصوفي وفعله وأثره، وهذه مقاربة في ذلك:
معنى بالتصوف: لغة: تجد في المعاني تعريفات للتصوف تكاد تكون واحدة:
معجم المعاني: التَّصوُّفُ : طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلي بالفضائل ، لتَزْكُوَ النفسُ وتسموَ الروح
علم التَّصوُّف : ( الفلسفة والتصوُّف ) مجموعة المبادئ التي يعتقدها المتصوِّفةُ والآداب التي يتأدّبون بها في مجتمعاتهم وخلواتهم.
المعجم الوسيط
2 – ( الفلسفة والتصوُّف ) طريقة في السّلوك تعتمد على التقشُّف ومحاسبة النفس ، والانصراف عن كلّ ما له علاقة بالجسد والتَّحلِّي بالفضائل ؛ تزكية للنَّفس وسعيًا إلى مرتبة الفناء في الله تعالى إيمانًا بالمعرفة المباشرة أو بالحقيقة الرُّوحيّة .
• علم التَّصوُّف : ( الفلسفة والتصوُّف ) مجموعة المبادئ التي يعتقدها المتصوِّفةُ والآداب التي يتأدّبون بها في مجتمعاتهم وخلواتهم .
المعجم: الرائد
1 – مصدر تصوف . 2 – مذهب ديني أخلاقي فلسفي يقوم على الزهد في الدنيا والانصراف إلى الروح ، ويعتمد على التأمل والتعبد والتقشف وما إليها من الرياضات النفسية والروحية للوصول إلى الغاية البعيدة ، ألا وهي الاتصال بالذات الإلهية والفناء فيها.
وهذه الشواهد من المعاجم تبين أن تعريف اللغويين للتصوف هو تعريف بالحال أو بالمبادئ العامة أو بصفة المنتسبين للتصوف، وليست تعريفات للتصوف نفسه. أو هي تعرّف جانبا وتُغفل جوانب كثيرة، كالقول أن التصوف هو (طريقة في السّلوك تعتمد على التقشُّف ومحاسبة النفس ، والانصراف عن كلّ ما له علاقة بالجسد)، فهذا الانصراف الكلي عن الجسد والمبالغة في الزهد ولئن ظهر مع أقوام انتسبوا للتصوف هو ليس عين التصوف وحقيقته وجوهره، لأن للصوفي أسوة بسيد أهل التصوف والصفاء وإمام الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن مغرقا في الروحية ونهى من ترك النساء ومن صام كل أيامه وقال أنه يصوم ويفطر ويأتي النساء وهو سيد الناس كلهم وأتقاهم، بل قال في مقام آخر أنه زيّن له من الدنيا العطر والنساء وجعلت قرة عينه الصلاة. والعطر مما يحبب في الحياة ومن عبقها وأريجها وجمالها، والنساء هن عبق الحياة وأريجها وجمالها. ورسول الله إمام أهل الإحسان وسيد المقامات الربانية كلها، ولا تعارض مطلقا بل هو التكامل وهي الربانية الحق.
والتركيز على جانب من التصوف وسجن التصوف كله فيه أو إضفاء صفات أخرى منحولة للتصوف أمر شائع ذائع في كتب كثيرة كتبها من ادعوا نسبة بالتصوف فبالغوا في قصص الزهد والقطيعة الكلية مع الدنيا، وهو حال ظهر خاصة في العهد العباسي كردة فعل على ظهور نماذج من الترف كبيرة كما يذهب إلى ذلك بعض الكتاب والدارسين، ونفس الكلام المعياري الضيق نجده في نظرة المستشرقين للتصوف مثلا، فيركزون على التصوف الفلسفي وعلى شخصيات صوفية أو متصوفة أو منسوبة للتصوف حقا أو باطلا، كتركيزهم مثلا على الحلاج، وعلى قضايا يختارونها كالحلول وما شابهه، في حين يتركون جوانب أهم وأدق وأدل على التصوف الحقيقي، إلا بعض المنصفين منهم.
اصطلاحا: يتعلق التصوف اصطلاحيا بمصطلحات أربعة مهمة في اعتقادي:
أ/ صُفّة: يرمز أهل الصُّفَّة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للمساكين والفقراء، ولكنهم يرمزون أيضا للصالحين الذين تركوا الدنيا ومتاعها، وينسب الصوفية من كثير من الباحثين إلى أهل الصفة، أهل الزهد في الدنيا والفقر إلى الله.
ب/صوف: ينسب آخرون التصوف إلى الصوف، دلالة على التقشف والزهد أيضا، فأهل التصوف هم أهل تقشف يلبسون الصوف ويأكلون الحلال ويعتزلون الناس.
ج/صفاء: يكاد يجمع أهل التصوف على أن طريقهم وطريقتهم طريق صفاء وطريقة صفاء، فالتصوف عندهم هو صفاء القلب والنفس، وسموّها في مراتب الإيمان ومقامات العرفان لتبلغ بالتزكية مقام الإحسان.
وهذا الصفاء يكون نتيجة مكابدة ورياضة روحية ونفسية، ونتيجة عمل كبير على تزكية النفس لنيل الفلاح الدينيوي والأخروي، ويكون عملا مستمرا لتنقية النفس من الشوائب وتطهير القلب من الأدران والأحقاد وبلوغ مراتب عالية في الاستقامة والخشوع والمحبة لله وفي الله. إن الصفاء هو بحق تاج التصوف الفعلي ومنهجه التربوي والروحي.
صفوة: يعكس هذا المصطلح وجهة نظري في مسألة التصوف، لأن التصوف ليس فقط صفاء، وليس قطعا مجرد المسكنة والفقر كأهل الصفة، ولا الزهد ولبس الصوف وترك الناس والخلوة، ولئن كان بعض ذلك ضروريا في مرحلة الإعداد للجلوة، لأن الخلوة ليست نهاية أو منتهى، بل هي بداية فقط، ففي الخلوة والاعتكاف للتعبد، وفي القناعة والزهد والاستغناء عن الدنيا، يبلغ المريد السالك مراتب الواصلين: فيكون الفقير لربه والغني بربه، ويكون له من الصفاء ما يشع على نفسه سكينة وعلى قلبه طمأنينة، لكنه إن مكث في ذلك المقام لن ينال الاحسان أبدا، لأن الإحسان على بابين: باب مع الله وباب مع خلق الله، فمن بلغ الإحسان أحَسَنَ: “وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77)”
وهنا يكون باب لقول الأحسن وفعل الأحسن والدعوة للحسنى والجدال بالتي هي أحسن، كما سنورد في كلامنا عن مقام الإحسان، وهو بذلك يكون في جلوة الفعل بعد خلوة التفعيل، ففي الخلوة تم تفعيل قدراته الروحية والعقلية بعد التهذيب والتزكية والتربية والصقل والتطوير، أما الفعل فهو مجتمعي بالأساس وهو في عالم الناس ووسط والناس، تأثيرا وإصلاحا ودعوة، إنه الكون في الإطار الرباني الذي دعا لأن تقوم به صفوة من عباده، أمة مخصوصة شرفها الله بذلك بعد أن أعدها لذلك: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)”
فأهل التصوف الحق هم صفوة سلكوا طريقهم إلى الله وفنوا فيه وأخذوا الناس معهم إلى الله تربية وتوجيها وتقويما، وهذا لا يكون لمن يعتزل الناس ويتركهم، وهنا باب لمدرسة عظيمة من مدارس التصوف في جمالها وحقيقتها تمظهرت وتجلّت مع الشيخ المربي العارف بالله سيدي أبو الحسن الشاذلي الذي كان يلبس أحسن الثياب وجاءه مرة متصوف يلبس ثيابا رثة والشيخ يدرّس في حلة بهية سنية فقال له: أتلبس هذا يا شيخ؟ فأجابه: “لباسك يقول للناس أنا فقير إليكم، ولباسي يقول لهم أنا غني عنكم”. وبهذا الفهم يكون الصوفي من بلغ مرتبة الصفوة من المؤمنين المصلحين العابدين لله والنافعين لخلق الله رحمة ومحبة وتربية وإصلاحا، وهم دائما قلة في كل زمان ومكان كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز فمنهم السابقون:”وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14)”
ومنهم أصحاب اليمين: ” لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40)”
جوهر التصوف: ليس من باب الإنشاء بل هو من باب الخبر اليقين أن نقول مطمئنين أن التصوف هو جوهر هذا الدين: جوهر رحماني رباني، محمدي قرآني، يقيني إيماني، ذوقي عرفاني، وأخلاقي إحساني. إنه الذوق الذي تسمو به الروح ويطيب به المعنى ويدرك به الكنه، وهو الإحسان الذي يصل به المؤمن إلى ذروة اليقين، فيعبد الله كأنه يراه. والتصوف رحمة وحب لله وفي الله وبالله، ومن خلا قلبه من ذلك فلا خير فيه ولو حفظ المتون وسأله الناس الفتوى، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلّم الخوارج وقال: تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وتلاوتكم إلى تلاوتهم، ثم قال: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة. لأن قلوبهم خلت من الرحمة والحب والنور الرباني والشعاع النوراني المحمدي.
و الصوفي الحق من صفا قلبه لربّه، واطمأن لحبه، وأنس بقربه.
الصوفي الحق من تجلى عليه الله بجماله، وأمّنه من جلاله، ومتعه بكماله، وأغناه بوصاله، وأعطاه من نواله، وصدّق حقيقة حاله.
الصوفي من أسرت الروح وأسرى لها، من نادى الله من يأخذ مني هذه الولاية والعناية فكان لها.
من سرى في الناس مؤمنا داعيا للخير، وسلّم لله في حال الرخاء وحال الضيم والضير. وتوكّل على ربّه توكّل الطير، تروح خماصا وتغدو بطانا. الصوفي من شرب من حوض الرحمة فكانَ، وعاهد ربّه فصان، واطمأن بربّه واستكانَ.
الصوفي من تجلى فيه الجمال المحمدي الرحماني، والحسن الروحي الرباني، والخلق النبوي القرآني.
وأهل التصوف الحق هم أهل الله وخاصّته، سقاهم من خمور قدسه، وأجلسهم في مجالس أنسهم، ومتّعهم بالنّظرة، ولقّاهم النُّضرة، وأقامهم سادة للحضرة.
وليس الصوفي من هجر الناس، أو جعل تصوّفه في منخرق اللباس، أو حملته الظنون وركبه الوسواس، وادعى ما ليس له به علم وافترى بغير هداية وغير قياس.
ولا التصوف شطح وغياب، وتشدّق بغير علم وغير صواب، ومخالفة للسنة والكتاب، وخروج عن الشرع بدعوى كشف الحجاب.
إن كل ذلك من فعل الخناس، والمنخدعين به أو المخادعين للناس.
التصوف رفعة راية، وتحقيق غاية، وتحقق آية: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)”